الصراع الأميركي-الصيني... التجارة مجرد جزء من المعركة الكبرى

بعد قمة الرئيسين ترمب وشي لا ينبغي التظاهر بأن المفاوضات تدور حول اتفاقية

"المجلة"
"المجلة"

الصراع الأميركي-الصيني... التجارة مجرد جزء من المعركة الكبرى

اتجهت أنظار العالم بأجمعه إلى اللقاء بين أقوى زعيمين على الكوكب، الرئيس الأميركي دونالد ترمب ونظيره الصيني شي جينبينغ في كوريا الجنوبية يوم 30 أكتوبر/تشرين الأول 2025، على هامش قمة منتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادئ (APEC)، في أول لقاء مباشر بينهما منذ عودة ترمب إلى البيت الأبيض، وبعد ست سنوات من آخر لقاء شخصي جمعهما.

ومع أن المفاوضات التجارية التمهيدية التي عُقدت في ماليزيا اتسمت بنبرة تصالحية، فإن الطريق نحو التفاهم ما زال محفوفا بالشكوك. فقد شكلت هذه القمة لحظة حاسمة في تحديد ما إذا كان أكبر اقتصادين في العالم قادرين على صياغة إطار مستدام للتعايش، في وقت يخوضان فيه معركة صامتة لإعادة كتابة قواعد التكنولوجيا العالمية وسلاسل الإمداد والهندسة المالية للقرن الحادي والعشرين.

قبل لقاء الرئيسين ترمب وشي في كوريا الجنوبية، كانت العاصمتان تمارسان لعبة شطرنج استراتيجية هدفت إلى تعزيز موقعيهما التفاوضيين وبناء تحالفات داعمة. فقد شهدت الأيام السابقة للقمة زخما غير مسبوق من التحركات الدبلوماسية والاقتصادية، عكس حجم النفوذ الذي يتمتع به كل طرف في الاقتصادين الإقليمي والعالمي. سارع الرئيس ترمب إلى عقد سلسلة من الاتفاقيات المتعلقة بالمعادن الحيوية مع حلفاء رئيسين، في مسعى لتنويع مصادر التوريد وتعزيز التحالف المناهض للصين في سلاسل الإمداد. ففي منتصف أكتوبر، وقع اتفاقا بقيمة 8.5 مليار دولار مع أستراليا، يكرّس منطقة المحيطين الهندي والهادئ محورا لسلسلة توريد بديلة. وينص الإطار العام للاتفاق على استثمار مشترك في مشاريع التعدين والمعالجة، مع تخصيص مليار دولار على الأقل خلال الأشهر الستة الأولى. غير أن التفاؤل الذي أبداه ترمب بقوله إن الولايات المتحدة "ستمتلك خلال عام من المعادن النادرة كميات لن تدري ماذا تفعل بها"، يخفي حقيقة أن تطوير سلاسل توريد بديلة يواجه تحديات لوجستية وتصنيعية قد تمتد لعقد أو أكثر.

ترفض الصين الانصياع للمطالب الأميركية بخفض الإنتاج الصناعي، مؤكدة أن التصنيع سيبقى المحرك الأساسي لنموها الاقتصادي، بالتوازي مع سعيها لتحقيق قفزات تكنولوجية نوعية

كما أبرم ترمب اتفاقيات تجارية ثنائية مع دول جنوب شرق آسيا خلال زيارته إلى ماليزيا، حصل فيها على تنازلات تتعلق بالتعاون في مجال المعادن النادرة، في خطوة تهدف إلى ترسيخ النفوذ الأميركي في المنطقة ومواجهة التمدد الصيني داخل رابطة "آسيان". وفي 28 أكتوبر، وقّع اتفاقا جديدا مع رئيسة وزراء اليابان الجديدة، ساناي تاكايتشي، قبل ساعات من لقائه مع الرئيس شي. وينص الاتفاق على تبسيط إجراءات الترخيص وتنسيق الاستثمارات لتطوير أسواق متنوعة للمعادن الحيوية.

