طه حسين رائدا لفن القصة القصيرة العربية قبل مئة عام

أوجه الحب والتجريب في مجموعته "الحب الضائع"

طه حسين

طه حسين رائدا لفن القصة القصيرة العربية قبل مئة عام

يشير الناقد الراحل حسين نصار في دراسة نشرتها مجلة "القصة" المصرية عام 1964 إلى أن طه حسين رغم أنه عرف كمفكر وناقد أدبي، وقدم للمكتبة العربية العديد من الأعمال الفكرية والتاريخية، إلا أن فن القصة لديه كان له مرتبة عظمى، وقد سعى من خلال كتابتها إلى ارتياد آفاق مختلفة في الكتابة في ذلك العصر، عبّر عنها من خلال التجريب في كتابة تلك القصص حينا، وأشار إلى ذلك في عدد من مقالاته المنثورة في الصحف أحيانا أخرى، كما يؤكد نصار أن طه حسين يميز بين لونين من القصص، أنكر اللون الأول منهما على الرغم من اشتهاره بين النقاد والكتاب، وذكر أن اللون الثاني هو القصة الحق، ومعنى ذلك أن هذا اللون هو الذي يريده الأديب ويحاول أن يكتبه، وهو القائل في "ما وراء النهر": "فليست القصة حكاية للأحداث وسردا للوقائع كما استقر على ذلك عرف النقاد والكتاب، وإنما القصة فقه لحياة الناس وما يحيط بها من ظروف، وما يتتابع فيها من أحداث".

في غمار الحب وأسراره

ولعل مجموعة "الحب الضائع" تعد أحد الأمثلة البارزة على ذلك النوع من الكتابة، والانتقال بين كل قصة وأخرى إلى نوع من أنواع الكتابة التي يفضل طه حسين والتي يرى أن تكون عليه كتابته لفن القصة القصيرة. وهو إذ يرصد فيها عددا من أوجه الحب المختلفة كما تتراءى له، فإنما يستخدم في تلك القصص كذلك عددا من التقنيات الفنية التي تعمل على شد انتباه القارئ إلى الحكاية من جهة، ولفت انتباهه إلى أمور وأفكار تتجاوز القصة الموجزة التي يمكن اختصارها في سطر أو سطرين.

هكذا يخوض بنا عميد الأدب العربي في مجموعته "الحب الضائع" التي نحتفل اليوم بمرور مئة عام على صدورها للمرة الأولى (2025، دار المعارف)، بين عدد من القصص والحكايات المؤثرة التي تعرف اليها واطلع على بعض تفاصيلها من المجتمع الفرنسي، وهو يؤكد في كل مرة أن تلك القصص ليست من عمل خياله أو محض تأليفه، وإنما هي ما سمعه وتأثر به وحكاه له أحد أصحابه وأراد أن ينقله الى القارئ العربي بأسلوبه وطريقته. فإذا بنا أمام ثماني قصص متفاوتة في الطول، يجمع بين أربع منها تناول أطراف من "الحب"، تلك العلاقة الأزلية المعقدة بين الرجل والمرأة، ولكنها هذه المرة عند ذلك المجتمع الغربي المختلف عنا في عاداته وتقاليده.

يستخدم في تلك القصص كذلك عددا من التقنيات الفنية التي تعمل على شد انتباه القارئ إلى الحكاية من جهة، ولفت انتباهه إلى أمور وأفكار تتجاوز القصة

تبدأ المجموعة بأهم وأكبر القصص وتحمل عنوانها وهي "الحب الضائع"، قصة مؤثرة تحكي قصة حب وخيانة قاسية تقع بين مدلين وزوجها مكسيم الذي تكتشف علاقته بصديقتها لورانس، ولا تجد إلا دفتر مذكراتها تحكي فيه أطراف حكايتها وتبثه شجونها ولوعتها. يتقصى طه حسين في حكايته تفاصيل حياة بطلته ونفسيتها متنقلا بنا من نشأتها إلى لحظة إدراكها تلك الخيانة وأثرها عليها، وما ترتب على ذلك من مواقف وأحداث حتى النهاية.

