العراق بعد حرب الـ12 يوما... في منطقة رمادية بين أميركا وإيران

تتجه الأنظار إلى الانتخابات المقبلة في نوفمبر لاختبار نفوذ طهران

أ.ف.ب
أ.ف.ب
صور لمسؤولين ايرانيين ولبنانيين قتلتهم اسرائيل خلال وقفة عزاء خارج مقر السفارة الإيرانية في بغداد، في 28 يونيو

العراق بعد حرب الـ12 يوما... في منطقة رمادية بين أميركا وإيران

بغداد - اثنا عشر يوما كانت فترة الحرب بين طهران وتل أبيب، لم تكن فيها الأجواء العراقية طريقا سالكا للطائرات الحربية، والصواريخ الباليستية والمسيرات، وإنما كانت على أرضه تدار حرب من نوع آخر، هي حرب الترقب والحذر والخوف، من أن تمتد نيران المعركة إلى العراق، وبدأت تُرفع لافتات "معركة الحق ضد الباطل والصمت فيها خيانة". وما إن دخل الاتفاق على وقف النار حيز التنفيذ، رفع بعض العراقيين شارة "النصر" محتفلين بانتصار "الجمهورية الإسلامية الإيرانية" في حربها ضد إسرائيل.

المفارقة، أن كل مواقف الدعم والإسناد لإيران في أيام الحرب، وخطابات احتفالات "النصر الإيراني" على إسرائيل، كان يديرها العراقيون عبر منصات التواصل الاجتماعي في "فيسبوك" ومنصة "إكس"، وهذا على خلاف التوقعات، التي كانت تعتقد أن العراق لن يكون بعيدا عن نار الحرب، إذا اشتعلت بين إيران وإسرائيل، وبناء على خطابات التهديد والوعيد، لقادة الفصائل المسلحة في العراق، الذين طالما حذروا من استهداف إيران. ولكنهم اكتفوا بإعادة صياغة خطابات التحذير، التي تحدد مستوى تدخلهم في المعركة "إذا تم استهداف قائد الثورة الإسلامية في إيران السيد علي خامنئي".

يفترض أن العراقيين من بين شعوب الشرق الأوسط، الذين جربوا الحرب وعاشوا مأساتها، وتعرفوا تماما أن الحروب لا يوجد فيها منتصر، لأن آثارها الاقتصادية والاجتماعية، لا تترك مجالا للاحتفاء بالنصر، وإنما هو وهم عشناه كعراقيين، مع كل وقف إطلاق نار في حروب صدام العبثية ضد إيران (1980-1988) وحماقة غرو الكويت (في 1990). ولكن ثقافة التوجيه السياسي، كما وصفها الباحث العراقي سليم سوزه، ترى أن النصر في الحرب، هو بقاء رأس الهرم في سدة الحكم.

عدم مشاركة الفصائل المسلحة العراقية مع إيران، في حربها ضد إسرائيل، تعود بالدرجة الأولى إلى أن قرار عدم التدخل كان إيرانيا، وليس خيارا ذاتيا من قبل أذرعها المسلحة في العراق

تم تسويق الحرب بين إسرائيل وإيران، من قبل قوى سلطوية شيعية وحاشيتها، بأنها حرب شيعية-يهودية. وأيضا توجيه الخطاب السياسي الشيعي نحو الربط، بين مصير الحاكمية الشيعية في العراق، وبقاء نظام الولي الفقيه في إيران، ومن ثم، كانت الفكرة من هذا الترويج، التأكيد على أن إسرائيل لا تستهدف إيران وحسب، وإنما تستهدف الصعود السياسي الشيعي، في منطقة الشرق الأوسط، الذي بدأ منذ نجاح السيد الخميني بإعلان "الثورة الإسلامية" التي أسقطت نظام الشاه في إيران عام 1979، وأسست "جمهورية إيران الإسلامية". ولكن المفارقة أن الإيرانيين، لم يتبنوا هذا الطرح، وإنما على العكس كان خطابهم السياسي، يؤكد على أن الحرب التي تشنها إسرائيل هي "ضد الأمة الإيرانية"، ففي أول خطاب وجهه خامنئي بعد الاتفاق على وقف إطلاق النار، وصف الإيرانيين بأنهم: "شعب عظيم، وإيران دولة قوية وواسعة، وهي صاحبة حضارة ضاربة في القدم، وثروتنا الثقافية والحضارية تفوق مئات المرات تلك التي تملكها أميركا وأمثالها". ولم يتطرق إلى ذكر الهوية الدينية في هذه الحرب، وفي مراسيم إحياء ذكرى عاشوراء حضر قائد "الثورة الإسلامية" وطلب من القارئ إلقاء قصيدة "يا إيران الإلهية"، ورغم أن هذه القصيدة توظيف للرمزيات الدينية الشيعية، فإن دلالة قراءتها في الليلة العاشرة من محرم، تشير إلى أولوية الهوية الإيرانية حتى في المناسبات الدينية.

