مفقودو الإبادة في غزة... مصير مجهول ربما للأبد

أسئلة حائرة

AFP
AFP
فلسطينيون يبحثون بين أنقاض برج سوسي المدمر جراء قصف إسرائيلي في غزة، 6 سبتمبر 2025

مفقودو الإبادة في غزة... مصير مجهول ربما للأبد

تعيش السيدة أم نبيل مطر، مع أطفالها الستة، في خيمة بمنطقة المواصي غرب مدينة خانيونس جنوب قطاع غزة منذ قرابة عامين، حيث تعمل على رعايتهم بما توفر من مساعدات مادية أو غذائية بعد اختفاء معيل أسرتها وطفلتها قبل عام ونصف حيث أصبح مصيرهم مجهولا. كانت عائلة جمال مطر (زوجها) قد نزحت من مدينة غزة إلى جنوب القطاع في أكتوبر/تشرين الثاني 2023 بسبب اشتداد القصف الإسرائيلي على المدينة وإصدار الأخير أوامر إخلاء لكافة السكان، ما اضطرهم لترك منزلهم وأمتعتهم والخروج تحت النار.

لم تتقبل العائلة العيش في خيمة بعدما كان لديهم منزل وحياة مستقرة قبل الإبادة، وكان الزوج دائم التفكير في مصير المنزل الذي تركه منتظرا العودة لحياته. وفي أبريل/نيسان 2024، وبينما حرب الإبادة والقصف الإسرائيلي مستمران على القطاع، قصفت إيران بمئات الصواريخ إسرائيل، بعضها سقط في محيط غزة، لكن الأهم، شائعات انتشرت بين الغزيين عن تمكن عدد من النازحين من العودة إلى شمال غزة مجتازين محور نتساريم الذي وقف حاجزا منيعا أمام المواطنين وحرمانهم من العودة أو التنقل.

جمال (39 عاما)، قرر المضي في طريقه ومحاولة العودة إلى غزة، حيث رافقته طفلته (12 عاما). تقول زوجته التي بقيت على تواصل معه هاتفيا، إنه مرّ من شمال مخيم النصيرات للاجئين وسار باتجاه الشمال من بين الأراضي الزراعية والمباني والمنازل المدمرة، ليلا، وتواصل معها ليبلغها بمكان وجوده بين الحين والآخر "كلمني آخر مرة وحكالي إنه وصل قصر العدل في مدينة الزهراء-داخل منطقة نتساريم جنوب مدينة غزة- ومن بعدها اختفى، لا رجع اتصل علي ولا رد على تليفونه، ولليوم ما بعرف مصيره" وفق قولها لـ"المجلة".

بداية فقدان الاتصال، حاولت أن تُقنع نفسها بأنّ الاتصالات سيئة، أو ربما لم يستطع شحن هاتفه بالطاقة، ثم تواصلت مع أقارب لهم لم ينزحوا من غزة، علّهم التقوا بزوجها وطفلتها، لكن دون فائدة، فتوجهت للبحث عنهم متنقلة بين مستشفى وأخرى، وتواصلت مع عدد من أقاربهم للبحث دون أي نتيجة أو معلومة قد تهدئ من مخاوفها، حتى إنها تواصلت مع اللجنة الدولية للصليب الأحمر للإبلاغ عن فقدان الاتصال لربما تعرض زوجها وطفلتها للاعتقال من قبل قوات الجيش الإسرائيلي المتمركزة على طول خط نتساريم، ولم تحصل على أي معلومة تحدد مصيرهم المجهول.