الناقد الراحل حسين نصار

تبدو القصة الأولى وفية كل الوفاء لبطلتها التي ترويها، فنحن لا نعرف العالم إلا من خلالها، ولا ندرك دوافع ولا أبعاد تصرفات الآخرين إلا وفقا لما تحكيه الكاتبة، وما تفصل فيه من أمور داخل ذلك الدفتر الذي هو بمثابة كرسي اعتراف طويل المدى لها ولحياتها. تلك التفاصيل الدقيقة التي يرصدها طه حسين، تجعل القارئ متماهيا تماما مع البطلة وحكايتها، حتى ليتخيل أن البطلة هي الكاتبة بالفعل. حتى إذا انتقل إلى القصة التالية فوجئ بصوت الرواي ينبهه أن ثمة كاتبا هنا يرصد الحكاية، ويعرض للقارئ تفاصيلها حتى نصل الى نهايتها المأسوية.

في القصة التالية "الحب اليائس"، ربما يفاجأ القارئ بقصر القصة نسبة إلى القصة السابقة لها، وتحكي عن لحظة اعتراف تقف فيها راهبة أمام قسيس لتصرّح له بعلاقة خاصة جمعتها بأحدهم، فما كان منها إلا أن هربت من أمامه وقررت أن تبعد عنه بحياة الرهبنة التي قضت فيها ما بقي لها من أعوام. وهو هنا يتوقف عند الحكاية لا يقدمها الى القارئ على أنها خير ما فعلته، بل على العكس من ذلك يبدو غير راض عما فعلته، لكنه يقدمه كما عرفه على هذا النحو.

أما قصة "الحب المكره" فيحكي فيها حكاية خادمة من الطبقة الفقيرة، هي ليونتين التي تواجه كل صعوبات حياتها بابتسامة راضية، بل وتقبل الزواج من رجل لا تحبه وإنما أكرهت عليه إكراها، وهي مع ذلك تفكر في ما يمكن أن تستفيده من هذه الحياة، ولا ترى في ذلك مشكلة أو ضررا. ولعل تلك القصة ينتقل بها طه حسين من مفهوم الحب إلى البحث عن السعادة، لا سيما في تلك الطبقات الفقيرة، رغم أنه يتحدث عن فرنسية تفاضل بين حياة باريس وحياتها في قرية بريتانيا، وكيف أنها تجد راحتها في النهاية في الاستسلام لذلك الزوج والرضا بما فرضته عليها الأقدار.

استلهام الأساطير

لا يغيب الحب أيضا عن القصص التالية في المجموعة، إذ يجد القارئ أن "نفس معلقة" تدور أيضا حول قصة حب قديمة فات عليها الزمن، وفرّق الموت بين صاحبيها، ولكن بطل القصة يسمع صوتا بينما هو في رحلة في الصحراء مع أصدقائه، وحينما يتأكد من خبر ذلك الصوت يكتشف أن ثمة علاقة غرامية كانت تربط صاحبة هذا الصوت مع صاحب له، يزوره فيكتشف أنه مريض، وأنه بحاجة إلى تلك الزيارة، وكأنما تلاقت روح حبيبته الغائبة مع روحه، وجمع بينهما الحب رغم فراق الأجساد.

