أشرف العشماوي لـ"المجلة": الرواية دون خيال مقال طويلhttps://www.majalla.com/node/327723/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D8%A3%D8%B4%D8%B1%D9%81-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B4%D9%85%D8%A7%D9%88%D9%8A-%D9%84%D9%80%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AC%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D9%88%D8%A7%D9%8A%D8%A9-%D8%AF%D9%88%D9%86-%D8%AE%D9%8A%D8%A7%D9%84-%D9%85%D9%82%D8%A7%D9%84-%D8%B7%D9%88%D9%8A%D9%84
في عالم يمزج بين القانون والسرد، ينساب قلم الروائي المصري أشرف العشماوي ليصوغ حكايات تعكس عمق التجربة الإنسانية وتناقضاتها. هو روائي يعرف كيف يحول تفاصيل الواقع إلى نصوص نابضة بالحياة، وكيف يوازن بين صرامة القاضي وخيال الكاتب.
أعماله الروائية تحمل بصمة خاصة تجمع بين البحث والدقة والسرد الإبداعي الآسر، ومنذ إصداره الأول، خط لنفسه مكانة خاصة بين كتاب جيله.
أصدر العشماوي وهو قاض مصري بمحكمة الاستئناف، من مواليد عام 1966، روايات عدة منها "زمن الضباع"، "تويا"، "المرشد"، "البارمان" و"كلاب الراعي"، كما أصدر كتابا وثائقيا عن سرقات الآثار المصرية وتهريبها ومحاولات استردادها بعنوان "سرقات مشروعة". في هذا الحوار، نتوقف معه عند محطات الكتابة والإبداع، وعند رؤيته للواقع الأدبي المصري.
بداية، من مد لك يد الحكاية، ومن أغواك بنسجها؟
الكتابة الروائية بدأت كهواية ولا تزال، لكنها ليست تسلية عابرة بقدر ما أنها تكشف ما في داخلي وما احتاج لإخراجه إلى الآخرين. قد لا تكون مهنة لكنها فعل حرية، مساحة رحبة للبوح والتجريب بعيدا من قيود مهنتي. الكتابة في ظني تترك أثرا يذكرنا بأننا لم نمر في الحياة صامتين، هي أيضا فن لصوغ المعاني وسط فوضى الحياة وعبثيتها المفرطة.
الرواية شاملة لأنها وحدها تحتمل كل الفنون في نسيجها دون خلل، وهي قادرة على جعل القارئ يعيش حيوات كاملة متباينة لا يقدر عليها في واقعه
لا أكتب الى أحد بعينه، بقدر ما لدي قلق وأسئلة أطرحها في كل عمل على قارئ مجهول، وأتمنى أن يصل إليه المعنى، كل ما أرجوه أن يستمر إيماني بهذا الوهم الذي تمنحني إياه الكتابة وهو الخلود، حتى يصبح النص كل مرة أكثر صدقا وحياة من لحظته الراهنة وأبقى من زمنه.
فن التفاصيل
لماذا اخترت الرواية دون غيرها من الفنون؟
لا شك في أن الرواية حياة، وهي لعبة يمارسها الروائي بحماسة طفل وجدية خبير. الرواية شاملة لأنها وحدها تحتمل كل الفنون في نسيجها دون خلل، فهي تضم المسرح والشعر والفلسفة والفن التشكيلي في آن واحد، وهي قادرة على جعل القارئ يعيش حيوات كاملة متباينة لا يقدر عليها في واقعه، ربما هي الفن الوحيد الذي يفسح مجالا واسعا للتفاصيل الصغيرة، الرواية تشبه حياتنا اليومية أكثر من أي فن آخر، ربما السينما قريبة لكنها لا تقارب الرواية حتى الآن.
أشرف العشماوي
ضمت رواية "مواليد حديقة الحيوان" ثلاث روايات قصيرة، يربط بينها خيط سردى شفاف عن أحلام عادية وآمال مشروعة وطموحات مقبولة لأبطالها، لكنهم يتورطون فى مواقف تفوق طاقة كل منهم، فما الحد الفاصل بين الواقع والخيال في هذه الرواية؟
صعب جدا في أي عمل روائي تحديد الحد الفاصل بين الواقع والخيال، لأن كل عمل روائي حقيقي متكامل يعتمد من البداية على الانتقاء والخيال، بمعنى أنني أختار جانبا معينا من الواقع ثم أدعمه بالتخييل، وبالتالي تتماهى الحدود ومن الصعب فصلها، حتى أنني بعد كتابة أول مسودة أشعر أن العمل متخيل بالكامل ولا علاقة له بحادث صغير في الواقع استلهمت منه الفكرة.
