البنوك والنفط والعزلة.... مفاتيح واشنطن لخلع القفل الإيراني في بغداد

صمت الميليشيات العراقية... هل هو نهاية "الوكالة" الإيرانية؟

سارة بادافان
سارة بادافان

البنوك والنفط والعزلة.... مفاتيح واشنطن لخلع القفل الإيراني في بغداد

في لحظة تاريخية مفصلية، بدت الميليشيات العراقية المدعومة من طهران وكأنها شبح من ماضيها القريب. فقد ظلت على الهامش خلال الحرب الأخيرة بين إيران من جهة، والولايات المتحدة وإسرائيل من جهة أخرى. هذا الغياب اللافت عن ساحة المواجهة لم يكن مجرد قرار تكتيكي، بل يعكس تصدعا عميقا في هيكل النفوذ الإيراني داخل العراق، وتصاعدا متزايدا لفاعلية الضغوط الأميركية التي تمارس بخيوط دقيقة تمتد من خزائن المصارف إلى غرف صناعة القرار السياسي والأمني في بغداد.

عبرت سماء العراق أكثر من مئتي طائرة إسرائيلية ونحو ثلاثمئة صاروخ باليستي لقصف أهدافها داخل إيران ومع هذا لم ترد الميليشيات العراقية بالدفاع عن حليفتها. ميليشيا الحوثي اليمنية الصغيرة لم تتوقف عن ضرب السفن وإطلاق الصواريخ على إسرائيل في مشهد غريب لم يتوقعه أحد.

لعقود، شكلت الميليشيات أحد أبرز أذرع إيران في المنطقة. حيث نشأت هذه الجماعات في ظل الاحتلال الأميركي للعراق بعد 2003، وتطورت عبر التمويل والتدريب والتوجيه، لتلعب أدوارا متقدمة في النزاعات الإقليمية. وكانت معارك سوريا واليمن والساحة العراقية نفسها، ميادين أثبتت فيها هذه الفصائل ولاءها المطلق لـ"ولاية الفقيه"، وباتت عنصرا مركزيا بـ"محور الممانعة".

إلا أن نقطة التحول جاءت عقب الهجوم الذي شنته "حماس" على إسرائيل في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023. حينها، أعلنت الميليشيات العراقية– بما فيها "كتائب حزب الله"، و"عصائب أهل الحق"– أنها ستتدخل عسكريا إذا دخلت أميركا الحرب إلى جانب إسرائيل. ومع دخول واشنطن فعليا، بدأت هذه الميليشيات بالفعل باستهداف قواعد أميركية وإسرائيلية بطائرات مسيّرة، لكنها سرعان ما تلقت ضربات أميركية مركزة وقاتلة طالت قادتها ومخازن أسلحتها، مما أدى إلى تراجعها الواضح ووقف هجماتها بحلول مارس/آذار 2024.

رغم تقلص النفوذ الإيراني الإقليمي، فإن تأثير الفصائل بالعراق "لن يتضاءل بسهولة" وإنما سيبقى لهم دور مؤثر خلال السنوات المقبلة

صمتٌ يتحدث

في الحرب الأخيرة، على عكس كل التوقعات، لم تتحرك الميليشيات العراقية. لم تطلق الصواريخ، ولم تنفذ عمليات انتقامية، بل اكتفت بالتصريحات النارية التي لا تتجاوز كونها كلمات. هذا التراجع لم يكن ناتجا عن نقص في القدرة العسكرية، بل عن إعادة تموضع اضطرارية فرضتها تغيرات داخلية وخارجية، على رأسها تصاعد الضغوط الأميركية الذكية.

من جانبه، شدّد محسن المندلاوي، نائب رئيس البرلمان، على أن "تراجع النفوذ الإيراني لن يضر بالعراق"، بل إن بغداد تسعى لصياغة سياسة خارجية مستقلة والحد من قوة الجماعات المسلحة الموالية، مع الحفاظ على علاقات تاريخية جغرافية مع إيران. كما نوّه إلى أهمية ضبط السلطة بيد الدولة وانتظر خطوة طويلة الأمد لإخراج السلاح من غير الدولة.

أما المحلل المتعاطف مع الميليشيات كاظم الفرتوشي فقد وصف أن "الأولاد كبروا"، وأن الفصائل الموالية لإيران أصبحت تمتلك شبكات محلية ولا تخضع بعد الآن للطاعة العمياء لطهران. في المقابل، يرى أنمار السراي، أستاذ العلوم السياسية، أنه رغم تقلص النفوذ الإيراني الإقليمي، فإن تأثير الفصائل بالعراق "لن يتضاءل بسهولة" وإنما سيبقى لهم دور مؤثر خلال السنوات المقبلة.

رغم أن إيران لا تزال تملك شبكات نفوذ داخل العراق، فإن قدرتها على تحريك أدواتها العسكرية والسياسية تتراجع بوتيرة واضحة

وسائل الضغط الأميركي

قوة واشنطن على الأرض العراقية صغيرة، لكنها في استراتيجيتها الجديدة على مزيج فاعل من الأدوات المؤلمة: عقوبات مالية تستهدف شبكات تهريب النفط التي تمول الفصائل، وقيود على التحويلات البنكية التي تُستخدم لشراء الأسلحة، فضلا عن ضربات دقيقة وموجعة لقادة الصف الأول في هذه الميليشيات.

