العراق بين واشنطن وطهران... تغير في "قواعد اللعب" أم مرحلة جديدة؟

الرهان على تقليص النفوذ الإيراني بات مهمة شبه مستحيلة

أ ف ب
أ ف ب
نساء عراقيات يمررن أمام أعمال فنية مرسومة على منازل في حي الأنباري ببغداد في 10 أبريل 2023

العراق بين واشنطن وطهران... تغير في "قواعد اللعب" أم مرحلة جديدة؟

ينشغل سياسيو العراق هذه الأيام بسجالات التنافس الانتخابي، في حين أن ما يشغل المواطن العراقي هو البحث عن إجابات لأسئلة تتعلق بالتهديدات التي يمكن أن يواجهها العراق في قادم الأيام في ظل التطورات الإقليمية في المنطقة، وعن حاجاته من الخدمات المعطلة كالكهرباء، التي تتكرر في كل عام معاناته من نقصها.

وربما تكون حالة عمى السلطة هي التي تنتج لنا هذه الفجوة في التفكير بين حاجات آنية يطالب بها المواطن والخوف من مصير مجهول، وبين قوى سلطوية تحشد كل طاقاتها للانتخابات القادمة والتباري في إسقاط خصومها وتوسيع دائرة الزبائن من أجل ضمان بقائها في دائرة النفوذ السياسي.

إلى ذلك فإن فرضية جولة جديدة من الحرب بين طهران وتل أبيب بدأت تتكرر كثيرا، وكذلك التوقعات بأن العراق لم يغادر لحد الآن منطقة الخطر في تفادي نيران هذه الحرب. رسائل أميركية علنية جاءت على لسان وزير الخارجية ماركو روبيو، وكررها القائم بأعمال السفارة الأميركية في بغداد مفادها رفض تمرير قانون "الحشد الشعبي". يقابلها تصريحات لمستشار خامنئي يعلن فيها رفض إيران نزع سلاح "الحشد" في العراق. ليتحول موضوع قانون "الحشد الشعبي" سجالا سياسيا في داخل العراق وخارجه، كما تحول إلى دعاية انتخابية بين الأطراف السياسية الشيعية. وبالنتيجة، فإن الخلاف هو على تمرير قانون يراد منه منح توصيف جديد لـ"الحشد" باعتباره حاميا للنظام السياسي والديمقراطية التي تتجسد في حكم الأغلبية الشيعية! في حين أن الخلافات داخل قيادات الإطار التنسيقي هي التي عطلت قانون الخدمة والتقاعد لمنتسبي "الحشد الشعبي"، الذي يحفظ حقوق منتسبيه التقاعدية.

الرهان على تقليص النفوذ الإيراني في العراق بات مهمة شبه مستحيلة في ظل سلطة طهران على القرار السياسي الشيعي، واستقطابها الكثير من القيادات السياسية السنية

والحال فإن انسحاب القوات العسكرية الأميركية من قاعدة عين الأسد ومطار بغداد، وإعادة تمركزها في قاعدة الحرير في أربيل، خطوة تثير الكثير من التكهنات بشأن العلاقة بين بغداد وواشنطن. ففي الوقت الذي عدها بيان مكتب القائد العام للقوات المسلحة "من إنجازات الحكومة ومؤشرا على قدرة العراق على التصدي للإرهاب وحفظ الأمن والاستقرار من دون الحاجة إلى مساعدة آخرين"، وصفها بيان السفارة الأميركية في بغداد بأنها خطوة انتقالية في مهمة التحالف الدولي العسكري في العراق إلى "شراكة أمنية ثنائية أكثر تقليدية".

ورغم هذه البيانات، فإن إعلان الانسحاب العسكري كان خطوة مفاجئة! فالحديث عن نهاية مهام التحالف الدولي في العراق حدد في نهاية 2026. وما حدث هو نقل القوات العسكرية الأميركية في أربيل وليس انسحابا كاملا من العراق؟

ثلاث فرضيات يمكن بها تفسير الخطوة اللاحقة لنقل تمركز الوجود العسكري الأميركي إلى إقليم كردستان. الأولى، أن مناطق نفوذ الحكومة الاتحادية لم تعد آمنة لوجود هذه القوات، لا سيما مع تكرار استهدافها بعد 11 أكتوبر/تشرين الأول 2023، في حين بدت حكومة بغداد عاجزة عن حمايتها. وقد تكون هذه الخطوة هي مؤشر على إمكانية وجود جولة أخرى من الحرب بين إيران وإسرائيل تتدخل فيها أميركا بقوة، ولذلك فهي تبحث عن تأمين وجودها العسكري في العراق.

