تراجع إيران... هكذا يؤثر على التوازن داخل العراق

واع
واع
قوى «الإطار التنسيقي» خلال اجتماع بحضور رئيس الوزراء محمد شياع السوداني في فبراير

تراجع إيران... هكذا يؤثر على التوازن داخل العراق

بينما يشهد العراق هدوءا أمنيا وعسكريا حذرا منذ عدة أسابيع، بناء على التوافق غير المعلن بين الحكومة والفصائل المسلحة المرتبطة بإيران، ما يفترض إبقاء العراق خارج دائرة الصِدام بين إسرائيل وإيران، أو أذرعها الإقليمية، تتوقع الأوساط السياسية والبحثية المتابعة للشأن العراقي تغيرات جوهرية في المشهد السياسي للبلاد، ستُحدث تبدلا في نوعية التوازن السياسي المكرس حتى الآن، تحديدا بين الجماعات السياسية/الأهلية الثلاث الرئيسة، الشيعة والسُنة. وتأثر الكُرد منبثق من التحولات التي ستشهدها توازنات القوى الإقليمية والدولية، بناء على المجريات الراهنة. فلمختلف القوى الإقليمية نفوذ داخل العراق، وتؤثر على واحد أو أكثر من تلك الجماعات السياسية العراقية.

ثلاثة مؤشرات رئيسة ظهرت في الداخل العراقي خلال الأسابيع الماضية، دلت كل واحدة منها على حتمية حدوث ذلك، كانعكاس سياسي لتراجع الدور الإقليمي لإيران، وتاليا داخل العراق. فموقف القوى العراقية المقربة والتابعة لإيران من مسألة الوجود العسكري الأميركي في العراق انقلبت إلى عكس ما كانت عليه، فيما صار إقليم كردستان أكثر شكيمة في تجاوز خطوط "القوى المركزية المتحالفة مع إيران"، ويبحث عن توافق أكثر توازنا مع إيران نفسها، في وقت غدت فيه القوى السُنية تتخذ مواقف أقل حذرا مما كانت عليه سابقا، حتى وإن كانت مخالفة استراتيجيا لرؤية السلطة الحاكمة لتلك الأحداث.

تبدلات الموقف من الوجود العسكري الأميركي

طوال الشهور التي سبقت الحرب الأخيرة، كانت القوى السياسية العراقية الشيعية تمحور نشاطها السياسي حول مسألة "إخراج القوات الأميركية من العراق"، تُسير حملات إعلامية وسياسية للدفع نحو إظهار هذا الموضوع وكأنه "القضية الوطنية الوحيدة في العراق"، متهمة القوى النظيرة بـ"العمالة"، وإن بشكل غير معلن.

كانت القوى السياسية الكردية ترفض هذا المسار السياسي علنيا، وتعتبره شيئا مختلقا ولا يتفق والمصالح العليا للعراق، خصوصا في ظل افتقاد العراق لأية منظومة دفاع جوي. الأحزاب والشخصيات السُنية العراقية كانت تقول الأمر نفسه، وإن مواربة، متذرعة بملف "محاربة الإرهاب"، ودور القوات الأميركية المتمركزة في العراق فيه.

القوى الشيعية العراقية صارت تعتقد أن القوات الأميركية يُمكن أن تكون مصدر أمان للنظام السياسي في العراق

لكن القوى الثلاث كانت تخفي في خطابها السياسي حقيقة الدور والنفوذ الأميركي في العراق: فالقوى الشيعية كانت تريد من الأمر أن يكون الخطوة الأخيرة نحو "سيطرتها التامة على المجال السياسي العراقي"، بدعم واضح من إيران. بينما كانت نظيرتها الكردية متيقنة من أن "الوجود العسكري الأميركي هو الضمانة الوحيدة لما أحرزته من فيدرالية"، وأن القوى المقربة من إيران، وبدفع ورعاية منها، تتهيأ كل لحظة للانقضاض على "المشروع الكردي" في العراق. فيما تعتقد القوى السُنية أن الوجود الأميركي هو الوقاية الوحيدة مما تعتقد أنه "ترتيب إيران في العراق"، والذي نفذته من قبل في عام 2015، حين فتحت المناطق السُنية لتكون عارية أمنيا تماما أمام القوى الإرهابية المتطرفة، فغزتها "داعش"، ويُمكن أن تكرر الأمر. 