ولم تقتصر الضغوط على الجانب العسكري، بل امتدت إلى مفاصل الدولة العراقية نفسها. ففي29  يونيو/حزيران 2025، تم إجبار القاضي جاسم محمد عبود، رئيس المحكمة الاتحادية المدعوم من إيران، على التقاعد بقرار من لجنة قضائية وطنية. هذا الحدث غير المسبوق كان سيفشل تماما في ظل هيمنة إيران السابقة، لكنه مرّ بهدوء، في إشارة واضحة إلى اهتزاز القبضة الإيرانية داخل مؤسسات الدولة العراقية.

وقد عبّر حمزة مصطفى، الباحث السياسي، عن تقديره أن صمت الميليشيات الموالية لإيران خلال المواجهة الأخيرة يعكس تغييرا في التوازنات، وربما إشارات من طهران نفسها بعدم التصعيد. وذكر أن الحكومة "أثبتت امتلاكها لكل خيوط إدارة الأزمة" واعتمدت سياسة النأي بالنفس، مما منحها مساحة غير مسبوقة لإدارة الأزمة بشكل مستقل.

تحوّل مزاج الشعب العراقي

رغم الانقسامات السياسية والطائفية التي تعصف بالعراق، يجتمع كثير من العراقيين على مطلب مركزي واحد: رفض تحويل العراق إلى ساحة لتصفية حسابات إيران مع خصومها الدوليين. هذا التوجه لم يعد مجرد رأي شعبي، بل بات ينعكس تدريجيا في توجهات صناع القرار في بغداد الذين يميلون أكثر فأكثر نحو سياسات خارجية متوازنة وسيادة وطنية مستقلة.

ورغم أن إيران لا تزال تملك شبكات نفوذ داخل العراق، فإن قدرتها على تحريك أدواتها العسكرية والسياسية تتراجع بوتيرة واضحة. ومع نجاح واشنطن في تقييد حركة الميليشيات، فإن المرحلة المقبلة ستشهد على الأرجح مزيدا من التحركات الأميركية لإضعاف ما تبقى من النفوذ الإيراني، خاصة في قطاعات النفط والحكم.

شرعية الوجود الأميركي تنبع من التحالف الدولي، وهذا يسمح لأميركا بالبقاء رسميا، ويضفي شرعية على نشاطاتها العسكرية والاستخبارية

وجاء في رأي لطيف المهداوي أن "غياب دعم إيران سيؤدي إلى تراجع نفوذ حلفائها السياسي والأمني في العراق. فهم صنيعة طهران". لكنه استدرك أن هذا الاحتمال لا يعني نهاية النفوذ الإيراني بالكامل، بل تحوّل نوعي في آلياته.

إن ما نشهده اليوم ليس مجرد "هدوء مؤقت"، بل ربما بداية حقبة جديدة يُعاد فيها تعريف العلاقة بين بغداد وطهران، وتُرسم فيها حدود النفوذ بالسلاح والسيادة والمال وتنسجم مع المصالح العراقية العليا.

وسائل النفوذ الأميركي

الدولار والمصارف والتحويلات

أكبر الأسلحة هو الاحتياطي الفيدرالي الأميركي (Federal Reserve Bank of New York) تودع فيه عائدات مبيعات النفط بالدولار. واشنطن تملك صلاحية تأخير أو تعطيل تحويل الأموال إلى بغداد، مما يمنحها أداة ضغط قوية على الحكومة.

قانون الامتثال الضريبي الأميركي (FATCA)

يفرض رقابة على التحويلات المالية الدولية ويؤثر على عمل البنوك العراقية المرتبطة بالدولار.

سلاح التحكم في التحويلات عبر "SWIFT"

ساعدت أميركا على منع تدفق الأموال إلى ميليشيات تابعة لإيران عبر رصد التحويلات بالدولار.

حظر البنوك المتعاونة مع إيران

في 2023–2024، فرضت واشنطن قيودا على 14 مصرفا عراقيا، متهمة إياها بتهريب الدولار إلى إيران وسوريا.

السلاح العسكري: الأسلحة والقواعد

قاعدة عين الأسد (الأنبار)، فهي مركز عمليات ووجود دائم للقوات الأميركية. تُستخدم من أميركا لمراقبة تحركات الجماعات الموالية لإيران.

هناك أنظمة الدفاع الجوي (باتريوت/ثاد)، فهي منتشرة في قواعد أميركية وتُعد رادعا لأي تهديد من إيران أو ميليشياتها.

الضربات الانتقائية ضد الميليشيات

نفذت واشنطن عدة ضربات جوية دقيقة (2020-2021-2023-2024) استهدفت قادة بارزين في فصائل شيعية مدعومة من طهران.

هل يستطيع العراق إخراج الأميركيين؟

شرعية الوجود الأميركي تنبع من التحالف الدولي، وهذا يسمح لأميركا بالبقاء رسميا، ويضفي شرعية على نشاطاتها العسكرية والاستخبارية.

font change

مقالات ذات صلة