بداية فقدان الاتصال، حاولت أن تُقنع نفسها بأنّ الاتصالات سيئة، أو ربما لم يستطع شحن هاتفه بالطاقة، ثم تواصلت مع أقارب لهم لم ينزحوا من غزة، علّهم التقوا زوجها وطفلتها، لكن دون فائدة

استمرت على هذا الحال وهي ترعى أطفالها الستة دون معيل أكثر من 9 أشهر، وحتى انسحاب الجيش الإسرائيلي عن المحور في أواخر يناير/كانون الثاني 2025، وسمح بعودة الفلسطينيين إلى شمال القطاع، حيث عادت "أم نبيل" متوجهة إلى منطقة قصر العدل للبحث في المكان علها تجد ما يوصلها بزوجها وطفلتها، تقول "المكان كان دمار، المباني والمنازل مهدمة ومهجورة، كان المكان مخيف ولا أثر لجثامين أو ملابس أو حتى عظام بشرية، مش عارفة إذا الجيش اعتقلهم أو قتلهم أحياء أو جثامين أو حيوانات نهشت أجسادهم واختفت عن الوجود"، عادت إلى منطقة سكنهم وبحثت في المنزل ومحيطه وأيضا لم تصل إلى أي معلومة أو دليل على حياتهم أو موتهم.

ليست وحدها أم نبيل من فقدت أفرادا من عائلتها خلال حرب الإبادة، حيث أبلغ مواطنون عن فقدان قرابة 10 آلاف فلسطيني من مختلف الأعمار والفئات، المئات منهم لا زالت جثامينهم تحت أنقاض المنازل المّدمرة، لكن الأخطر من ذلك تعرض جثامين من قتلوا في مناطق مختلفة للنهش من قبل حيوانات وطيور أو دفنها من قبل الجيش الإسرائيلي في مقابر جماعية دون تحديد المكان أو التبليغ.

أ ف ب
فلسطينيون يسيرون في مخيم للنازحين في رفح جنوب قطاع غزة على الحدود مع مصر

جثامين مجهولة الهوية

خلال عمليات التفاوض الماضية بين حركة "حماس" وإسرائيل، وفي إطار عمليات تبادل الأسرى الأحياء والجثامين، اتفق الطرفان برعاية الولايات المتحدة الأميركية ووساطة مصر وقطر وتركيا على تبادل الأسرى، وفق اتفاق وقف إطلاق النار والتبادل الذي دخل حيث التطبيق والتنفيذ في 11 أكتوبر/تشرين الأول الحالي، حيث تسلمت إسرائيل 16 جثمانا لمحتجزيها لدى فصائل المقاومة الفلسطينية، في المقابل سلّمت 195 جثمانا لفلسطينيين دون بيانات أو معلومات عن أصحابها.

وصلت جثامين المعتقلين الفلسطينيين عبر اللجنة الدولية للصليب الأحمر إلى وزارة الصحة بغزة والتي أعدت مكانا مخصصا داخل مجمع ناصر الطبي في خانيونس لمحاولة فحص الجثامين والتعرّف عليها من قبل ذويهم قبل الدفن، حيث تعرّفت العائلات على 57 ضحية فقط، فيما تعذّر التعرف على العشرات منهم بسبب اختفاء الملامح حيث بدت آثار تعذيب وشنق وتقييد للأرجل والأيدي على بعضها، وعدم توفر فحوصات للحمض النووي، ما اضطر الوزارة لتخصيص مقبرة جنوب مدينة دير البلح لدفن الجثامين مجهولة الهوية.

ودفن في المقبرة ضحايا الإبادة، 54 جثمانا مجهولي الهوية بينما لا زالت العائلات تتنقل من مكان لآخر بحثا عنهم، وهي ليست المقبرة أو المرة الأولى التي يتم فيها دفن عشرات الضحايا المجهولين، حيث سبق وخلال الحرب أن سلمت إسرائيل شاحنتين بشكل منفصل لعشرات الجثامين بشكل يخالف القوانين والأعراف الإنسانية، ولم تتعرف العائلات على أبنائها حيث تم دفنهم في قبور جماعية بخانيونس.. تقول أم نبيل: "كل ما بسمع في جثامين سلمها الجيش باروح أدور على زوجي وبنتي، بادور على أي خبر يقين أعرف من خلاله مصيرهم، أطفالي بسألوني عن أبوهم وأختهم لكن ما عندي جواب يريحهم ويريحني".