لا يكتفي "العميد" بنقل القصص والحكايات من الواقع الاجتماعي المعروف، بل يلجأ إلى الأساطير وعالم "الموتى" كما يسميه

ولا يكتفي "العميد" بنقل القصص والحكايات من الواقع الاجتماعي المعروف، بل يلجأ إلى الأساطير وعالم "الموتى" كما يسميه، ليحكي لنا في "ثأر بيرينيس" قصة الحب بين قيصر روما تيتوس وملكة فلسطين بيرينيس التي يعود بها إلى القرن الأول من الميلاد، ويقص كيف تعرف اليها القيصر وأحبها في ذلك الزمان، ويشير إلى حكايتهما كما رواها الشاعر الفرنسي راسين، وذلك حتى يبثها للقارئ العربي آخذا منها نموذجا للحب ودرسا من دروس الحياة، إذ يفترض أن العاشقين تقابلا في دار الموتى، ويتبادلان الاتهامات بما كان بينهما وكيف سبق أحدهما الآخر إلى الموت، وينتهي بهما الأمر إلى أن أحدهما يؤكد أن حكايتهما أصبحت خالدة في صفحات الأدب.

مجموعة "الحب الضائع"

ويبدو أن فكرة حضور الطيف الخيالي أعجبت "العميد" فاستحضرها بعد قصة "نفس معلقة" في قصتين مختلفتين، الأولى "الخيال الطارق" والثانية "طيف"، يحكي في الأولى عن رجل ما إن يقرأ أبيات المعري حتى يحضره طيف امرأة كان يعرفها، ظن الناس أنها ماتت بمرض السل، فإذا بها تأتيه لتخبره أن سبب وفاتها هو ألمها على وفاة زوجها الذي مات قبلها. أما "طيف" فتحكي قصة متخيلة لامرأة تفقد ابنها فيحضر طيفه كأنما لكي يسليها ويهون عليها ما وجدته من ألم بفقده.

وهكذا فإنه لا يتحدث فقط الى القارئ وإنما يعرض معه مذاهب المحدثين وغيرهم، ويفاضل بينهم ويبرر للقارئ استخدام نمط كتابته دون غيره

هكذا يبدو تقديم طه حسين لأفكار خاصة حول مفهوم الحب والعلاقة بين الرجل والمرأة، وهو إن كان يقدم في أكثر تلك القصص بطلاته من النساء الغربيات، ربما لينقل الى القارئ العربي أن الهم الإنساني واحد، وأن ما تجده المرأة العربية في مجتمعها تجد مثله المرأة في فرنسا، وهو وينتقل بها كما نلاحظ في مستويات اجتماعية مختلفة، وفي حالات متباينة من التعلق بالحبيب تارة إلى الهرب منه تارة أخرى إلى التعلق  تارة أخرى إلى الفراق بالموت أيضا. وهو بذلك إنما يعمد بشكل واضح إلى طرح تصوره الخاص عن الحب كفكرة مقيدة، لا سبيل منها الى السعادة والاستقرار في أي ظرف من الظروف. ولعل هذا ما حدا به أن يطلق على المجموعة ذلك العنوان الدال "الحب الضائع"، وقد أجاد في عرض أكثر من صورة له بشخصيات مختلفة، ولكنه ينتهي في كل مرة نهاية مأسوية أشد ما تكون التصاقا بحالة الضياع، بل إن تلك الحالة لا تقتصر على الناس في عالم الأحياء، بل تبقى حتى بعد الموت كما رأينا في قصتين من المجموعة.

طه حسين

التجريب في تقنيات القص

يمكننا الوقوف عند أكثر من تقنيات تجريبية في كتابة طه حسين القصصية، لعل أبرزها  تقنية "كسر الإيهام" التي عمد إليها بوضوح في هذه المجموعة، وأوضح مثال لها كان في قصة "الحب اليائس" التي لم تتجاوز الخمس صفحات يبدأها طه حسين بحديث موجه الى القارئ:

"وأنا أرجو لك أن تكون جلدا صبورا وأن تمضي في القراءة شيئا، فلعلك تفهم عاقبة هذه الألغاز والرموز. والحق أني لم أكن لألغز ولا لأوثر الرمز والإيماء، ولا لأقدم في أول هذا الفصل ما حقه أن يكون في آخره. لكن الكتّاب المحدثين يذهبون هذا المذهب حين يريدون أن يقصوا عليك أقصوصة لها حظ من قيمة، أو نصيب من طرافة، وهم فيما يظهر إنما يذهبون هذا المذهب تشويقا للقارئ وإيقاظا لحبه الاستطلاع وميله إلى تعرف الأنباء". وهكذا فإنه لا يتحدث فقط الى القارئ وإنما يعرض معه مذاهب المحدثين وغيرهم، ويفاضل بينهم ويبرر للقارئ استخدام نمط كتابته دون غيره.

