50 عاما على رحيل طه حسين: الحداثي الأكبر في العالم العربي

أثره تجاوز الأدب إلى الفكر والفلسفة والتعليم

Aliaa Aboukhaddour
Aliaa Aboukhaddour

50 عاما على رحيل طه حسين: الحداثي الأكبر في العالم العربي

القاهرة: لم يكن طه حسين مجرد أديب أو مفكر مصري ساهمت كتابته في إثراء المكتبة العربية بالعديد من الدراسات والمؤلفات، كما لم يكن مجرد أستاذ جامعي كبير تخرّج من تحت يديه وتعلم منه الكثير من الأدباء والمفكرين والعلماء، ولكنه كان حالة خاصة واستثنائية، إذ جمع بين الفكر والأدب والثورة والاستنارة، واستطاع أن ينقل مصر والعالم العربي فكريا وثقافيا إلى مكان آخر، لم يكن ممكنا الوصول إليه لولا جهوده، كل ذلك وهو الفقير المولود من أسرة صعيدية بسيطة، الذي عانى من كونه كفيفا منذ صباه، ولكنه استطاع أن يقاوم كل العقبات ويتجاوز كل الصعوبات، بل ويصبح ذلك العلم البارز والاسم الأبرز في الثقافة العربية (منذ حصوله على الدكتوراه في 1918) طوال عقود.

وربما يكون السؤال الأكثر ورودا اليوم، بعد مرور خمسين عاما على رحيل العميد، هل بقي أثره طوال هذه الفترة؟ وهل استطاعت الثقافة العربية على اتساعها واختلافها أن تستفيد من تجربته وجهوده وأن تقرأه على النحو الأمثل؟ هل استفادت الأجيال الجديدة من تراث طه حسين ومن أفكاره النقدية التقدّمية؟ هل تعرفنا على المستقبل من خلال كتابته وإشاراته التي كتبها منذ أكثر من سبعين عاما؟ ومن جهة أخرى كيف تناول النقاد والباحثون تراث طه حسين وتعاملوا معه؟

قراءات متجدّدة

ظهر في السنوات الأخيرة عدد من القراءات والكتب التي تناولت طه حسين بشكل مختلف، ليس فقط للتعريف به وبآثاره، فقد غدت أعماله من أشهر الكتب في مجالاتها المختلفة، سواء في السيرة الذاتية ("الأيام") أو في النقد ("في الشعر الجاهلي") أو في الرواية ("دعاء الكروان") أو التاريخ الإسلامي ("الوعد الحق" و "الفتنة الكبرى") أو في الفكر والثقافة ("مستقبل الثقافة في مصر")، ولكن تلك الكتابات جاءت لإضاءة جوانب أخرى من سيرة طه حسين ومسيرته، وإزالة ما دار حولها من شبهات وافتراءات سواء كان معاصرا لها أو ما كتب عنه بعد وفاته.

يظلّ التأثير الأكبر للدكتور طه هو تحرير النقد العربي من كلاسيكيات الثلاثينات لصالح معرفة عملية وطّد لها عبر مناهج نقدية حديثة شكلت جوهر مشروعه النقدي

غسان علي عثمان

بعد خمسين عاما من وفاة طه حسين، أصدر الناقد الكبير صبري حافظ كتابه "طه حسين .. الإنسان والمشروع" يتناول فيه سيرة طه حسين إجمالا وعلاقته الشخصية به متوقفا عند عدد من محطات حياته الهامة. يقسم صبري كتابه اثني عشر فصلا تحدث فيها عن معارك طه حسين، وكيف كان يردّ بالكتابة والإبداع على الحملة الجائرة التي تعرض لها، كما تناول أيام استقلال الجامعة المصرية وما دار حولها من معارك، كما خصص فصلا للحديث عن كتابه "مستقبل الثقافة" وما واجهه في سبيله من عقول منغلقة، كما ذكر خيبة الأمل التي واجهها طه حسين في الأزهر، والصراع الذي كان يدور دوما بين القديم والجديد، حتى يصل بالعميد إلى مرحلة أصبح فيها وزيرا للمعارف ويقارن في تلك المرحلة بين ما كان يرجو أن يحققه فيها وما نجح في تحقيقه بالفعل.