أ ف ب
صور لمسؤولين ايرانيين ولبنانيين قتلتهم اسرائيل خلال وقفة عزاء خارج مقر السفارة الإيرانية في بغداد، في 28 يونيو

والفرضية الثانية، ترى أن الرهان على تقليص النفوذ الإيراني في العراق، بات مهمة شبه مستحيلة في ظل قدرته على القرار السياسي الشيعي، واستقطابه الكثير من القيادات السياسية السنية، فضلا عن نفوذ أذرعه المسلحة على أرض الواقع.

أما الثالثة، فتحتمل إمكانية الاستعداد لتوجيه ضربة عسكرية للفصائل المسلحة في العراق، باعتبارها والحوثيين، آخر ما تبقى من أذرع إيران المسلحة في المنطقة. فمن يعتقد أن إعادة هندسة الشرق الأوسط سوف يُستثنى منه العراق واهم، سواء كان الضغط على العراق بالقوة العسكرية أو بالتدخل في ترتيب النفوذ السياسي بعد الانتخابات القادمة.

ربما باتت التهديدات الأميركية الأخيرة للحكومة والبرلمان بشأن تمرير قانون "الحشد الشعبي"، تفرض تحديا أمام القوى السياسية الشيعية التي ترفع رايات العداء لأميركا

كما أن زيارة علي لاريجاني إلى العراق بعد تعيينه في منصب أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، لم تكن بريئة من محاولات صناع القرار السياسي في إيران لاستعراض نفوذهم في العراق. إذ كان حديث لاريجاني عن توقيع الاتفاقية الأمنية بين العراق وإيران، يشير في دلالاته إلى أن العراق سيقف مع إيران ضد من يريد مهاجمتها، وهذا ما نقلته وكالة "تسنيم" من حديث لاريجاني لبرنامج تلفزيوني بقوله: "النقطة الأساسية في الاتفاقية الأمنية بين إيران والعراق هي التزام كلا البلدين بعدم السماح للأفراد أو الجماعات أو الدول الثالثة بالتدخل في التفاهم والأمن بينهما، وأن لا تستخدم أراضي أحدهما ضد الآخر، أو أن تتدخل دولة أخرى في شؤون الأمن الداخلية لأي منهما". في المقابل قلل مستشار الأمن القومي العراقي من أهمية هذه الاتفاقية، وأعلن أنه لا توجد اتفاقية أمنية بين العراق وإيران، "وإنما مذكرة تفاهم بشأن المعارضة الإيرانية-الكردية".

أ ف ب
عناصر من "الحشد الشعبي" العراقي في بغداد اثناء جنازة المرافق السابق للامين العام لـ"حزب الله" حسين خليل المعروف باسم "ابو علي" الذي قتل بضربة جوية اسرائيلية في ايران في 21 يونيو

ولحد الآن لا يمكن التنبؤ بوجود استراتيجية أميركية واضحة تجاه العراق لدى فريق إدارة ترمب. إذ إن منصب السفير الأميركي لدى العراق لا يزال شاغرا، وهو أحد مؤشرات غياب تلك الاستراتيجية، على الأقل لحد الآن. ولكن الأميركيين لا يترددون في إرسال رسائل التلويح باستخدام العقوبات الاقتصادية تجاه أهم الملفات الاقتصادية في العراق، أي تصدير النفط العراقي وملف الدولار.

أما السياسيون في بغداد، فلم يحسموا بعد إجاباتهم على الأسئلة الحرجة بخصوص آفاق العلاقة مع الإدارة الأميركية. إذ تتجنب الحكومة وقوى الإطار التنسيقي التي ترفع شعار معاداة أميركا ورفض وجودها العسكري في العراق، طرح أي من الخيارات لرسم ملامح جديدة للعلاقة بين العراق وأميركا. هل ستكون ضمن محور الشراكة الاستراتيجية أم علاقات صداقة، أم نظل ندور ضمن توصيف الأصدقاء-الأعداء؟

لكن حكومة محمد شياع السوداني، وبالتأكيد بموافقة قوى الإطار التنسيقي، بدأت تتوجه نحو عودة الشركات الأميركية للاستثمار في العراق، وتحديدا الشركات النفطية. إذ وقعت الحكومة اتفاقية المبادئ بين وزارة النفط وشركة شيفرون الأميركية لتطوير عدد من الرقع الاستكشافية، كما رحبت حكومة السوداني بعودة الشركة مجددا للعمل في العراق. وتم التأكيد على أن علاقة العراق مع الولايات المتحدة الأميركية "علاقة استراتيجية"، وقد عملت الحكومة على جذب الشركات للعمل في العراق، بجانب اهتمامها للارتقاء بواقع القطاع النفطي.

