هكذا يحاول حلفاء إيران العراقيون "رد الاعتبار" على حساب كردستان

رويترز
رويترز
عناصر من "الحشد الشعبي" في حفل تخرجهم في معسكر في كربلاء، العراق، 30 أغسطس 2019

هكذا يحاول حلفاء إيران العراقيون "رد الاعتبار" على حساب كردستان

على العكس مما كان متوقعا، وما إن انتهت الحرب الإسرائيلية-الإيرانية، بدأت سلسلة ضغوط أمنية وسياسية إيرانية على إقليم كردستان. وسائل إعلام إيرانية راحت تصف الهجمات التي تعرضت لها المواقع المدنية في الإقليم بأنها "هجمات تستهدف مقار الموساد الإسرائيلي"، فيما أجبرت "قوى الإطار التنسيقي" العراقية المقربة من إيران الحكومة العراقية على قطع رواتب موظفي الإقليم، وبدأت سلسلة هجمات استثنائية على حقول النفط في الإقليم، كانت رسالتها ومصدرها واضحين تماما، فيما شنت المنابر الإعلامية والسياسية العراقية المقربة من إيران حملة تحريض منسقة ضد الإقليم، رافضة أي اتفاق قد تُقدم عليه الحكومة الاتحادية مع الإقليم، بشأن ملفات تصدير النفط وتمويل الرواتب وترتيب الشؤون المالية. ليس من تفسير منطقي لكل ذلك، خلا نزعة "محاولة إعادة الاعتبار" التي تملكت القوى العراقية المقربة من إيران، بعد "الهزيمة" التي أصابت طهران.

حدث ذلك بالرغم من الموقف السياسي واللوجستي الواضح لإقليم كردستان من تلك الحرب، إذ لم ينجر ساسته وقادته لأي سلوك مناهض لإيران أثناء الحرب، ولا لأي خطاب مناهض لـ"الحشد الشعبي" وقوى "الإطار التنسيقي" المدعومة من إيران، وحصل الإقليم على "ثناء" من إيران نفسها. لكن يبدو أن كل ذلك لا يساوي شيئا في ميزان المزاحمة الكبرى بين حلفاء إيران و"مناهضيها" في المجال العراقي، ومحاولة الموالين إنكار الهزيمة وتراجع النفوذ، وتطلع المناهضين، وعلى رأسهم إقليم كردستان، على حصاد آثار ذلك التراجع.

تحطيم إسرائيل لأجنحة إيران الإقليمية، ومن ثم حربها الأخيرة على إيران، حدثا في ظل صمت ورضوخ واضحين من القوى العراقية

يحدث ذلك، بعد أن شغلت وشكلت أربع ملفات رئيسة شائكة علاقة القوى العراقية الشيعية المركزية المقربة/التابعة لإيران مع إقليم كردستان، طوال عقد مضى، منذ أن انتهت الحرب على تنظيم "داعش". كانت تلك القوى في جميع تلك الملفات تفضل المصالح والرؤية الاستراتيجية والنفوذ الإيراني على أية "مصلحة وطنية عليا" قد تجمعها مع الإقليم، مستفيدة على الدوام من الجموح الإيراني وقدراته الهائلة في الداخل العراقي.

فهذه القوى منعت تماما أية محاولة من كردستان لخلق تنمية واستقلالية في القطاعين النفطي والغازي، الأخير تحديدا. وصل بها الأمر درجة شن عمليات عسكرية متواصلة على حقول الإقليم، واستخدام كل مؤسسات الدولة العراقية وشرعيتها لإيقاف تصدير الإقليم لمستخرجاته. كان ذلك لصالح "الهيمنة" الإيرانية على تصدير الغاز وعلى الاقتصاد العراقي، التي صارت أهم مصدر للعملة الصعبة في إيران في ظل العقوبات. كذلك منعت هذه القوى مختلف الحكومات العراقية من تنفيذ أي من تعهداتها الانتخابية مع الإقليم، حتى المكتوبة منها، رضوخا لرغبة إيران في إبقاء الإقليم في حالة "قلق سياسي مستدام"، ترفع عنه القدرة على التحول إلى "جارٍ متمرد" بالنسبة لإيران.