AFP
طه حسين، عام 1960

الجميل في كتاب صبري حافظ وما يجعله مختلفا عما كتب عن طه حسين أنه يعتبر رؤية من الداخل، إذ يجمع الكتاب بين البحث الأكاديمي والمذكرات الشخصية، ما قرأه وما سمعه وعاش تفاصيله مع طه حسين، لذلك يمثّل الكتاب شهادة خاصة تطرح أعمال طه حسين وتحكي مسيرته بشكل موثق ربما لم يكتب بهذه الطريقة من قبل، بالإضافة إلى تأكيده عددا من الأفكار التي راحت تتردد في الآونة الأخيرة فيما يتعلق بالشائعات والاتهامات التي لاحقت طه حسين في ما يتعلق بكتاباته التي واجهت هجوما عنيفا سواء "الشعر الجاهلي" أو ما بعده.

 

استرداد طه حسين

من جهةٍ أخرى أراد الدكتور والناقد ممدوح فراج النابي أن يزيل كل ما علق بطه حسين من شبهات وافتراءات فكتب دراسته "استرداد طه حسين" وأخذ على عاتقه هم الدفاع عنه من خلال العودة لكتاباته ودراساته وتوضيح منهجه في ثلاثة أبحاث كبرى، الأول "دفاعا عن العميد" يتناول فيه أصول فكرة "الشك" عند طه حسين والتي كان قد اتهم بأخذها من مارغليوث، وذلك عبر العودة لمقالاته التي سبقت "في الشعر الجاهلي" والتي تظهر فيها بكل وضوح بذور فكرة الشك لديه في تلقي قراءة الأدب العربي ودراسته، كما يتناول النابي ما لحق "مذكرات طه حسين" من تشويه وتحريف عندما نشرت إحدى المجلات مذكراته تحت عنوان "من العمامة إلى الطربوش" ويوضح ما جاء في هذه المذكرات من تحريف يختلف عن نسخة المذكرات التي سبق أن نشرتها دار المعارف لطه حسين عام 1962، وكيف أن ناشر هذه المذكرات اختار بعضا من المذكرات الأصلية وأهمل البعض الآخر، بالإضافة إلى وضعه لعناوين خاصة مختلفة للمذكرات لم ترد في النسخة الأولى، والأسوأ من ذلك أنه قام باختزال فصول المذكرات إلى 15 فصلا فقط، بل وحذف بعض الفقرات من المذكرات (وصل الحذف إلى نصف فصل) والغريب أن أحدا من الصحفيين أو الكتاب لم يتوقف عند هذا التصرف الذي يعد جريمة في حق الملكية الفكرية لصاحب الأيام والمذكرات.

في الدراسة الثانية يتوقف النابي عند ريادة العميد الفكرية، وكيف شكّلت دراساته وأبحاثه المبكرة ثورة على المناهج التقليدية في دراسة الأدب وهو الذي ظهر بجلاء في دراسته لأبي العلاء المعري ثم ابن خلدون بعد ذلك، كما يتوقف بشيء من التفصيل عند بحث طه حسين الخاص باستخدام "الضمائر" في القرآن الكريم وكيف أعاد ذلك البحث الهجوم على طه حسين مرة أخرى.

 سجلنا في التعليم ليس جيدا بكل تأكيد، والتعليم أحد نتاجات الثقافة السائدة، ربما هناك أسباب كثيرة، لكن بكل تأكيد لم نستطع تجاوز أحلام طه حسين للعالم العربي حتى الآن