في رواية "الجمعية السرية للمواطنيين"، نتعرف إلى شخصية معتوق الرفاعي، الفنان المضطهد، ما الذي أردت قوله في الرواية؟
صعب أن يقول أي فنان ما الذي يقصده من عمله لأن جزءا من متعة أي فن هو رد فعل المتلقي، بمعنى أن يتلقى الفنان ردود أفعال متباينة فترضيه لأنها ببساطة أوصلت الفكرة بصور متعددة لشريحة كبيرة، لكن لو حدد الكاتب رؤيته من البداية أو قالها، فكل قارئ سيظن أنه لم يكن على صواب وأنه فهم العمل بصورة خاطئة وهذا غير صحيح لأن الفن حمال وجوه كثيرة.
غلاف رواية "سيدة الزمالك"
أهل الهامش
يلاحظ أن معظم شخصيات رواياتك تأتي من الهامش، لماذا التركيز على هذه الشخصيات؟
المهمشون يشغلون بالي طوال الوقت، هم الغالبية، الضحايا، حياتهم درامية والمجتمع توحش وبات يعيش في فقاعات لا يدري عنهم شيئا مع أننا نراهم كل يوم، وفي ظني أن المطلوب من الأدب تشخيص الواقع وطرح الأسئلة، أما الحلول فتخص الصحافي كاتب المقال والسياسي التنفيذي أو الحزبي والباحث الاجتماعي.
المطلوب من الأدب تشخيص الواقع وطرح الأسئلة، أما الحلول فتخص الصحافي كاتب المقال والسياسي التنفيذي أو الحزبي والباحث الاجتماعي
الروائي شخص متحرر من كل القيود، قد يضع عدسة مكبرة للغاية على مشكلة لأن الفن يحتم ذلك، لا شأن له بحلول بقدر ما تؤرقه المشكلة التي وقعت بالفعل، الفكرة التي شغلته ولا تزال، الرواية تحتمل أكثر من رأي، بعضها غالبا يتناقض مع آخرين، هي ليست دليلا لحل مشاكل بقدر ما هي كالتالوغ لعرضها.
غلاف رواية "صالة أورفانيللي"
قارئ روايتك "صالة أورفانيللي" يجدها تطرح العديد من الأسئلة والقضايا المثيرة حول ثورة يوليو 1952، فلماذا هذه الفترة تحديدا؟
ثورة يوليو غيرت النسيج الإجتماعي المصري وبدلت واقعا بواقع جديد مغاير تماما لما قبله، نقطة تحول فارقة في تاريخنا الحديث بما لها وبما عليها، وبالتالي لا بد أن أنشغل بها.
هي أيضا فترة درامية للغاية تخرج منها روايات عظيمة لمن أراد، لكن "صالة أورفانيللي" كانت في اتجاه مغاير، لم أقصد محاكمة ثورة يوليو بها، فقط تعرضت لواقعة بيع مقتنيات الملك بسعر بخس، وهذا في إطار السياق الدرامي. "صالة أورفانيللي" تقوم على ثيمة مفادها أن الحياة تشبه المزاد في كل شيء، ومن هنا انطلقت. لكن العودة الى التاريخ بسبب أن اليهود المصريين كانوا يسيطرون على صالات المزادات حتى عام 1956، وبالتالي كنت مضطرا إلى معالجة الجانب التاريخي.
الرواية التاريخية
يصف بعض النقاد الرواية التاريخية بأنها سرد للتاريخ ليس به أي إبداع، هل توافقهم على ذلك؟
الرواية التاريخية في صورتها الكلاسيكية هي التي كتبها محمد فريد أبو حديد ومحمد سعيد العريان وفي ما عدا ذلك محاولات من بعض الكتاب للتقليد او كتابة تاريخ بحت، لكن هناك عظماء كتبوا روايات تاريخية بأسلوب فني بديع ودراية عظيمة بفن الرواية مثل صنع الله إبراهيم ونجيب محفوظ وإبراهيم عبد المجيد وبهاء طاهر والمنسي قنديل وغيرهم، لكن أن تكتب التاريخ كما وقع مثلما نرى من بعض الكتاب المعاصرين الآن، فهذا في رأيي ليس فنا روائيا على الإطلاق، هو أقرب الى الأفلام التسجيلية، التي تقوم على تجميع المادة التاريخية وعرض النادر منها وتدقيق المعلومة. لكن الرواية ليست كذلك، فالرواية إذا لم تكن متخيلة صارت مقالا طويلا أو فصلا من كتاب التاريخ المدرسي. لا بد أن يكون التاريخ دوما في الخلفية والشخصيات المتخيلة أو حتى الحقيقية تتحرك بحرية، وكأن ما يكتبه الروائي هو التاريخ ذاته، هو الواقع، لأنها رؤيته للعالم ورؤيته للتاريخ وتحليله الفني عبر رواية هذه الوقائع، كل ما عدا ذلك لا يعد فنا روائيا.