رويترز
شيعة عراقيون اثناء مسيرة للاحتفال بـ"يوم القدس العالمي" في 28 مارس في بغداد

خفت كل ذلك "الجدال والخلاف الوطني" منذ عدة أشهر، بل كاد أن ينقلب للضد، بسبب تراجع نفوذ إيران، ومنذ إسقاط النظام السوري السابق. فالقوى الشيعية العراقية صارت تعتقد أن القوات الأميركية يُمكن أن تكون مصدر أمان للنظام السياسي في العراق، الذي تترأسه، وسدا أمام إمكان حدوث ضغوط أمنية وسياسية من جانب سوريا إلى داخل العراق. وقد غدت القوى الشيعية تعتقد أن الخروج العسكري الأميركي سيكون مشجعا لبعض الجماعات المسلحة الأكثر تطرفا، لتناهض نفوذ فصائل "الحشد الشعبي" في المناطق السُنية ميدانيا. كذلك صارت القوى الشيعية تعتقد في وعيها أن الوجود العسكري الأميركي، وبتوافق غير معلن معها، يُمكن أن يُنجي الفصائل المسلحة من أية هجمات إسرائيلية غير مُتوقعة. قُبالة ذلك، فإن القوى السُنية صارت تعتبر الوجود العسكري الأميركي عائقا أمام مساعيها لإحداث تغيرات جذرية شاملة في بنية النظام السياسي العراقي. 

طوال السنوات الماضية، كانت كردستان تشكو جموحا سياسيا وأمنيا إيرانيا ضاغطا نحوها، سواء عبر الضغوط السياسية أو عمليات القصف الصاروخية التي طالت أحياء مدنية وشخصيات اقتصادية من الإقليم

جموح كردي


ضمن السياق ذاته، حدثت تغيّرات دراماتيكية في مواقف الأحزاب الكردية في العراق، متأتية من الشعور بإمكانية تحقيق مكاسب في الداخل الوطني، بناء على التبدلات التي تحدث في أوزان القوى السياسية الإقليمية النافذة في العراق. 
يشرح الباحث السياسي آراس نجدت تلك الآلية في حديث مع "المجلة"، مفككا آلية السلوك السياسي للطرفين في الوقائع العراقية الجديدة، ويضيف: "في الوقت الذي كانت لجان التدقيق والمتابعة الفنية بين الحكومة الاتحادية ونظيرتها في إقليم كردستان تتابع وتحاول إغلاق آخر الثغرات المالية والفنية، بغية إعادة تصدير نفط إقليم كردستان أواخر الشهر المنصرم، كان رئيس حكومة إقليم كردستان مسرور بارزاني يوقع عقودا نفطية/غازية مع شركتين أميركيتين كبيرتين، هما مجموعة (أونيكس) وشركة (HKN)، تجاوزت قيمتها 110 مليارات دولار، ستُعيد ترتيب دور وفاعلية إقليم كردستان في لوحة منتجي الطاقة في المنطقة. المثير للانتباه أن تلك العقود لاقت ترحيبا واسعا من قِبل المسؤولين الأميركيين، كوزير الخارجية ومستشار الأمن القومي (قبل إقالة الأخير وإسناد المنصب مؤقتا إلى وزير الخارجية)، اللذين أصدرا بيانين مفصلين في ذلك الشأن، أكدا فيه العلاقة الاستراتيجية بين الولايات المتحدة وإقليم كردستان، كـ(حجر زاوية) لعلاقة الولايات المتحدة مع العراق، كما أعربت المتحدثة باسم الخارجية الأميركية. تلك العقود ما كان يُتوقع لها أن ترى النور، لولا شعور حكومة كردستان بإمكانية تجاوز الواقع السياسي/المالي الذي فُرض عليها منذ قرابة عامين، بعد قرار محكمة غرفة التجارة العالمية في باريس (عدم شرعية) تصدير الإقليم لمستخرجاته النفطية دون موافقة الحكومة المركزية. الأكثر إثارة هو موقف السلطة الحاكمة في بغداد، إذ لم يتجاوز موقفها البيان المُقتضب الذي أصدرته وزارة النفط العراقية، وهو استنكاف عن التصعيد، متأت من نفس التبدلات الإقليمية". 

أف ب
عناصر من "الحشد الشعبي" العراقي في بغداد اثناء جنازة المرافق السابق للامين العام لـ"حزب الله" حسين خليل المعروف باسم "ابو علي" الذي قتل بضربة جوية اسرائيلية في ايران في 21 يونيو