زين عبد الهادي

وبقدر ما كانت الدراسات السابقة مستغرقة في المسائل العلمية والبحث الأدبي، ينتقل بنا النابي في المبحث الثالث من الكتاب إلى "الوجه الآخر من العميد" ليتناول فيه أطرافا من حياته ربما لم يلق عليه الضوء كثيرا، مثل كونه شيخا عاشقا رومانسيا إلى حدِ كبير وهو الأمر الذي يظهر في اهتمامه بالمرأة في عدد من رواياته، ثم سيظهر جليا في كتاب زوجته سوزان "معك" الذي نشرته بعد وفاته وأظهرت ذلك الجانب من الناقد الثوري، كما يتناول في الفصل الأخير الجانب الروحي الذي ظهر عند طه حسين في رحلة الحج الأخيرة عام 1955 نقلا عن الباحث السعودي محمد القشمي الذي كتب عن أيام طه حسين في المملكة، وهي الرحلة التي تركت أثرا كبيرا في نفسه، وجعلت البعض يعتقد أنها السبب في كتابته عن التاريخ الإسلامي.

بصيرة حاضرة

في كتابه "بصيرة حاضرة" يتناول الناقد والمفكر السياسي عمار علي حسن مشروع طه حسين من ست زوايا مختلفة يرى أنه يجب النظر لكل مفكر ومثقف موسوعي مثل طه حسين من خلالها، وهي: المنهج، والنص، والذات، والصورة، الموقف، والأفق، وهكذا يتوقف عمار علي حسن ليتناول السمات الخاصة التي ميزت أسلوب طه حسين، خاصة الحوارية والتعدّد، والشك والتثبت، وتعدد زوايا الرؤية، ويرصد خصائص الكتابة عنده فيشير إلى الشفاهية واعتماده على التخييل والتكرار، كما يتناول ما تميّزت به شخصيته من ثقافة موسوعية بحق، وكونه جمع في وقت مبكر بين التاريخ وعلم الاجتماع والسياسة والفلسفة، وغيرها من ضروب المعرفة، وبعد ذلك يعرض الصورة التي بقيت من طه حسين بعد مرور هذا الزمان، وكيف تعامل معه محبوه ومنتقدوه على السواء، لا سيما لكونه قد تميز بشكل واضح منذ حداثة سنة باعتباره قاهرا للظلام والعمى، واستطاع أن يكون مبصرا وبصيرا على الرغم من كل المعوقات، وفي النهاية يتناول الموقف الذي عبّر عنه طه حسين طوال مسيرة حياته العلمية والعملية، وكيف جمع بين الصرامة والحدّة في مواجهة بعض خصومه واستطاع أن يتحايل مع خصومٍ آخرين في سبيل عرض وجهة نظره بشكل آخر، وكيف كان موقفه من العدالة الاجتماعية وقضايا المرأة والديمقراطية في المجتمع المصري في ذلك الوقت، يقول عمار علي حسن:

محمد السيد

"لم ينته أثر طه حسين في حياة العرب، ولا يبدو أنه سينتهي فالرجل ضرب سهمه في كل اتجاه، وأنتج من الأفكار والآراء والأساليب والطرائق بل والتصورات والإجراءات حول التحديات التي واجهت المجتمع في زمنه، وعن القضايا والمشاغل التي أخذت بعقول الناس ونفوسهم، ما يصلح أن نعود إليه دون انقطاع، نظرا لاستمرار المشكلات قائمة وبقاء التساؤلات عالقة، وهذه العودة تمتد من اللغة وبيانه إلى الأدب وألوانه شعرا ونثرا، إلى الفكر وشؤونه، وكذلك في كيفية النظر إلى المشكلات الاجتماعية الجوهرية حول التعليم والثقافة، وعلاقة الدين بالدولة والديمقراطية، وتمكين المرأة وحقوق أصحاب الهمم، ناهيك عما يحسب لطه حسين من أثر في تطوير منهج البحث والدرس".

