مثّل وقف إطلاق النار في غزة ذروة مرحلة إعادة تشكيل دراماتيكية للمشهد السياسي في الشرق الأوسط. فمنذ الهزيمة النهائية لتنظيم "داعش" كقوة سياسية فاعلة عام 2019، برزت إيران بوصفها التهديد الإقليمي الأبرز، عبر شبكتها الواسعة من الوكلاء الذين أجّجوا النزاعات في سوريا واليمن، ثم في غزة منذ عام 2023، مستندة إلى برنامجها النووي وشبكاتها المسلحة وترسانتها الصاروخية الباليستية.
لكن بحلول منتصف عام 2025، تراجعت عناصر هذا التهديد الإيراني بشكل كبير، باستثناء الحوثيين، ما أفضى إلى مشهد شرق أوسطي يخلو، لأول مرة منذ تحرير الكويت، من تهديد إقليمي مباشر، سواء على المستوى الوطني أو الأيديولوجي. وهو ما يفتح الباب لتحول جذري، ليس في السياسات الإقليمية فحسب، بل في حياة مئات الملايين، كما أشار الرئيس ترمب في خطاباته في الرياض والقدس وشرم الشيخ.
ومع هذه التحولات، قد يبدو مستقبل المنطقة أقرب إلى ما شهدته أميركا الجنوبية خلال العقود الثلاثة الماضية، حيث تراجعت النزاعات الأيديولوجية وعمّ قدر من الاستقرار والازدهار. غير أنّ الشرق الأوسط عرف من قبل لحظات مماثلة من التفاؤل، بعد حرب أكتوبر/تشرين الأول عام 1973 ثم عقب تحرير الكويت عام 1991، لكنها سرعان ما تبددت خلال عقد واحد، لتحلّ محلها موجات جديدة من التطرف والعنف. واليوم، يخشى كثيرون أن يعيد التاريخ نفسه، خصوصا في ملفين أساسيين ما زالا يهددان هذا الأمل الوليد: الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، والوضع في سوريا.
لكن مع التهدئة النسبية التي أتاحها وقف إطلاق النار في غزة، والتفاؤل الذي أثارته "خطة النقاط العشرين" التي طرحها ترمب، تبقى سوريا العقبة الأهم أمام تحقيق استقرار طويل الأمد في المنطقة. ولهذا، شدد مراقبون دوليون، بمن فيهم مسؤولون أميركيون رفيعو المستوى، على ضرورة الحفاظ على وحدة الأراضي السورية كشرط أساسي لإعادة الإعمار والاستقرار المستدام.
في الوقت ذاته، يشير هؤلاء المراقبون إلى أهمية حماية الحقوق الفردية، واحترام الخصوصيات الثقافية للأقليات، والقبول بدرجة من الحكم المحلي والأمن الذاتي في بعض المناطق. وتحقيق هذا التوازن ليس بالأمر الهيّن.
ومع ذلك، فإن البداية المنطقية تكمن في شمال شرق سوريا، ذي الغالبية الكردية، حيث وُقّع اتفاق توحيد في مارس/آذار الماضي، أفضى إلى جولات تفاوضية لم تُسفر عن تقدم يُذكر.
وعليه، ينبغي للأكراد أن يبادروا بإعلان رمزي لقبول سيادة دمشق على منطقتهم، بالتوازي مع استمرار الحوار حول القضايا الأكثر تعقيدا، مثل الحكم المحلي ودمج القوات الأمنية.
وقد يُستفاد من النموذج العراقي بعد عام 2006، ليس من خلال الحالة الخاصة لإقليم كردستان التي يصعب تكرارها في سوريا، بل من خلال آليات توزيع الصلاحيات بين الحكومات المحلية والمركزية في بقية أنحاء العراق، والتسامح مع وجود قوات أمنية محلية مرتبطة بشكل غير مباشر بالحكومة المركزية.
دور سوريا في مستقبل الشرق الأوسط
لطالما كانت سوريا لاعبا مركزيا في زعزعة الاستقرار الداخلي والإقليمي. فقد خاضت حروبا ضد ثلاثة من جيرانها: إسرائيل، والأردن، ولبنان، واستضافت لفترة طويلة زعيم "حزب العمال الكردستاني" التركي المصنّف إرهابيا. وخلال الحرب الأهلية السورية الممتدة من عام 2011 حتى 2024، تحولت سوريا إلى الحاضنة التي انبثق منها تنظيم "داعش"، وريث تنظيم "القاعدة"، وشكّلت العمود الفقري لإمبراطورية الوكلاء الإيرانية المعروفة بـ"الهلال الشيعي".
هذا التاريخ، إلى جانب الكثافة السكانية المتعلمة، والمكانة التقليدية لسوريا في العالمين العربي والإسلامي، وموقعها الجغرافي في قلب بلاد الشام، يجعل نجاح أو فشل دمج سوريا في نظام إقليمي مستقر أمرا بالغ الأهمية لمستقبل الشرق الأوسط بأسره.

ورغم الظروف الكارثية التي خلفتها الحرب الأهلية، والتي أسفرت عن نزوح نصف السكان، ومقتل أكثر من 500 ألف شخص، وتدمير معظم المدن، واستمرار العقوبات الاقتصادية الخانقة، فقد حافظت سوريا على تماسكها منذ سقوط نظام الأسد، بفضل قيادة الرئيس أحمد الشراع، ودعم المجتمع الدولي الذي أبدى إجماعا نادرا في تأييد الحكومة الجديدة في دمشق.
ورغم أن موقف إسرائيل لا يزال موضع تساؤل، فإن توقف الضربات العسكرية ومفاوضاتها مع حكومة الشرع، بدفع من واشنطن، يشير إلى استعدادها لمنح سوريا الجديدة فرصة.
هذا التوافق الدولي يُعد تحولا مهماً، إذ إن غياب موقف موحد بين تركيا وإسرائيل والولايات المتحدة والدول العربية وأوروبا والأمم المتحدة خلال الحرب الأهلية ساهم في إطالة أمدها.