هكذا هو حال العائلات التي فقدت أفرادا من عائلاتها خلال محاولاتهم التنقل أو العودة أو خلال محاولات الحصول على المساعدات الإغاثية الإنسانية حيث تعرض العشرات منهم إما للقتل وإما للاعتقال دون الوصول لمعلومات دقيقة عن حياتهم ومصيرهم، فيسجلون ضمن المفقودين. يقول ممدوح عبد الواحد (34 عاما)، والذي كان يذهب للحصول على المساعدات من الشاحنات الواردة عبر حاجز زيكيم الإسرائيلي شمال غربي القطاع، إنه في كل مرّة كان يذهب هناك، كان يشاهد العشرات من الشبان الذين يقتلون برصاص الجيش الإسرائيلي دون قدرة الآخرين على سحبهم.

رويترز
مناورات مركبة عسكرية على الجانب الإسرائيلي من الحدود مع غزة، في إسرائيل، 23 سبتمبر 2025

 

تعذّر التعرف على العشرات من الجثامين التي أفرجت عنها إسرائيل بسبب اختفاء الملامح حيث بدت آثار تعذيب وشنق وتقييد للأرجل والأيدي على بعضها، وعدم توفر فحوصات للحمض النووي

ويضيف لـ"المجلة": "في ناس كانت بتموت قدامنا وما نقدر نسحبهم والكلاب تنهشهم، ولما كنا بنرجع بأوقات تانية كنا بنلاقي بقايا أجساد وبندفنها بمكانها بدون ما نقدر نحدد هوية الشخص أو حتى نصوره، الملامح بتكون مشوهة من نهش الحيوانات أو بسبب القصف المدفعي"، مؤكدا على دفن ضحايا تحت التراب في الطرقات والأراضي والتي في الغالب تحللت مع مرور الأسابيع والأشهر وستبقى ضمن المجهولين.

أما الشاب جمال أبو العلا (25 عاما)، والذي قُتل برصاص الجيش في مجمع ناصر الطبي بتاريخ 12 فبراير/شباط 2024 أمام أعين أمه والمواطنين المحاصرين في ذلك الوقت، فقد اختفى جثمانه ولم تعد الأم قادرة على زيارة قبره. تقول أم جمال لـ"المجلة": "ابني قتلوه قدام عيني واحنا محاصرين، دفنته داخل حرم المستشفى قبل ما يقتحمها الجيش ويجبرنا على الخروج تحت تهديد السلاح، وبعد عام كامل على الحادثة، انسحب الجيش ورجعت عشان ننقل جثمانه للمقبرة لكن ما قدرنا نلاقي الجثمان".

كان الجيش خلال فترة السيطرة على مجمع ناصر الطبي، قد قتل عددا من المواطنين، بعضهم وجدت جثامينهم في مقبرة جماعية داخل حرّم المجمع، فيما اختفت آثار آخرين، صحيح أن البعض قد يظن أن معاناة أم جمال التي تعلم مصير ابنها لكن لا تعلم مكان جثمانه أقل تأثيرا على حياتها، إلا أنها تقول غير ذلك: "عارفة إن ابني استشهد وإني دفنته، لكن اختفى جثمانه، أنا كل ما الجيش يبعت جثامين باروح أدور عليه، بشوف عشرات الجثامين المشوهة والمهانة إنسانيا يمكن ألاقي جثمانه وأرجع أدفنه وأعرف وين قبره".

وفي هذا الإطار، وثق المركز الفلسطيني للمفقودين والمختفين قسرا، بيانات 1300 مفقود خلال الإبادة في وقت استحال على عائلاتهم التحقق ما إذا كانوا أحياء أم أمواتا، فيما تعذّر توثيق مئات آخرين بسبب فقد عائلات بأكملها دون بقاء أحد أفراد الأسرة لتوثيق حالات الفقد أو الاختفاء القسري، كما أنّ إدارة السجون الإسرائيلية لم تُفصح عن أي بيانات ومعلومات دقيقة حول أعداد ومصير من تم اعتقالهم خلال حرب الإبادة، وما إذا كانت تحتجزهم أحياء أم أمواتا أم إن أجسادهم تلاشت نتيجة التعرض لقصف شديد أو نهش من قبل الحيوانات أم دُفنوا في أماكن غير معلومة كمجهولين، وهو ما يعني أنّ العشرات أو ربما المئات من العائلات الغزية لن تستطع التحقق من مقتل أبنائها مدى الحياة.

font change