هذه السيرة التي تؤكد الإرادة والطموح والمتماهية مع أحلام المجتمع هي التي جعلت من 'الأيام' سيرة شعبية تغذي طموح البسطاء، وهو ما يفسّر استمرار حضور 'الأيام' كل هذه السنوات في مناهج التعليم

محمد السيد إسماعيل

إرادة وطموح

"المجلة" استطلعت آراء عدد من النقاد والمختصين عن أثر طه حسين، وكيف يرون دوره في الأجيال الجديدة، فخصّ الناقد محمد السيد إسماعيل كتاب "الأيام" لطه حسين بالذكر، ذاكرا أثره والفرق بينه وبين أي سيرة ذاتية أدبية أخرى فيقول: "هذه السيرة التي تؤكد الإرادة والطموح والمتماهية مع أحلام المجتمع هي التي جعلت منها سيرة شعبية تغذي طموح البسطاء - على العكس مثلا من سيرة المازني 'إبراهيم الكاتب'- في طرحها رؤية متشائمة، حيث جعل من الصحراء رمزا لحياته المجدبة التي لايستطيع تبديلها بسبب إرادته الواهنة. وهو ما يفسّر استمرار حضور  'الأيام' كل هذه السنوات في مناهج التعليم على عكس 'عبقرية عمر' للعقاد و'كفاح طيبة' لنجيب محفوظ أو حتى كتاب 'الشيخان' لطه حسين نفسه . فـ 'الأيام' كان يلبّي حاجة وطنية ومجتمعية عامة، الأمر الذي حوله لمسلسل واسع الانتشار، وإلى فيلم بعنوان 'قاهر الظلام'فقد تحول العمى مع طه حسين إلى طاقة إيجابية، أطلقت خياله وفضوله إلى معرفة كل ما يدور من حوله، فحين سمع أخوته يتحدّثون عن أشياء لا يراها عرف أنه أعمى فاعتمد على خياله في تصوّر هذه الأشياء، وحين ضحك أخوته على تناوله الطعام بكلتا يديه تساءل في نفسه 'ما الذي يحدث لو أكل بكلتا يديه' مما يعني أنه لا يستسلم لما اعتاد عليه الآخرون، وهو ما تحول إلى ثورة على مناهج الأزهر وطرق تدريسه التي تقوم على الاستظهار والسير على طريقة القدماء، بالإضافة إلى ذلك فنحن أمام عمل هجين لا يخلص لجنس كتابي واحد حيث جمع العميد – كما يقول عبد المحسن بدر- بين الروائي وكاتب الترجمة والباحث. كما كان 'الأيام' أقرب إلى التعزية الوجدانية التي لجأ إليها طه حسين بعد معركة كتاب "في الشعر الجاهلي" والجدير بالذكر أن 'الأيام' لم يكن مجرد تعزية ، فخيط الشك الديكارتي يصل بينه وبين الشعر الجاهلي وهذا يعنى أن العميد لم يتخلّ عن منهجه".

غسان علي عثمان

في العالم العربي

لم يقتصر أثر طه حسين على مصر، بل انتقل بأفكاره ودراساته إلى أنحاء العالم العربي، وإلى هذا يشير الباحث السوداني غسان علي عثمان فيقول:  "إن المنجز المعرفي للدكتور طه حسين ظل يمارس تأثيره في الفضاء الثقافي العربي بدفع من أصالة ما قدّمه الرجل في الساحة الثقافية والنقدية، وطه حسين يمثل مشروعا قائما بذاته في جسد الثقافة العربية، وحضوره فينا باق طالما أن الأسئلة التي طرحها لا تزال تُشكِل علينا وتحيطنا من كل جانب، ويظل التأثير الأكبر للدكتور طه هو تحرير النقد العربي من كلاسيكيات الثلاثينات لصالح معرفة عملية وطّد لها عبر مناهج نقدية حديثة شكلت جوهر مشروعه النقدي، وحتى إن لم يكن لطه تلاميذ بالمعنى المدرسي فإن الفضل يعود إليه في تحسين الذائقة العربية تجاه التراث العربي النثري والشعري، والحقيقة أن تراث طه حسين النقدي لم يجد المقروئية التي يستحقها ليس بسبب ضعف مشروعه بقدر التشويش الذي ظل يلاحق مواقفه الثقافية منذ ثلاثينات القرن الماضي، كما أن طه ليس هو كتاب 'الشعر الجاهلي' المغضوب عليه من قِبل المؤسسة التراثية في فهم التراث، فأياديه بيضاء على مظاهر الثقافة العربية، وكذلك فالرجل حاضر فينا بصور شتى، إما موسومٌ بتهم في عقيدته القومية وهنا نشير إلى كتابه 'مستقبل الثقافة في مصر' مما دفع البعض للهجوم عليه واتهامه بالقطيعة مع الثقافة العربية، وإما محل تهليل النخبة استثمارا لمواقف دون فحصها مجددا".