إيران وأذرعها منذ عملية 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 إلى حرب الاثني عشر يوما، ليست إيران ما قبل هذين التاريخين، وبعد الحوثيين باليمن، يمكن وصف الفصائل المسلحة في العراق، بأنها الذراع شبه الأخيرة للنفوذ الإيراني في المنطقة، ورغم أنهم لم يشاركوا فعليا في حرب إيران مع إسرائيل، فإن نفوذهم وسلاحهم يبقى ضمن دائرة المحور الإيراني في المنطقة.

رويترز
تجمع للتضامن مع إيران خلال الحرب بين إيران وإسرائيل، في حي الكاظمية الشيعي في بغداد، العراق، 21 يونيو

وتبريرات عدم مشاركة الفصائل المسلحة العراقية مع إيران، في حربها ضد إسرائيل، تعود بالدرجة الأولى إلى أن قرار عدم التدخل كان إيرانيا، وليس خيارا ذاتيا من قبل أذرعها المسلحة في العراق، لأن إيران تدرك أن تدخل العراق من قبل الفصائل، لن تكون نتيجته تعرض النفوذ العسكري الإيراني في العراق إلى ضربة عسكرية فقط، وإنما ستكون نتيجته الأخطر، خسارة تشابك المنفذ الاقتصادي الأهم لإيران. وأيضا، يعرف الإيرانيون جيدا أن القدرات العسكرية للفصائل المسلحة في العراق، لن تكون قادرة على حسم المعركة للصالح الإيراني، بل على العكس، قد يتم تدميرها بالكامل، إذا ما قررت التدخل في الحرب، ومن ثم، الإبقاء على وظيفة تهديد الوجود الأميركي في العراق، وتأمين قدرات النفوذ الإيراني، أفضل من دخولها في معركة خاسرة.

منذ إعلان العراق النصر على "داعش" في 2017، بدأ التداخل بين السلاح والسياسة في انتخابات 2018 يفرض نفسه بقوة على العملية السياسية

ولذلك، ربما تكون نتيجة حرب الاثني عشر يوما، إعادة هندسة النفوذ الإيراني في العراق، وقد تكون الخيارات إعطاء الأولوية للنفوذ السياسي، وهذا النفوذ لا ينحصر بالقرار السياسي الشيعي، وإنما يمتد بتوثيق العلاقات أكثر مع الفاعلين السياسيين، السنّة وكذلك الأكراد، دون التخلي عن الفصائل المسلحة، وإنما تقليص الاعتماد عليها في المرحلة المقبلة، وقد تكون الانتخابات المقبلة، هي الاختبار الحقيقي لتحول بوصلة سياسة النفوذ الإيراني في العراق.

"المقاومة"

وصف "عراق المقاومة" ليس توصيفا إعلاميا، وإنما هو تمييز عن "العراق الرسمي" أو "عراق الدولة"، أطلقه رئيس هيئة "الحشد الشعبي" فالح الفياض في لقاء مع الإعلامي هشام علي، عرضته قناة "الشرقية" في (2025-2-22). وهذا التوصيف رغم أنه يأتي من شخصية سياسية لديها منصب رفيع في الحكومة، فإنه يفضح عن ثنائية معقدة، بشأن التفكير بالدولة، إذ من يعمل داخل الدولة، وهو يمسك بزمام إدارة مؤسساتها، يعترف بوجود كيان مواز للدولة. لذلك فإن "عراق المقاومة" بعد حرب الاثني عشر يوما، هو الذي يواجه أسئلة البقاء والتحدي، هل سيبقى ضمن "محور المقاومة" الذي تتزعمه إيران؟ أم سيتلاشى بمرور الزمن، بعد أن خسرت إيران توظيف المحور في استراتيجية الردع، والدفاع عن الأمن القومي الإيراني؟ أم سوف يكون بمواجهة تحديات إعادة ترتيب العملية السياسية في العراق؟

رويترز
الرئيس الأميركي دونالد ترمب يلقي خطابًا في البيت الأبيض في واشنطن 21 يونيو 2025،في أعقاب الضربات الأميركية على المنشآت النووية الإيرانية

