سلطنة عُمان... اقتصاد مرن في مواجهة التحديات

من تنويع مصادر الدخل ودعم القطاع الخاص إلى استراتيجيات خفض الديون وبرامج الاستثمار

المجلة
المجلة

سلطنة عُمان... اقتصاد مرن في مواجهة التحديات

شهد اقتصاد سلطنة عمان خلال السنوات الأخيرة نشاطا متسارعا وغير مسبوق، مع استمرار ارتفاع مؤشرات النمو في مختلف المحافظات، ولا سيما الكبرى منها مثل مسقط وصلالة وظفار. وقد انعكس هذا الحراك الاقتصادي في توسع عمراني وجغرافي ملحوظ، مدفوعا بارتفاع عدد السكان الذي بلغ نحو 5,32 ملايين نسمة وفقا لأحدث إحصاءات المركز الوطني للإحصاء والمعلومات.

يواكب هذا النمو السكاني المتسارع حاجة أكبر إلى فرص العمل والمشروعات الإنتاجية، وهو ما شكل حافزا وضمانا في الوقت نفسه للحكومة العمانية لوضع خطط تنموية بعيدة المدى لمستقبل البلاد.

يأتي ذلك مع بدء العد التنازلي لانتهاء الخطة الخمسية العاشرة التي انطلقت عام 2021 وتختتم بنهاية عام 2025. وتعد هذه الخطة اللبنة الأساس التي انبثقت منها رؤية عمان 2040، كما تمثل مرحلة مفصلية في النهج التنموي، إذ تجسد جيلا جديدا من التخطيط القائم على التغيير والتكيف المستمر.

الخطة الخمسية ميزان الاقتصاد العماني

تتموضع الخطة الخمسية كإحدى الدعامات الرئيسة للاقتصاد العماني، إذ تمكنه من التكيف مع التحولات الاقتصادية والتغيرات العالمية، بما في ذلك الأزمات المالية الناجمة عن جائحة "كوفيد-19" أو الصراعات الإقليمية مثل الحرب التي اندلعت بين إيران وإسرائيل في يونيو/حزيران الماضي، والتي قد تشكل عقبة أمام مصالح السلطنة واستقرارها الاقتصادي.

بدأت الخطة الخمسية العاشرة بموازنة مقدارها 16,67 مليار دولار، قبل أن ترتفع بنسبة 51,15 في المئة لتصل إلى نحو 25,27 مليار دولار في نهاية عام 2024

انطلاقا من هذا الدور، تتيح الخطة للحكومة فرصة دورية لمراجعة جدوى سياساتها التنموية كل خمسة أعوام، بل وأحيانا خلال الفترة نفسها، بما يسمح بتكثيف أو إعادة توجيه الجهود وفق المستجدات.

فعلى سبيل المثل، بدأت الخطة الخمسية العاشرة بموازنة مقدارها 6,4 مليارات ريال عماني (16,67 مليار دولار)، قبل أن ترتفع بنسبة 51,15 في المئة لتصل إلى نحو 9,7 مليارات ريال (25,27 مليار دولار) في نهاية عام 2024، مما يعكس مرونة التخطيط واستجابة الحكومة للتغيرات الاقتصادية.

على صعيد المشروعات المدرجة ضمن الخطة التنموية، نجحت الحكومة العمانية في تنفيذ نحو 388 مشروعا من أصل 416 مع نهاية العام المنصرم. وركزت غالبية هذه المشروعات على تحقيق الأهداف الرئيسة لمحاور رؤية عمان 2040 الأربعة، وهي: الإنسان والمجتمع، تنمية الاقتصاد، الحوكمة والأداء المؤسسي، والبيئة المستدامة.

سلطان عمان هيثم بن طارق آل سعيد، خلا اجتماع في الكرملين مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، موسكو 22 أبريل 2025

أما الخطة الخمسية الحادية عشرة، فيجري العمل على إعدادها حاليا استعدادا لانطلاقها مع نهاية السنة الجارية، حيث بدأت المشاورات الحكومية ومراجعة الأولويات والقطاعات المشمولة بخطط التنمية للمرحلة المقبلة. وكانت وزارة الاقتصاد قد كشفت في مايو/أيار الماضي عن ملامح الخطة الجديدة، التي جرى إعدادها استنادا إلى مدى توافقها مع مستهدفات ومشروعات رؤية عمان 2040.

ضريبة الدخل على الأفراد

على الرغم من أن الأداء الجيد للاقتصاد العماني، إلا أن السلطنة تستعد لمواجهة مختلف السيناريوهات المستقبلية من خلال تقليل الاعتماد على بعض القطاعات التقليدية، لا سيما النفط، الذي يظل مصدرا استراتيجيا للإيرادات حاليا. واتبعت مسقط نهجا مشابها لدول الخليج الأخرى، التي تعد العدة استعدادا للتحول العالمي التدريجي في العزوف عن النفط والغاز، اللذين يشكلان الركيزة الأساس لإيرادات هذه الدول. ويأتي هذا التخطيط ضمن رؤية مستقبلية تهدف إلى تنويع الاقتصاد وضمان استدامته دون الاعتماد على قطاع واحد، لا سيما أن سلطنة عمان لا تتمتع باحتياطيات نفطية وغازية كبيرة مثل بعض جيرانها في المنطقة.