طه حسين هو الحداثي الأكبر في الثقافة العربية خلال القرن العشرين، لأنه اشتغل على محاور عدة واشتبك مع مسارات متباينة، فهو بحكم أزهريته استوعب التراث العربي والإسلامي، وبحكم بعثته إلى فرنسا اطلع على الثقافة الفرنسية والغربية عن كثب، وخلق جسرا بينهما

شريف صالح

ويضيف غسان علي عثمان: "الحقيقة أن أعمال طه حسين تشكل خطابا سياقيا هدفه صياغة المعرفة الثقافية في مصر أوائل وأواسط القرن الماضي عبر الإجابة عن أسئلة زمانه الثقافي، ويتبدّى للدارس لمؤلفات الرجل أننا أمام مشروع ثوري في الهوية الثقافية وما زال طه حسين في مسيرته يبرهن عن عدم تهيبه أي ردود أفعال غير مراقبة تأتيه من هذا أو ذاك، وهذه فروسية فكرية تستحق الاعتبار والاحترام. وحسينكان واعيا بأهمية حضور التراث في العقل العربي ولذا فإن سهام النقد الحاد ينبغي لها إعادة موضعة هذا التراث بما يخدم حاضر العرب".

يضيف: "ستظلّ الأسئلة التي طرحها العميد حاضرة فينا وتمارس ضغوطها على وعينا العربي الذي لم يتخطّ بعد مرحلة الأسئلة الحرجة في ثقافتنا العربية، وهي أسئلة الهوية والذات والآخر، وكانت هذه مشاغل العميد والتي قدّم فيها كسبه المقدر ناحية فهم المتاعب والبحث في مأزقنا الحضاري".

 

أثره في الجيل الحالي

وعن أثر طه حسين في الجيل الحالي يتحدّث الدكتور  زين عبد الهادي أستاذ المكتبات والوثائق فيقول: "أعتقد أن جيلي هو الجيل الأخير الذي رأى وسمع وقرأ طه حسين، وربما أفلحت جهود وزارة التعليم في السبعينات بوضع بعض كتبه أمام الطلاب كالأيام والشيخان وحافظ وشوقي وهي كتب تؤسّس لمنهج نقدي في التناول الأدبي، كما أنها تزيل كثيرا من الركام عن منهج طه حسين، لكن معرفتنا أيضا بالعميد كانت متواضعة للغاية ولم أتوقف أمامه إلا حين نضجت فكريا، ربما بسبب عملي في حقل علمي بعيد عن حقول طه حسين، لكنه لفت نظري ونظر جيلي لأهمية الثقافة وكانت معاركه السياسية أيضا سبيلا لأن نعرف أهمية العمل السياسي بجانب الثقافي وهذا ما لا يدركه الكثيرون. خذ معركته حين خرج من الجامعة في الثلاثينات، واستقال أحمد لطفي السيد بسبب ذلك معتبرا ذلك إهانة للجامعة، من هنا فحين تفقد الحرية الجامعية فإن كل التعليم يصبح بلا قيمة".

زين عبد الهادي

وحول معرفة وقراءة كتابنا العرب لطه حسين ومعرفتهم به، يشير إلى ما قالته سوزان طه حسين في كتابها "معك"، من أنه حين اضطر طه حسين لقضاء الإجازة في لبنان بدلا من فرنسا نظرا لضيق ذات اليد، وألقى هناك مجموعة محاضرات، كانت القاعات تمتلئ إلى درجة أن يقف الناس في ممرات المبنى وخارجه ليستمعوا له، وقد كُرّم هناك بالحصول على وسام الأرز، كما حدث ذلك في عدة دول عربية أخرى، أنظر كيف استقبلوه في المغرب وكتبوا عنه، وكيف حضر الحبيب بورقيبه محاضرته وكان معجبا به أشد الاعجاب، كما انتُخب عضوا في العديد من الأكاديميات التعليمية في الدول العربية".