يتابع الباحث آراس نجدت حديثه مع "المجلة" قائلا: "صحيح نددت رئاسة حكومة إقليم كردستان بما أسمته صراحة (العدوان الإسرائيلي على إيران)، ومثلها فعلت مختلف القوى السياسية الكردية في الإقليم، وهو ما حصل على ثناء إيران، عن طريق قنصلها العام في الإقليم. لكن الزيارات المتكررة التي قام بها رئيس الإقليم نيجيرفان بارزاني إلى إيران، وزيارة الرئيس الإيراني مسعود بيزشكيان إلى مدينتين في كردستان، أظهرت تبدلا واضحا في موازين القوى التي كانت مختلة بين الطرفين، وهو ما سينعكس على الداخل العراقي بالضرورة. فطوال السنوات الماضية، كانت كردستان تشكو جموحا سياسيا وأمنيا إيرانيا ضاغطا نحوها، سواء عبر الضغوط السياسية أو عمليات القصف الصاروخية التي طالت أحياء مدنية وشخصيات اقتصادية من الإقليم، مترافقا مع نزوع واضح للقوى العراقية الموالية لإيران للضغط على الإقليم، سواء عبر عمليات قصف عشوائية على المراكز المدنية، بما في ذلك مطار أربيل المدني، أو خلق أزمات مالية وبيروقراطية معها عبر الحكومة الاتحادية. الساسة في كردستان متأكدون في قرارة أنفسهم أن مرحلة الاستقواء الإيرانية قد ولت، وأنهم صاروا أكثر أمانا تجاهها، سواء عبر الحدود أو في الداخل العراقي، وغالبا تأتي زيارات قادة وساسة الإقليم المتكررة لإيران ضمن سياق السعي لخلق توافق يعتبرونه (أكثر توازنا وعدالة) مع إيران، وعبرها مع القوى العراقية الموالية لها". 

المؤشر الأكثر دلالة على تبدل موقع القوى السُنية حسب السياق الحالي لتحولات المنطقة يكمن في خطابها بما تراه ضرورة وحتمية إعادة ترتيب المعادلة الداخلية العراقية الراهنة

مطالب سُنية


 لا تخفي الشخصيات والقوى السياسية في الأوساط السُنية العراقية ارتياحها لما يجري في المنطقة، إذ تبدلت لهجتها السياسية وتغيرت نوعية مطالبها، وصارت أجرأ في طرح مظالمها السياسية والحياتية، خصوصا من الفصائل المسلحة المحسوبة على إيران، أو القوى السياسية الراعية لها. إذ لم تُخفِ القوى السُنية مثلا ترحيبها بالتغيير السياسي الجذري الذي حدث في سوريا أواخر العام الماضي، متجاوزة الموقف الرسمي العراقي الحذر تماما مما حدث، ومناهضة مجموع القوى السياسية المرتبطة بإيران، والمُسيطرة أمنيا والمتحكمة إداريا في المناطق السُنية وسط وغرب البلاد، تلك القوى التي لا تزال ترى في الرئيس السوري الجديد ومجموع المحيطين به "خطرا أمنيا استراتيجيا" على العراق واستقراره. هذا الموقف الذي لم يكن للقوى السُنية أن تتخذه لولا شعورها بعودة التوازن إلى الداخل العراقي، تحديدا بينها وبين القوى الحاكمة المشكلة للنواة الصلبة للسلطة في البلاد. الأمر نفسه ينطبق على موقفها من الحرب الراهنة بين إسرائيل وإيران. ففي وقت تعلن فيه رسميا تنديدها بالفعلة الإسرائيلية، لكن بشكل بروتوكولي. لأن المئات من المنصات الإعلامية المحسوبة عليها، ومثلها آلاف الحسابات على وسائل التواصل الاجتماعي التابعة لها، لا تُخفي غبطتها بما يجري، محملة إيران تبعات سوء التوازن الداخلي في العراق، تحديدا ما حدث خلال الأعوام التي تلت انهيار تنظيم "داعش". فالسُنة العراقيون يعتبرون إيران السبب الرئيس لتحطمهم سياسيا واقتصاديا وأمنيا. 
لكن المؤشر الأكثر دلالة على تبدل موقع القوى السُنية حسب السياق الحالي لتحولات المنطقة يكمن في خطابها بما تراه ضرورة وحتمية إعادة ترتيب المعادلة الداخلية العراقية الراهنة، وذلك عقب الانتخابات البرلمانية المُقرر إجراؤها قبل نهاية العام الحالي. فالتعبيرات السياسية السُنية تقول صراحة إنها لن تقبل باستمرار معادلة تكون "حصتهم" فيها مجرد موقع بروتوكولي هو "رئاسة البرلمان"، في وقتٍ هُم مُستبعدون تماما من كافة الوزارات السيادية الاستراتيجية، ومن القرار الأمني والاقتصادي في البلاد، ولا يؤخذ برأيهم فيما خص مواقف وتوجهات العراق الاستراتيجية، تحديدا على مستوى العلاقات الإقليمية. إذ لا يخلو برنامج حواري إعلامي عراقي من طرح واحد أو آخر من الشخصيات السياسية السُنية لمسائل مثل استبعادهم من مجلس الأمن القومي، ومثلها من أجهزة الاستخبارات وزعامة الفصائل المسلحة الرئيسة، مطالبين بتغيير الأمر "تجنبا لتبعاته المتوقعة في المستقبل القريب"، وهي أصوات كان من المحال سماعها حتى قبل أسابيع قليلة، ولولا التبدلات الإقليمية الراهنة. 

font change