يمثل قانون الضريبة على دخل الأفراد أحد التحولات الهيكلية في السياسة المالية لسلطنة عمان، وتطوير أدواتها، وهو معزز للاقتصاد العماني وأحد الإجراءات الفاعلة لتنويع مصادر الدخل للدولة

راشد الشيذاني، خبير في الاقتصاد العماني

ولضمان استقرار الطبقات الاجتماعية وحمايتها من أي تقلبات اقتصادية مستقبلية، قررت سلطنة عمان فرض ضريبة دخل على الأفراد بنسبة 5 في المئة، هي الأولى من نوعها بين دول الخليج. وتقتصر الضريبة على فئات محددة، وفي الأخص رجال الأعمال الذين يتجاوز دخلهم السنوي 42 ألف ريال عماني (نحو 110 آلاف دولار)، على أن يدخل القرار حيز التنفيذ مع بداية عام 2028.

تعمل سلطنة عمان على تنويع مصادر الدخل عبر إشراك القطاع الخاص إلى جانب الحكومة في عملية التنمية وإيجاد فرص عمل جديدة، من خلال دعمه وتوفير الحوافز اللازمة وتقديم ضمانات للمستثمرين، بما يسهم في جذب مستثمرين جدد إلى السوق العماني. ويأتي ذلك في إطار رؤية عمان 2040  التي تهدف إلى رفع مساهمة القطاعات غير النفطية في الناتج الإجمالي إلى أكثر من 90 في المئة في حلول عام 2024.

ويبدو أن مسقط في طريقها لتحقيق مستهدفات الرؤية التي تنسجها بهدوء حيث وصلت نسبة مساهمة القطاعات بعيدا عن النفط  نحو 72,9 في المئة في نهاية العام المنصرم.

أ.ف.ب.
مسجد السلطان قابوس في وسط العاصمة مسقط، 9 أبريل 2021

ويقول الخبير الاقتصادي العماني راشد الشيذاني لـ"المجلة"، "يمثل قانون الضريبة على دخل الأفراد أحد التحولات الهيكلية في السياسة المالية لسلطنة عمان، وتطوير أدواتها، وهو معزز للاقتصاد العماني وأحد الإجراءات الفاعلة لتنويع مصادر الدخل للدولة. ومع ذلك، فإنه ليس جزءا من قطاعات التنويع الاقتصادي، إذ إن الهدف من الضريبة على دخل الأفراد هو تحسين جودة الحياة عبر تمويل المشاريع التي ترتقي بمستوى الرفاه الاجتماعي للمواطنين".

ويضيف: "تسهم الضرائب عموما في استدامة المالية العامة وحوكمة الإنفاق بعيدا عن تذبذب أسعار الطاقة، التي لا تزال تشكل الجزء الأكبر من الإيرادات المالية لدول الخليج. كما تمنح إيرادات الضريبة مرونة للموازنة العامة، مما يتيح التوسع في الإنفاق الحكومي".

المعادن لاعب رئيس في الاقتصاد

على الرغم من توجه سلطنة عمان نحو تنويع مصادر الدخل، إلا أنها لم تتوان عن تطوير البنية التحتية لقطاع المعادن، والتوسع في عمليات الاكتشاف، وزيادة الصادرات، لا سيما في ظل الطلب العالمي المتزايد على المعادن ودورها المحوري في التجارة الدولية. ففي العام المنصرم، بلغت إجمالي الكميات المبيعة من المعادن نحو 62,5 طنا، تنوعت بين الجبس والنيكل والكوبالت، وتم تصدير نحو 36 طنا منها، مما يعكس إمكانات السلطنة في تعزيز مساهمة هذا القطاع في الاقتصاد الوطني.

يمتلك جهاز الاستثمار العماني حصصا في أكثر من 185 صندوقا استثماريا، وأكثر من 60 استثمارا في قطاعات عدة، تتركز غالبيتها في السوق المحلية بنسبة 61,3 في المئة، وفي أميركا الشمالية 19,9 في المئة

وتستمر عمليات التنقيب التي تشرف عليها وزارة الطاقة والمعادن، من خلال إبرام عدة اتفاقيات استثمارية في مختلف المحافظات. ويعد أبرز هذه الاتفاقيات وأضخمها تمديد منطقة الامتياز رقم 53 حتى عام 2050 مع المشغل الحالي شركة "أوكسيدنتال مخيزنة"، إلى جانب شركات أخرى مثل "أوكيو" للاستكشاف والإنتاج، ومؤسسة النفط الهندي، وشركة "ليوا"، وشركة "بي. تي. تي." للاستكشاف. وتشمل الاتفاقية استثمارات تقارب 30 مليار دولار طوال مدة العقد، الذي تتركز أعماله في حقل مخيزنة بمحافظة الوسطى، مما يعكس أهمية القطاع النفطي والغازي في تعزيز الاقتصاد الوطني واستقطاب الاستثمار الأجنبي.