رويترز
زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود بارزاني يلتقي الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، في أربيل، العراق، 12 سبتمبر 2024

مع الأمرين، حاولت هذه القوى خلق أكبر مساحة تعكير وصِدام سياسي بين القوى الكردية، عبر تقريب واحدة على حساب أخرى، للإيحاء بضرورة صِدامها لتفكيك الملفات مع الإقليم. فعلت ذلك لدفع القوى الكردية للاستنجاد بإيران، والخضوع لاستراتيجيتها الكلية، بما في ذلك داخل إيران نفسها. كذلك سعت جاهدة لابتزاز الإقليم في ملف الوجود العسكري الأميركي بالعراق، متهمة ومتوعدة الإقليم بالسعي لفعل كل شيء لإخراجه من دائرة الرعاية الأميركية، وأيضا ودوما لصالح التطلع الإيراني لإخلاء محيطها من الحضور الأميركي.

تحطيم إسرائيل لأجنحة إيران الإقليمية، ومن ثم حربها الأخيرة على إيران، حدثا في ظل صمت ورضوخ واضحين من القوى العراقية، التي بقيت طوال سنوات تضخ خطابا فوقيا، مدعية "بطولة طافحة" وجموحا "ذكوريا" لحروب ملحمية. لكنها في المحصلة ظهرت خاوية من كل ما ادعته، متناهية الخشية على مستقبلها السياسي والاقتصادي، خالية اليدين من أية قدرة على تجاوز ما يفرض عليها من الخارج، ولا تتمتع بإمكانيات عسكرية ولوجستية تكاد لا تُرى في ميزان القوى. بهذا المعنى، تصرفت هذه القوى بآلية ومحاولة "رد الاعتبار للذات"، أمام الحكومة العراقية والفضاء السياسي العراقي الذي تهيمن عليه، وموقعها ضمن المعادلة الإقليمية الأوسع، لكن أولا في مواجهة نفسها ومجتمعاتها العراقية المحلية "الموالية"، التي اكتشفت ما كان مغلفا من ادعاءات مكشوفة لها تماما.

التآكل والتفكك صار يصيب النفوذ الإيراني، بدلالة أنه في أكثر "ملاعبه" راحة، أي العراق، لم يعد يستطيع الرد إلا بعنف مفتوح، فاقدا كل أدواته الأخرى

لتحقيق ذلك، تجد إيران في إقليم كردستان "خصما وظيفيا"، يُمكن أن يحقق لها ذلك المراد بأقل الأثمان وأسرعها، فهو في المحصلة مجرد "أقلية" في المعادلة العراقية، مُلبس بترسانة من الاتهامات السياسية والأيديولوجية المسبقة، مربوط اليدين في القدرة على الرد بالمثل، سياسيا وميدانيا.

أ.ف.ب
علم كردي في مدينة أربيل، عاصمة إقليم كردستان العراقي 4 يوليو 2025

لكنها تثبت أن مزيدا من التآكل والتفكك صار يصيب النفوذ الإيراني، بدلالة أنه في أكثر "ملاعبه" راحة، أي العراق، لم يعد يستطيع الرد إلا بعنف مفتوح، فاقدا كل أدواته الأخرى. كذلك لا تدرك أن الاستقطاب الذي تصنعه تجاه الإقليم، إنما ستدفعه لمزيد من القطيعة الجذرية، على المستوى السياسي على الأقل، وتاليا دفعه لتحالفات سياسية مطلقة مع القوى المناهضة لإيران، وما أكثرهم، بالذات منهم جهات "شيعية" مثل التيار الصدري. مع الأمرين، لا تدرك أن الإقدام على مثل تلك السلوكيات ليست "رحلة ربيعية"، فهو قد يفجر براكين الحريصين على الثوابت والتوازنات، وأن "خطأهم" ذاك ربما لن يكون أقل كلفة من "أخطاء" باقي الأذرع، التي إذا تجاوزت حدا ما خلال الأحداث الماضية، تكون قد قرأت الفاتحة على مستقبلها.

font change