إلى أي حد يشكل التاريخ العربي، بثقله التاريخي، مصدرا مهما في فعل الكتابة لديك؟
التاريخ عموما، بما في ذلك العربي، مصدر لا ينضب لأي روائي، هو ذاكرة حية للأمجاد والانكسارات ومرآة نرى فيها طبائع السلطة وأوهام المجتمعات وصراعات الهوية ويوميات المواطنين وحكاياتهم الملهمة. استدعاء التاريخ في الأدب ليس بحثا عن وثيقة للتدليل، بل محاولة لإعادة التأويل والقراءة بنظارة روائية خاصة بكل كاتب، محاولة لخلخلة المفاهيم البالية كي تتراجع الرواية الرسمية ولا يتبقى سوى الحقيقة قدر الممكن. التاريخ في ظني فضاء مفتوح روائيا نعيد فيه طرح أسئلتنا المعاصرة.
غلاف الترجمة الإنكليزية لرواية "بيت القبطية"
ولع بالمكان
أنت مولع بالمكان وكل ما يمت له بصلة، فماذا عن أهمية المكان في نصوصك الروائية؟
في ظني أن المكان يمكن أن يكون بطلا من أبطال أي نص أدبي، يمكن أن تمارس حيلا سردية كثيرة من خلال المكان في الرواية، وقد استعملت المكان في رواية "البارمان"، ورواية "صالة أورفانيللي"، ورواية "بيت القبطية" وأخيرا في "مواليد حديقة الحيوان" وكل مرة كانت الدلالة مختلفة، فأنا لا أحب تكرار أي ثيمة في رواياتي.
استدعاء التاريخ في الأدب ليس بحثا عن وثيقة للتدليل بل محاولة لإعادة التأويل وخلخلة المفاهيم البالية كي تتراجع الرواية الرسمية ولا يتبقى سوى الحقيقةاستدعاء التاريخ في الأدب ليس بحثا عن وثيقة للتدليل بل محاولة لإعادة التأويل وخلخلة المفاهيم البالية كي تتراجع الرواية الرسمية ولا يتبقى سوى الحقيقة
على المستوى الشخصي، أغتبط بالأماكن لكن وحدها لا تكفي، فالأشخاص والذكريات هي ما تكسوها لحما بعدما كانت عظاما فقط، هي التي تدب فيها الروح والحياة لتعيش في ذاكرتنا. باختصار، المكان في الأدب الروائي ليس إطارا محايدا أصم للأحداث، إنما كائن حي يشارك في تشكيل وعي الشخصيات الروائية وثقافتها، وهو يتحكم بقدر معين في مسار الحكاية ويمنحها روحها وملامحها الخاصة.
كيف علينا أن نقرأ الرواية؟ على أنها كتاب مفتوح على أفكار الكاتب وقناعاته الأكثر حميمية، أم أنها عرض لأفكار ورؤى يتهامس بها الناس أو يجهرون بها، والروائي لا يفعل غير التقاطها بعدسته؟
في العموم، يصعب وضع قواعد للقراءة ،لكن في ظني أن علينا قراءة الرواية بصورة مزدوجة، فهي من جهة مفتوحة على رؤى الكاتب وفلسفته ونظرته للحياة وهي دافعه الأول للكتابة، ومن جهة أخرى هي مرآة للمجتمع الذي يكتب عنه ويتهامس فيه الناس بأفكارهم وهواجسهم. الرواية عموما ليست اعترافا ذاتيا خالصا ولا تسجيلا حرفيا للحياة اليومية، هي أقرب أن تكون أرض فضاء أو مساحة رحبة يتداخل فيها العام مع الخاص والفردي مع الجماعي بحيث يتعذر فصل صوت الروائي عن أصوات البشر، لتخلق لنا الرواية صوتا خاصا بأبطالها كل مرة.
