منذ أن أطلق ألفريد نوبل وصيته في نهاية القرن التاسع عشر، أصبحت جائزة نوبل مرادفا لأعلى مراتب التقدير العلمي والإنساني في العالم. ولدت الفكرة من إحساس عميق بالمسؤولية تجاه البشرية، إذ أراد مخترع الديناميت أن يكفر عن أثر اختراعه المدمر بجائزة تخلد من يسعون إلى خدمة الإنسان عبر العلم والسلام والأدب. ومنذ عام 1901، عندما منحت الجائزة للمرة الأولى، أصبحت نوبل رمزا عالميا للعبقرية والإبداع، ومقياسا للجهود التي تحدث فرقا حقيقيا في فهمنا للعالم وفي تحسين حياتنا اليومية.
في كل عام، تتجه الأنظار إلى ستوكهولم وأوسلو حيث تعلن أسماء الفائزين في مجالات الطب، والفيزياء، والكيمياء، والأدب، والسلام، والاقتصاد. لكن ما يميز جائزة نوبل في الطب أو علم وظائف الأعضاء، أنها تتجاوز حدود المختبر لتلامس حياة البشر مباشرة. فهي لا تكرم مجرد اكتشاف علمي جديد، بل تحتفي بما يحدثه هذا الاكتشاف من تحول في فهم طبيعة الجسد الإنساني أو في طرق علاجه من الأمراض التي لطالما استعصت على الأطباء.
وقد شهد تاريخ الجائزة سلسلة من اللحظات التي أعادت تشكيل الطب الحديث، من اكتشاف البنسلين والأنسولين، إلى تحديد بنية الحمض النووي، وصولا إلى الثورات المعاصرة في علم المناعة وعلاج السرطان. وبينما تتغير أدوات العلم ومناهجه، تبقى الجائزة وفية لروح نوبل الأصلية، ألا وهي مكافأة أولئك الذين حولوا المعرفة إلى أمل، والتجربة إلى علاج، والفكرة إلى حياة.
وفي عام 2025، أضافت لجنة نوبل فصلا جديدا في هذا التاريخ الممتد، حين منحت الجائزة في الطب لثلاثة علماء ساهموا في كشف أسرار "التسامح المناعي المحيطي" — الآلية التي تضمن بقاء جهاز المناعة في حالة توازن دقيق بين الدفاع عن الجسم ومنع تدمير أنسجته الذاتية. كان هذا الاكتشاف ثمرة عقود من البحث والتجريب، ويمثل تحولا جذريا في فهم الطب لأصل الأمراض المناعية الذاتية.
جاء الاكتشاف الذي استحق عليه كل من فريد رامزدل وشيمون ساكاجوتشي وماري برونكاو جائزة نوبل في الطب لعام 2025 تتويجا لعقود من البحث في أحد أكثر ألغاز جهاز المناعة تعقيدا: فكيف ينجح هذا النظام في الدفاع عن الجسم ضد الفيروسات والبكتيريا والخلايا السرطانية، دون أن ينقلب على نفسه ويدمر خلاياه؟ السؤال الذي بدا بسيطا في ظاهره، كان في الواقع مفتاحا لفهم الأمراض المناعية الذاتية التي تصيب ملايين البشر حول العالم، مثل السكري من النوع الأول، والتصلب المتعدد، والذئبة الحمراء، والتهاب المفاصل الروماتويدي.
بدايات مبكرة
البدايات الأولى لفهم التحمل المناعي تعود إلى عام 1945، حين لاحظ الباحث الأميركي راي أوين أن العجول التوائم التي تتشارك الدورة الدموية الجنينية لا تهاجم خلايا بعضها البعض بعد الولادة، مما أشار إلى إمكان تعلّم المناعة مبكرا ما يجب أن تهاجمه وما يجب أن تتسامح معه. ثم جاء العالم الأوسترالي فرانك ماكفارلين برنت ليتبنى هذا المفهوم ويطوره في نظريته عن "التحمل المكتسب"، التي أكدها لاحقا بيتر ميدور في تجاربه على زرع الجلد في الفئران، وهي الأعمال التي نالا عنها جائزة نوبل عام 1960.