منذ إعلان العراق النصر على "داعش" في 2017، بدأ التداخل بين السلاح والسياسة في انتخابات 2018 يفرض نفسه بقوة على العملية السياسية، والفاعلون الرئيسون فيه كانوا من القوى السياسية الشيعية، وتطور في فترة حكومة الكاظمي، وأخذ يستعرض سلاحه على الدولة، ويكون قوة موازية لها، وفيما بعد، كان قاب قوسين أو أدنى من الحرب الشيعية-الشيعية بعد انتخابات 2021. ومن ثم، بدأت العناوين التي ترفعها جماعات السلاح تواجه تحدي المصداقية على أرض الواقع، وبعد أن كان الشعار ضرورة الحفاظ على السلاح، لأن خطر تنظيم "داعش" الإرهابي لم ينته تماما، أصبحت وظيفة السلاح بعد أحداث 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 "نصرة أهل غزة ضد الإبادة التي يتعرضون لها على يد قوات الاحتلال الإسرائيلي"، و"الدفاع عن (حزب الله) في لبنان"، و"الوقوف إلى جانب الحوثيين في اليمن"، و"جهوزيته للدفاع عن إيران إذا تعرضت لاعتداء إسرائيلي".

ورغم كل هذه اللافتات التي رفعت، لم يشترك مباشرة في أي حرب شنتها أميركا أو إسرائيل ضد بلدان "محور المقاومة". وحتى بعد سقوط نظام بشار الأسد، والتي كانت بعض الفصائل المسلحة حاضرة في سوريا لدعم بقائه طوال 13 عاما، سقطت مبررات التدخل في سوريا لدعم نظام دكتاتوري هش.

ورغم ذلك، لم يعد تحدي الضغط أو التهديد من الخارج، ولا حتى احتمالية تقلص النفوذ الإيراني الداعم للفصائل المسلحة وفرض سطوتها، وإنما من قوى النفوذ الديني، وصاحبة التأثير الجماهيري الأقوى في الساحة الشيعية، والذي تمثله مرجعية السيد السيستاني، والسيد مقتدى الصدر.

رغم الحديث عن خطوات لمواجهة النفوذ الإيراني فإن كل ذلك يدور في الاستراتيجية الأميركية، لتقويض نفوذ إيران، إذ يتم النظر إليه من منظور العلاقة مع إيران، وليس كدولة صديقة

مرجعية السيد السيستاني تستثمر كل مناسبة لتعلن فيها، تارة عبر مكتب لقائها مع ممثل البعثة الأممية "يونامي" بالعراق، أو عبر وكلائها مثل المرجع الأعلى في كربلاء، عن ضرورة "حصر السلاح بيد الدولة". ورغم التأويلات لهذه الدعوة، فإن تكرارها المرة الأخيرة على لسان ممثلها في العتبة الحسينية، الشيخ عبد المهدي الكربلائي في بدء مراسم ذكرى عاشوراء، كان الأقوى من حيث توقيته، في ظروف اشتعال النيران في منطقة الشرق الأوسط، والمخاوف من امتدادها إلى العراق. أما السيد مقتدى الصدر، صاحب الحضور الأقوى في الشارع الشيعي، فقد وصل إلى نقطة اللاعودة، في مقاطعة الانتخابات المقبلة، وبرر موقفه في تغريدة نشرها بخط يده على منصة "إكس"، يقول فيها: "لن يقام الحق، ولا يُدفع الباطل إلا بتسليم السلاح المنفلت إلى الدولة وحل الميليشيات". أما ردود الفعل على دعوات مرجعية السيستاني وموقف الصدر، فكانت تعبر عن استياء ورفض واضح من عناوين محسوبة على الفصائل المسلحة.

المنطقة الرمادية

لا يزال العراق ضمن الملفات غير المطروحة على طاولة النقاش، في دوائر صنع القرار السياسي الأميركي، إذ إلى الآن لا يزال من يدير السفارة الأميركية في بغداد، هو القائم بالأعمال، بعد انتهاء مهام السفيرة ألينا رومانوسكي في نوفمبر/تشرين الثاني 2024. ورغم الحديث عن خطوات لمواجهة النفوذ الإيراني فإن كل ذلك يدور في الاستراتيجية الأميركية، لتقويض نفوذ إيران، وتلك هي مشكلة العراق، إذ يتم النظر إليه من منظور العلاقة مع إيران، وليس كدولة صديقة أو حليفة لأميركا، وأحيانا يتم النظر إلى وجود الفصائل المسلحة كتهديد، ليس باعتبارها قوة عراقية، وإنما أذرع إيرانية. وفي رسالته إلى رئيس وزراء العراق محمد شياع السوداني، بخصوص فرض التعريفة الجمركية على العراق، ختم الرئيس ترمب رسالته بعبارات تؤشر على عدم وجود شراكة بين البلدين: "نتطلع إلى العمل معكم كشريك تجاري لسنوات عديدة مقبلة، وإذا رغبتم في فتح أسواقكم التجارية، التي كانت مغلقة حتى الآن... فقد ننظر، ربما، في تعديل هذه الرسالة، ويمكن تعديل هذه الرسوم الجمركية، سواء بالزيادة أو النقصان، اعتمادا على طبيعة علاقتنا مع بلدكم".