رويترز
الرئيس الأميركي دونالد ترمب يصافح الرئيس الصيني شي جين بينغ أثناء عقد اجتماع ثنائي في مطار جيمهاي الدولي، على هامش قمة منتدى التعاون الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادئ (أبيك)، في بوسان، كوريا الجنوبية، 30 أكتوبر 2020

في المقابل، أظهرت الصين بدورها قدراتها الاستراتيجية بوضوح، ساعية إلى تعزيز موقعها الجيو-اقتصادي وتقليص اعتمادها على التكنولوجيا الغربية والنظام المالي الدولي القائم. فبدلا من الارتهان للتجارة مع أميركا، تركز بكين على بناء قوتها الذاتية بما يعزز سيادتها الاقتصادية واستقلالها التكنولوجي، ويمكّنها من إعادة رسم ملامح النظام المالي العالمي. وفي نهاية أكتوبر، كشفت الصين عن خطتها الخمسية الخامسة عشرة (2026–2030)، التي تمثل تحوّلا استراتيجيا جذريا، وتضع في صلبها مبدأ "الاعتماد التكنولوجي على الذات". فبعد عقد من النجاحات التي حققتها مبادرة "صُنع في الصين 2025" التي رسّخت هيمنة بكين في مجالات السيارات الكهربائية والبطاريات والطاقة الخضراء وبناء السفن وغيرها من الصناعات الحيوية، قررت القيادة الصينية أن هذه القطاعات لم تعد ضمن أولوياتها الاستراتيجية، فخصصت الخطة الجديدة، بدلا من ذلك، موارد ضخمة لتطوير تقنيات المستقبل مثل الحوسبة الكمومية وأشباه الموصلات وواجهات الدماغ-الآلة والاندماج النووي والتصنيع البيولوجي والذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا الفضاء وشبكات الجيل السادس.

وترفض الصين الانصياع للمطالب الأميركية بخفض الإنتاج الصناعي، مؤكدة أن التصنيع سيبقى المحرك الأساسي لنموها الاقتصادي، بالتوازي مع سعيها لتحقيق قفزات تكنولوجية نوعية. هذا التوجه المزدوج– البناء على قاعدة صناعية راسخة والانطلاق نحو آفاق الابتكار– يعكس رفض بكين القاطع لنموذج "نزع التصنيع" الذي تفضّله واشنطن لمنافسيها.

لا ينبغي تعليق آمال كبيرة على نتائج القمة. وبالفعل، وصف وزير الخزانة الأميركي، بيسنت، اللقاء بأنه مجرد "اجتماع جانبي"

أما التطور الأبرز في هذا السياق فهو بلا شك إعادة تشكيل الصين للهندسة الاقتصادية الإقليمية. ففي 28 أكتوبر، وقّعت بكين ورابطة "آسيان" اتفاقية "منطقة التجارة الحرة بين الصين وآسيان 3.0"، وهي تحديث شامل لاتفاق عام 2002 الذي أطلق مسار التكامل الاقتصادي بين الجانبين. ومنذ دخول الاتفاق الأصلي حيّز التنفيذ عام 2010، قفز حجم التبادل التجاري الثنائي من 192.5 مليار دولار عام 2008 إلى 982 مليار دولار في 2024. ويؤكد هذا التحديث التزام الصين بتعميق اندماجها مع جنوب شرق آسيا، في الوقت الذي يسعى فيه ترمب إلى اجتذاب الكتلة ذاتها عبر اتفاقيات ثنائية موازية.