على الرغم من ذلك يرى د. زين عبد الهادي أيضا أننا "ما زلنا نعاني وبضراوة من تقهقر مريع في التعليم والثقافة، فحين تولى طه حسين، حقيبة وزارة التعليم في مصر عام 1950 تمكن من وضع شعار للتعليم في مصر هو 'التعليم كالماء الذي نشربه والهواء الذي نتنفّسه' وهو ما دافع عنه كثيرا، وهو بالمناسبة المالك الحقيقي لهذا الشعار الذي ينسب للبعض، الآن أين نحن من ذلك، لا أعرف فسجلنا في التعليم ليس جيدا بكل تأكيد، والتعليم أحد نتاجات الثقافة السائدة، ربما هناك أسباب كثيرة، لكن بكل تأكيد لم نستطع تجاوز أحلام طه حسين للعالم العربي حتى الآن".

 

لم نتجاوز فكره

ويبدو الناقد والروائي شريف صالح متفقا مع هذه الرؤية خاصة في ما يتعلق بما أنجزه العقل العربي بعد طه حسين إذ يقول: "لا أظن أننا تجاوزنا أفكار طه حسين، بل أظن أن الواقع تردّى وتراجع كثيرا عما كان في أيامه، وبات وعي الناس اليوم أردأ من وعيهم في عصره، وانتشار الثقافة الجادة بات نادرا. ويكفي الرجوع إلى ما كان ينشر في مجلات مثل 'الرسالة'، وفي الكتب المطبوعة أيضا.. فكرة التجاوز تبدو منطقية ومقبولة وطبيعية، فالمفكر لا يطلب منا تصنيمه، لكن واقع الحال أن ما حدث ليس تجاوزا بل تراجعا. وقيم الجامعة التي ناضل من أجلها تكاد تنعدم اليوم".

شريف صالح

ويضيف: "إن طه حسين هو الحداثي الأكبر في الثقافة العربية خلال القرن العشرين، لأنه اشتغل على محاور عدة واشتبك مع مسارات متباينة، فهو بحكم أزهريته استوعب التراث العربي والإسلامي، وبحكم بعثته إلى فرنسا اطلع على الثقافة الفرنسية والغربية عن كثب، وخلق جسرا بينهما. ومن منطلق أستاذيته في كلية الآداب كان أحد الرواد المؤسسسين للتعليم الجامعي في مصر، ومؤسس ورئيس جامعة الإسكندرية، وأيضا كان أحد أشهر وزراء التعليم وعلى الرغم من قصر خدمته في الوزارة، لكنه أطلق مؤسسات وأفكارا بالغة الخطورة ويكفي شعاره 'التعليم كالماء والهواء'، وهو الشعار الذي حاولت ثورة يوليو/ تموز لاحقا تطبيقه بطريقتها. ولا ننسى أنه أيضا كان سياسيا، وكان صحفيا أسس وشارك في دوريات كثيرة منها مجلته "الكاتب". أي أنه لم يترك مسارا للحداثة وقيم الاستنارة إلا حمل شعلته ومضى فيه. فلم يكن نخبويا ولا أكاديميا مختبئا خلف أسوار الجامعة. لذلك فتأثيره في الوعي العام المصري والعربي كان هائلا، وغير مقتصر على المثقفين والمبدعين فقط. لذلك من الطبيعي أن يستمر هذا التأثير عابرا للأجيال، مهما تفاوت في قوة وضعفه. فيكفي أن نشير إلى فضله العظيم في إتاحة التعليم الجامعي للبنات، مما يعني أن كل طالبة التحقت بالجامعة طوال مئة عام تدين بالفضل لهذا الرجل. وكل باحث ودارس للأدب العربي ـ حتى يومنا هذا ـ يدين له بشيء ما".