هذه الرسالة توضح أن العلاقة رمادية، فالعراق ليس صديقا، ولكنه ليس عدوا أيضا. ويعتقد صناع القرار الأميركيين أن بعض القيادات السياسية والحكومية الشيعية، شريك لا يمكن الوثوق به، لأنهم مرتبطون بإيران، حتى القيادات السنية والكردية، لا يمكن أن تكون شريكا فاعلا على الأرض، سيما في ظل وجود سلاح الفصائل القادر على تهديد مناطقهم.

جميع الأنظار، تتجه نحو الانتخابات في نوفمبر، إذ قد تكون هي ما ينتظره الأميركيون لملء الفراغ، الذي تركه انسحابهم من العراق في 2011

وهذه أيضا مشكلة حكومة السوداني، ففي لقائه مع وكالة "أسوشيتد برس" كان متناقضا فهو تارة يتحدث بمنطق الفصائل التي تبرر شرعية وجود سلاحها لمواجهة الوجود الأميركي. وبذات الوقت هو يتحدث عن اجتماع بحلول نهاية العام لترتيب العلاقة الأمنية مع واشنطن، معبرا عن أمله في تمتين العلاقات مع إدارة ترمب من خلال توسيع الاستثمارات في النفط والغاز والذكاء الاصطناعي لجعل "البلدين عظيمين معا".

قد تكون مشكلة الإدارة الأميركية، في الاعتقاد بأن ضربة إيران كفيلة بانكفائها على الداخل، ويستدعي ذلك بالنتيجة ضعف نفوذها بالعراق، ولكن هذه المقاربة غير صحيحة، لأن العلاقة الجيوسياسية بين إيران والعراق، تختلف عن علاقتها بسوريا أو لبنان، وحتى اليمن، وحتى سياسة العقوبات الاقتصادية التي يفرضها البنك الفيدرالي أو صندوق الخزانة الأميركيان، لن تؤثر على حجم النشاطات الاقتصادية غير الرسمية، أو اقتصاد المافيات، الذي يعد العصب الرئيس في العلاقة بين إيران وأذرعها المسلحة-الاقتصادية. لذلك، إذا لم تفكر الإدارة الأميركية باستراتيجية مواجهة النفوذ الإيراني في العراق، وإعادة ترتيب أوراقه السياسية، وإيقاف سياسة القبول بتداخل السلاح والسياسة، فسيبقى العراق على ما هو عليه في المنطقة الرمادية في علاقته مع الأميركيين. لكن تبقى الرسائل الأميركية الأخيرة أكثر وضوحا تجاه "الحشد"، فرسالة اتصال السوداني مع وزير الخارجية ماركو روبيو،  تعبر عن مخاوف من مشروع قانون  "الحشد" الذي لا يزال قيد المناقشة في مجلس النواب،  على اعتبار أنه "سيؤدي إلى ترسيخ النفوذ الإيراني والجماعات المسلحة الإرهابية التي تقوض سيادة العراق".

أ.ف.ب
مسيرة للدراجات نارية رفع فيها العلمين العراقي والإيراني أمام السفارة الإيرانية في بغداد في 24 يونيو2025، احتفالا بوقف إطلاق النار بين إسرائيل وإيران

جميع الأنظار، تتجه نحو الانتخابات في نوفمبر، إذ قد تكون هي ما ينتظره الأميركيون لملء الفراغ، الذي تركه انسحابهم من العراق في 2011، والتدخل نحو مواجهة النفوذ الإيراني، الذي ربما يبدأ بالتدخل، بطبيعة شكل الحكومة المقبلة وقياداتها، وإسنادها لتكون قوية، وقادرة على تحجيم نفوذ إيران وأذرعها. لا سيما بعد تحديد الإدارة الأميركية الملفات التي تحتاج تحديد موقف واضح من الأطراف الفاعلة في العراق، وأهمها ثنائية السلاح والسياسة وفك الارتباط عن النفوذ الإيراني في المنطقة.

font change

مقالات ذات صلة