الرهان الحقيقي بين القوتين

ليست قمة ترمب-شي مناسَبة لمناقشة الرسوم الجمركية أو قيود التصدير فحسب، رغم أهمية هذه الملفات، بل هي لحظة مفصلية في تحديد مسار المنافسة العالمية في مجالات التكنولوجيا ومرونة سلاسل الإمداد وصراع القوى الكبرى على قيادة القرن الحادي والعشرين. بالنسبة للرئيس ترمب، تشكل القمة فرصة لإبراز قدراته التفاوضية وتهدئة الأسواق في ظل حملة إعادة التصنيع الكبرى التي أطلقها، والتي ستحدد ملامح النمو الاقتصادي الأميركي في السنوات المقبلة. وقد أعلن ترمب ثلاثة مطالب رئيسة قبيل اللقاء: معالجة احتكار الصين للمعادن النادرة. الحد من تدفق المواد الأولية لصناعة الفنتانيل إلى عصابات المخدرات في المكسيك. وزيادة مشتريات الصين من فول الصويا الأميركي. وتعكس هذه المطالب أولوياته: الأمن القومي (المعادن النادرة)، الأمن الداخلي (الفنتانيل)، والسياسة الداخلية (دعم القطاع الزراعي).

أما الرئيس شي، فلا تقل المخاطر التي يواجهها أهمية، وإن كانت تختلف في طبيعتها. فالصين تمر بتحديات اقتصادية عميقة، في وقت اختارت فيه قيادتها مضاعفة الرهان على الاستقلال التكنولوجي، كما ورد في الخطة الخمسية الجديدة للحزب. وهو لا يستطيع التراجع أمام الضغوط الأميركية دون أن يخسر رصيده السياسي ويعرض أمن الصين الاقتصادي للخطر. وتُعد قيود تصدير المعادن النادرة الورقة الأكثر تأثيرا في يد بكين، إذ تمثل نقطة اختناق حقيقية في سلاسل الإمداد العالمية للتكنولوجيا والدفاع. ومن غير المرجح أن تتخلى الصين عن هذه الورقة دون الحصول على تنازلات جوهرية في المقابل.

منافسة مضبوطة لا شراكة حقيقية

لا ينبغي تعليق آمال كبيرة على نتائج القمة. وبالفعل، وصف وزير الخزانة الأميركي، بيسنت، اللقاء بأنه مجرد "اجتماع جانبي"، في إشارة إلى أن تحقيق اختراقات جوهرية أو واسعة النطاق أمر غير مرجح. والنتيجة المرجحة هي اتفاق شكلي يمنح الطرفين ما يحتفلان به، بينما تُرحّل القضايا البنيوية إلى وقت لاحق.

ملف الفنتانيل، هو الأكثر مرونة وقابلية للتفاوض. فالصين تمتلك دوافع حقيقية للتعاون في ضبط المواد الأولية الداخلة في تصنيع هذه المادة

وكما كان متوقعا، أعلنت واشنطن وبكين في ختام لقاء ترمب-شي عن تمديد الهدنة التجارية بينهما. وهذا التفاهم يفرض رسوما تقارب 47 في المئة من الجانب الأميركي، وهو مؤلم اقتصاديا لكنه قابل للاستمرار على المدى القصير. والتوصل إلى هدنة مؤقتة تسمح للطرفين بادعاء تجنب الكارثة يُعد نجاحا معقولا في هذا السياق.

وفي ملف المعادن النادرة، قد تعرض الصين تأجيلا مؤقتا لمدة عام لأكثر قيودها صرامة، في مقابل تأخير الولايات المتحدة فرض قيود إضافية على تصدير البرمجيات والتقنيات المتقدمة. وقد يشمل ذلك تخفيفا انتقائيا لبعض الشركات الصينية دون أن يصل إلى رفع شامل للعوائق التقنية الأميركية. ويمكن لمثل هذا الترتيب أن يمنح الطرفين انتصارا جزئيا، مع الحفاظ على نقاط ضعفهما الاستراتيجية.

رويترز
عمال ينقلون التربة التي تحتوي على عناصر أرضية نادرة للتصدير في ميناء في ليانيونقانغ بمقاطعة جيانجسو في الصين، 31 أكتوبر 2010

أما ملف الفنتانيل، فيُعدّ الأكثر مرونة وقابلية للتفاوض. فالصين تمتلك دوافع حقيقية للتعاون في ضبط المواد الأولية الداخلة في تصنيع هذه المادة، رغم أن ذلك لن يعالج جذور أزمة الإدمان المزمنة في الولايات المتحدة. وقد يدفع إحراز تقدّم ملموس في هذا الملف واشنطن إلى خفض الرسوم الجمركية المفروضة على السلع الصينية المرتبطة بالفنتانيل من 20 في المئة إلى 10 في المئة، مقابل موافقة بكين على زيادة مشترياتها من فول الصويا الأميركي.