الاستثمارات قاطرة التنمية

تمخضت رؤية عمان 2040 عن عدة برامج تمويلية للمنشآت الصغيرة والمتوسطة، بهدف تشجيع الاستثمار الجريء وتعزيز المنافسة لتحقيق مستهدفات الحكومة. ويعد صندوق "عمان المستقبل" من أبرز هذه المبادرات، حيث يمول مشاريع في جميع القطاعات باستثناء النفطية والعقارية، تشجيعا للابتكار والمبادرة في الاستثمار.

ووفقا لراشد بن سلطان الهاشمي، مدير أول استثمارات الصندوق، تبلغ الموازنة المخصصة للفترة 2024-2028 نحو ملياري ريال عماني (نحو 5,21 مليارات دولار)، على أن يتم تخصيص 400 مليون ريال (نحو مليار دولار) لكل عام.

رويترز
قوارب سياح خلال فعاليات موسم ظفار في محافظة صلالة، 3 أغسطس 2024

كما يستطيع صندوق "عمان المستقبل" أن يمتلك حصة في المشاريع المحلية من خلال الشراكة أو الإقراض بنسبة تصل إلى 40 في المئة، في حين يتراوح حجم الاستثمار في المنشآت بين 5 ملايين و100 مليون ريال عماني (من نحو 13 إلى 260 مليون دولار). ويعمل جهاز الاستثمار العماني على إرساء التوازن في الأسواق المحلية من خلال دعم مشروعات المحافظات التنموية وتمويل بعض الشركات لضمان استدامة أدائها، مما ينعكس إيجابيا على القطاع التجاري.

ويستمر الجهاز في توسيع قاعدة أصوله خارج السلطنة لجذب مزيد من الإيرادات وتعزيز استدامة موازنته، الأمر الذي يسهم في دعم المشاريع التنموية دون زيادة الإنفاق من موازنة الدولة.

ويمتلك الجهاز حصصا في أكثر من 185 صندوقا استثماريا، وأكثر من 60 استثمارا في عدة قطاعات، تتركز غالبية هذه الاستثمارات داخل السوق المحلية بنسبة 61,3 في المئة، في حين تصل نسبة الأصول في أميركا الشمالية إلى 19,9 في المئة.

ديون عمان كانت من الأسرع نموا في الخليج ومصدر قلق للمستثمرين، لكنها قلبت المعادلة منذ 2020، فتمكنت من خفض نسبة الدين إلى النصف، وعملت الحكومة على استثمار الإيرادات عبر سياسات مالية منضبطة

زياد داود، محلل مالي ومتخصص بالاقتصادات الناشئة في وكالة "بلومبرغ"

ويرى الخبير الاقتصادي الشيذاني أن جهاز الاستثمار العماني يلعب دورا محوريا في استقرار الاقتصاد الوطني، "من خلال إطلاق صندوق 'عمان المستقبل'، مما يسهم في امتصاص الصدمات الاقتصادية الخارجية".

ويضيف أنه "في حال تعرض الشركات الحكومية لنقص في السيولة فإن الجهاز سيتدخل من خلال توفير أدوات تمويلية لاستدامة وضعها المالي وللوصول إلى مستوى الكفاءة التشغيلية، كون هذه الشركات داعمة لمنظومة الاقتصاد الكلي في سلطنة عمان".

الطريق إلى تصفية الديون

وفقا لبيانات جهاز الاستثمار العماني، فقد ساهم منذ انطلاقه في خفض مديونية الشركات بمقدار 2,5 مليار ريال عماني (نحو 6,5 مليارات دولار)، فيما تصل قيمة إنفاقه على الاستثمارات في مختلف المشاريع المحلية من خلال محفظة التنمية الوطنية التابعة للجهاز إلى نحو 8,8 مليارات ريال عماني (نحو 23 مليار دولار).

رويترز
ساحل العاصمة العمانية مسقط، 11 أبريل 2025

وقد ارتفعت الديون العمانية خلال الأعوام المنصرمة لتتخطى نسبة 60 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، إلا أنها بدأت منذ عام 2021 في التراجع تدريجيا.

وعن الاستراتيجيا العمانية للتخلص من الديون، يوضح المحلل المالي والمتخصص بالاقتصادات الناشئة في وكالة "بلومبرغ"، زياد داود، أن "ديون عمان كانت من الأسرع نموا في الخليج ومصدر قلق للمستثمرين، لكنها قلبت المعادلة منذ 2020، فتمكنت من خفض نسبة الدين إلى النصف. وقد ساعدت الظروف الاقتصادية العالمية، ولا سيما الارتفاع الحاد في أسعار النفط من 20 دولارا عام 2020 إلى 100 دولار عام 2022، وعملت الحكومة على استثمار هذه الإيرادات عبر سياسات مالية منضبطة، تضمنت فرض ضرائب جديدة وتقليل الإنفاق، بالإضافة إلى تجنب الأخطار عبر عدم اللجوء لدعم خارجي ضخم والسعي إلى تسديد الديون في موعدها قدر الإمكان، مع استبعاد خيار خفض سعر العملة كوسيلة لمعالجة الدين".

font change