غلاف الترجمة الانكليزية لرواية "سيدة الزمالك"
بعد الرواية الأولى
أصدرت 11 رواية حقق بعضها جوائز أدبية، وترجمت بعض أعمالك، عندما تكبر التجربة الروائية وتتراكم، هل تصبح الكتابة أصعب؟
مع كل عمل تصبح الرواية التالية أصعب من التي قبلها. في البداية كان لدي ما أسميه جرأة الجهل، لا أعرف قارئي ولا أهتم بالمردود، كل ما كان يشغلني وقتها أن انشر وأرى اسمي على غلاف كتاب، ثم بعد الرواية الثانية شعرت بالخوف من القارئ العربي لأنه باختصار غول، وإذا ما قرأ بعناية صار ناقدا قاسيا. حتى الآن كلما انتهيت من عمل وشرعت في آخر، أجد الورقة بيضاء أمامي ولا أستطيع لأيام طويلة كتابة جملة، وإذا ما كتبت أشعر أن ما اكتبه سيء للغاية. مع الوقت أشعر أن ثقتي تقول عكس ما توقعت وأنني لا بد أن أدهش القارئ أكثر وأقدم له ما يحترم عقله ووقته الذي منحني إياه بشراء كتابي وقراءته. التراكم يمنحني خبرة كبيرة لكن المسؤلية تكبر مع كل عمل، حتى أنني أحيانا أقول لنفسي من الأفضل أن يتوقف الكاتب عند اللحظة التي يدرك فيها أنه لا يقدم جديدا حتى لا يفقد شعبيته لدى قرائه.
هل ترى أن جائزة نوبل العالمية للآداب من الممكن أن يتوج بها كاتب عربي مرة أخرى بعد نجيب محفوظ؟
كنت أشارك في معرض أربيل للكتاب بالعراق منذ شهرين ودار حوار بيني وبين الكاتب الكبير محمد سلماوي عن هذا الأمر بالتحديد وكان رأيه مع كتاب آخرين من دول عربية شاركوه الرأي أن الغرب منحنا نوبل لمحفوظ لاعتبارات تاريخية ولن يتكرر منحها لكاتب عربي مرة ثانية، لكن لدي رأي مخالف، ليس فقط من الممكن منحها لكاتب عربي بل الحقيقة أن الكثير من الكتاب العرب والمصريين اليوم يستحقون نوبل عن جدارة، تأمل فقط لائحة الفوز وأسماء الفائزين في السنوات العشر الأخير لتدرك أن لدينا ما يفوق كل هذه الأسماء مجتمعين ببراعة وقدرة ومهارة في الكتابة الروائية، نحن أصل الحكاية وأظن أننا نستحقها مرات لا مرة واحدة.
هل استطاع المثقفون تحريك الراكد في المشهد الثقافي؟ وهل انتصرت الثقافة في أي معركة من معارك الحياة؟
تصعب الإجابة بنعم أو لا على هذا السؤال، ربما الأمر يحتاج الى ورقة بحثية، لكن في ظني أن في مصر والعالم العربي كان المثقفون غالب الوقت شهودا أكثر منهم صناعا للحدث، ربما بسبب الأنظمة الشمولية وسطوة الحكام العرب في تاريخنا المعاصر.
هناك أزمة عميقة تتمثل في تكرار الثيمات لدى كتاب كثيرين مع ضعف النقد الأدبي الحقيقي أو ربما غيابه وهيمنة السوق التجاري
لكن لا يمكننا إغفال انتصارات قوية مثل كتابات طه حسين حين كسرت سطوة الجمود الفكري وحرضت على التفكير، ولا يمكننا إغفال موقف صنع الله إبراهيم الذي رفض جائزة الرواية، ولا دور مقالات الثائر الحقيقي يوسف إدريس في تغيير واقعه المجتمعي وتنبيه الناس الى خطورة ما هم مقبلون عليه. هناك معارك صغيرة كسبها المثقفون، لكن الحرب ستظل دائرة طالما هم إلى يسار السلطة.
كيف ترى المشهد الثقافي والأدبي في مصر حاليا؟
أراه بصورة مزدوجة، عبثي كغالبية أحوالنا، لكنه مبشر ببصيص من الأمل، هناك حيوية في تزايد الإصدارات ومنصات التواصل الرقمية التي منحت الكتاب الشباب فرصة للظهور، هناك أقلام شابة واعدة للغاية وسيحتلون الصف الأول قريبا جدا ويكسرون احتكار الأسماء الكبيرة وهم يستحقون بصراحة، لكن هناك أزمة عميقة تتمثل في تكرار الثيمات لدى كتاب كثيرين مع ضعف النقد الأدبي الحقيقي أو ربما غيابه وهيمنة السوق التجاري على الذائقة، استطيع أن أصف المشهد بأنه متحرك لكنه مضطرب، يحمل بذور تجديد لكنه يفتقر لمؤسسة ثقافية قادرة على تحويل هذا الحراك لمشروع مستدام.
ما مشروعك المقبل؟
أعكف منذ أكثر من عام على كتابة رواية نفسية تدور حول مأساة بطلها الذي يمارس مهنا مختلفة ويخرج كل مرة محملا بذنوب، كلما حاول التطهر منها يزداد الدنس، ولا أعرف متى سأنتهي منها لكن أتوقع أن تظهر خلال العام المقبل.