لا يزال طه حسين مؤثرا بقوة في الثقافة العربية المعاصرة إذ يكفي أنه أول من طرح موضوع السياسات الثقافية في العالم العربي

محمد الشحري

أما في ما يتعلق بقراءة العرب لطه حسين واستفادتهم من رؤاه وأفكاره، فيقول: "لا يمكنني الزعم بأن العرب قرأوا طه حسين أو حتى نجيب محفوظ جيدا، ربما هناك من تخصص في أدبهم، وهناك من اطلع على كل كتبهم دون أدنى شك، لكن قياسا إلى تعثر مشروع الحداثة عموما، والردة عليه والتمترس وراء أفكار دينية متشددة، ونعت الرجلين بأسوأ النعوت. فهذا يدل على أن طه لم يُقرأ جيدا، بل انفصل الواقع الآني عن معظم ما دعا إليه، للأسف. لا أعلم إذا كان تعبير الثورة التي أحدثها في دراسة الشعر الجاهلي دقيقا أم لا. طه بحكم العمى بات مسكونا بالشك والارتياب، وبحكم تمرّده على الدراسة الأزهرية وانفتاحه على الفكر الغربي، أدرك نسبية المعرفة وعظمة الأسئلة، واستعمل الشك ليس كمنهج، وإنما كآلية لفك الارتباط التصنيمي والتقديسي بين الإنسان العربي ومعارفه وصبغها بصبغة لا تقبل التشكيك ولا التمحيص. ضرب بإزميله في ثوابت كثيرة ليس لإقناعنا بوجهة نظر معينة، وليس ليجعلنا نقطع صلتنا بتراثنا، وإنما لتجديده في وعينا وأنسنته، وعدم الخجل من طرح الأسئلة بشأنه. ومؤكد أنه فتح بابا عظيما للدرس والبحث الأدبي والإبداعي، أو أحدث ثورة منجهية في علاقتنا بالتراث، يظهر أثرها لدى الكثير من تلامذته من سهير القلماوي وحتى نصر أبو زيد وعبد المنعم تليمة وجابر عصفور".

محمد الشحري

رائد السياسات الثقافية

ويشير الكاتب والروائي العماني محمد الشحري إلى أثر طه حسين فيقول:  "لا يزال طه حسين مؤثرا بقوة في الثقافة العربية المعاصرة إذ يكفي أنه أول من طرح موضوع السياسات الثقافية في العالم العربي، والذي طرأ أخيرا على الدول العربية وانتبهت له المؤسسات الثقافية وأقامت الدراسات حوله وطرح السياسات الثقافية على البرلمانات والدساتير الوطنية. يعتبر كتاب 'مستقبل الثقافة في مصر' الذي أنجزه عام 1938 أول مشروع للسياسة الثقافية في العالم العربي، وفيه يشدّد على أهمية التعليم، فيقول 'لست في حاجة إلى الإطالة في إثبات أن التعليم الأولي والإلزامي ركن أساسي من أركان الحياة الديمقراطية الصحيحة، بل هو ركن أساسي من أركان الحياة الاجتماعية مهما يكن نظام الحكم الذي تخضع له. فالدولة الديمقراطية ملزمة أن تنشر التعليم الأولي وتقوم عليه لأغراض عدة، أولها أن هذا التعليم الأولي أيسر وسيلة يجب أن تكون في يد الفرد ليستطيع أن يعيش'. من هنا نعترف للدكتور طه حسين بدوره الريادي في الدعوة إلى مجانية التعليم وإلزام الدولة به على الأقل في التكوين الأساسي، وهي دعوة سبقت الهيئات والمنظمات الدولية -الأمم المتحدة واليونسكو تأسستا عام 1945- التي لم تكن موجودة أصلا وقت نشر الكتاب 1938".

ويضيف: "نعترف أننا لم نطلع بشكل أوسع على أفكار طه حسين، إذ سبقت قراءته الأحكام المفروضة عليه من قبل خصومه، ولهذا لم نفهم دعواته إلى مجانية التعليم ولا طرحه العميق حول الشعر الجاهلي الذي كبّل الثقافة العربية بصوره الشعرية التي لم يعد لها أي مكان ولا مكانة إلا في المُتخيل".

font change

مقالات ذات صلة