وربما باتت التهديدات الأميركية الأخيرة للحكومة والبرلمان بشأن تمرير قانون "الحشد الشعبي"، تفرض تحديا أمام القوى السياسية الشيعية التي ترفع رايات العداء لأميركا. إذ عليها إدراك أن خيارات التصعيد في المواجهة مع الأميركيين ربما سيكون الخاسر الأكبر فيها هو القوى السياسية الشيعية، لأن السياسيين الكرد قد حسموا أمرهم بالتحالف الاستراتيجي مع الأميركيين، وهم مقتنعون تماما بأن الحفاظ على مكاسبهم مرتبط بالحماية الأميركية أمام قوى إقليمية ترفض وجودهم في المنطقة. أما القوى السياسية السنية فلن تقبل الشراكة في قرار التصعيد أو القطيعة مع الأميركيين. في حين ستكون القوى السياسية الشيعية أمام تحدٍ صعب، فهي من ستكون المسؤول الأول عن قرار المواجهة مع الأميركيين، وعليها تحمل العواقب اقتصاديا وعسكريا. وعندما يفقد هذا النظام الرعاية الأميركية، قد ينتقل إلى مرحلة الصراع الشيعي-الشيعي على النفوذ والمغانم في مناطق الوسط والجنوب.

حتى هذه اللحظة لا توجد مؤشرات على تبني استراتيجية أميركية جديدة تتلاءم مع الحديث عن تغيير قواعد اللعبة على المستوى السياسي بين طرفي الصراع والتنافس في العراق، أي: طهران وواشنطن

قواعد اللعبة بين إيران وأميركا في العراق، كانت تؤشر إلى نفوذ السياسة الإيرانية على أعلى المستويات وعلى مستوى صنع القرار السياسي، ويوازيه نفوذ عسكري غير رسمي من خلال وجود العناوين العسكرية المرتبطة عقائديا بإيران. وفي المقابل هناك وجود عسكري رسمي للقوات الأميركية؛ لكن على مستوى التأثير السياسي تراكمت أخطاء الإدارات الأميركية السابقة من الرئيس باراك أوباما إلى الرئيس جو بايدن، وحتى في عهد الولاية الأولى للرئيس دونالد ترمب، لم تكن هناك استراتيجية أميركية واضحة إزاء العراق. ويبدو أنه حتى هذه اللحظة لا توجد مؤشرات على تبني استراتيجية أميركية جديدة تتلاءم مع الحديث عن تغيير قواعد اللعبة على المستوى السياسي بين طرفي الصراع والتنافس في العراق، أي: طهران وواشنطن.

أ ف ب
صورة وزعها مكتب رئيس الوزراء العراقي تظهر رئيس الوزراء محمد شياع السوداني (وسط) يراقب علي لاريجاني (يسار)، رئيس مجلس الأمن القومي الإيراني، ومستشار الأمن القومي العراقي قاسم الأعرجي يوقعان اتفاقية أمنية ثنائية في بغداد في 11 أغسطس

ولكن تبقى المشكلة الأكبر في مواقف القوى السياسية، والشيعية منها تحديدا، التي لا تريد أن تقدم موقفا سياسيا يبتعد عن دائرة الاشتباك بين طهران وواشنطن. ولذلك لا يمكن لتلك القوى السياسية في العراق الخروج من تلك الدائرة. لأن مواقفها من الأميركيين لا ترتبط بالشأن العراقي فحسب، وإنما تتماهى تماما مع التوتر أو الهدوء في العلاقات الإيرانية-الأميركية، أو حتى التطورات الساخنة في المنطقة. والأكثر تعقيدا من رغبات الأطراف السياسية في العراق، هو بعض الفاعلين السياسيين في العراق مع صانع القرار السياسي في طهران الذي يعتقد أن العراق هو الساحة الأكثر تأثيرا لإرسال الرسائل سواء بالتهدئة أو بالتصعيد ضد المصالح والوجود الأميركيين فيه.

font change

مقالات ذات صلة