لا يغيب عن القارئ اعتماد طه حسين أساليب الوصف البلاغية المفرطة، ولعل ذلك مرتبط بلغة ذلك الزمان، حيث كان على الكاتب والأديب أن يجمع في حكايته المبالغة في استحضار التشبيهات والمجازات

كذلك يعمد في أكثر من قصة إلى ما يسميه "الزمالة بينه وبين القارئ"، فيقول في "ما وراء النهر": "إنما أحب أن أنشئ بيني وبين القرّاء نوعا من الزمالة، بحيث نبدأ القصة معا، ونمضي فيها معا، وننتهي منها معا، نتفق أحيانا ونختلف أحيانا أخرى، ويشجر بيننا الخصام من حين إلى حين".

كما يكتب: "أنا لم أستأثر بالخيال من دون القراء، بل أنا قد أكون أقل الناس حظا من الخيال وقدرة على الوصف وبراعة في الأداء، ولم يخلق الله أديبا يستطيع أن يستأثر وحده بوصف ما يعرض على قرائه من الأشياء والأحياء. فهذا الوصف شركة دائما بين الأديب المنتج والقارئ المستهلك. وليس من المحقق أن الأشياء التي يعرضها الأدباء تقع في نفوس القرّاء كما يعرضونها عليهم، وإنما الشيء الذي ليس فيه شك أن القرّاء يشاركون في الخلق والإنشاء".

فيلم "الحب الضائع"

 ويخاطب القارئ في قصة "نفس معلقة" فيقول "ولا تضحك أيها القارئ العزيز من صاحبي، فلم تكن قصته تثير ضحكا أو تعرضه لقليل من السخرية أو كثير"، والملاحظ أنه ينسب الحكاية إلى صاحبه، بل وربما تعدى الأمر إلى عدد من أصحابه دون أن يسمي هذا الصاحب أو غيره.

كان هذا الأسلوب عند طه حسين سمة عامة، وخصيصة واضحة في أكثر من قصة من قصصه بل وفي عدد من رواياته أيضا، إذ نجد صدى لها كذلك في "المعذبون في الأرض"، و"شجرة البؤس" وغيرها. ولم يقتصر الأمر على ذلك، ولكنه ظهر كذلك في كتاباته الفكرية والنقدية، فكثيرا ما كان في كتبه يتوجه إلى القارئ بشكل خاص وكأنما يشاركه ما يطرحه من أفكار ورؤى بشكل مباشر.

من جهة أخرى لا يغيب عن القارئ اعتماد طه حسين أساليب الوصف البلاغية المفرطة، ولعل ذلك مرتبط بلغة ذلك الزمان، حيث كان على الكاتب والأديب أن يجمع في حكايته المبالغة في استحضار التشبيهات والمجازات في كل قصة يكتبها أو حكاية يرويها، فإذا وصف شخصا بالخوف فهو "حائل اللون شاحب الوجه حائر الطرف"، وإذا وصف امرأة سعيدة فهي "في سعادة لا تعادلها سعادة وتجد في الأمر لذة لا تعادلها لذة" أو يكون "وجهها أعظم إشراقا وصوتها أكثر عذوبة ونشاطها أكثر حدة"، وغير ذلك من تفاصيل الصفات والأحوال، ولا يقتصر ذلك على مشاعر أبطال القصص فحسب، وإنما ينسحب على وصف مظاهر الطبيعة من حولهم كذلك. ولعل كل ذلك من آثار الشعر الباقية في كتابة ذلك الزمان وأسلوبه.

font change

مقالات ذات صلة