وفي المحصلة، فإن الاتفاق التصالحي الذي يتضمن تعاون الصين في مكافحة تجارة الفنتانيل مقابل خفض الرسوم، وزيادة مشتريات فول الصويا مقابل تراجع واشنطن عن تهديداتها بفرض رسوم بنسبة 100 في المئة، وتعليق الرسوم الإضافية على السفن، وتأجيل تنفيذ القيود الصينية على تصدير المعادن النادرة مع الاحتفاظ بحق تفعيلها في أي وقت، قد يشكّل الحدّ الأقصى لما يمكن للطرفين تحقيقه خلال هذه القمّة الثنائية، بالنظر إلى تشابك المصالح العميق الذي يغذّي طموح كلٍّ من البلدين للفوز في الحرب الاقتصادية الكبرى للقرن الحادي والعشرين. وفي نهاية المطاف، لن يكون هناك سوى طرف منتصر واحد.

النجاح المحدود الذي حققته قمة أكتوبر 2025 يعني كسب الوقت وتهيئة الظروف لإجراء تعديلات هيكلية طويلة الأمد في الاقتصاد العالمي

وراء النقاشات التجارية التي طغت على قمة ترمب-شي، يلوح سؤال أكثر جوهرية: هل تستطيع الولايات المتحدة والصين صياغة إطار دائم لمنافسة مضبوطة؟ أم إن العلاقات ستظل تتأرجح بين هدنات قلقة وتصعيدات متكررة؟ وهل يضمن حل ملف واحد عدم انفجار توترات جديدة في ملفات أخرى؟ يتعين على الطرفين إرساء قنوات منتظمة للحوار الدبلوماسي والعسكري والاقتصادي، قادرة على احتواء الأزمات قبل أن تتفاقم. وقد أبدى الرئيس ترمب استعداده لزيارة الصين مطلع عام 2026، فيما ناقش الرئيس شي إمكانية حضوره قمة مجموعة العشرين في فلوريدا. وينبغي التعامل مع هذه اللقاءات المستقبلية باعتبارها فرصا لتفادي الأزمات لا مجرد مناسبات بروتوكولية.

تمثل قمة ترمب-شي محطة توقف، لكنها ليست حلا نهائيا لسلسلة التصعيدات الاقتصادية الأخيرة. وإذ أسفرت عن تمديد الهدنة الجمركية، وتقديم تنازلات محدودة في ملف المعادن النادرة والتجارة الزراعية، وتجديد الالتزام بالحوار، فإنها نجحت في تجنب السيناريو الأسوأ: مواجهة عالمية شاملة. وهي نتائج مهمة بالنظر إلى محدودية ما يمكن توقعه من التعاون الأميركي-الصيني في المستقبل.

لكن التحدي الأساسي لا يزال قائما: فك الارتباط في مجالات التكنولوجيا وسلاسل الإمداد والهندسة المالية. يدرك الطرفان أن الانفصال الكامل غير مجدٍ اقتصاديا ومكلف استراتيجياً في عالم مترابط. ومع ذلك، لا يثق أي منهما بالآخر في الوصول إلى تقنيات المستقبل أو المعادن الحيوية، ولا تثق الصين في استمرار الاعتماد على نظام مالي دولي يرتكز على الدولار. وهذه التوترات لا يمكن حلها في قمة واحدة، بل قد لا تُحل إلا عبر إعادة هيكلة جذرية للاقتصاد العالمي، ربما تقودها سلسلة من الأحداث الكارثية.

النجاح المحدود الذي حققته قمة أكتوبر 2025 يعني كسب الوقت وتهيئة الظروف لإجراء تعديلات هيكلية طويلة الأمد في الاقتصاد العالمي.

وفي عالم يضج بالحروب الإقليمية بين قوى نووية، تبقى المنافسة المضبوطة بين الولايات المتحدة والصين، والمبنية على لقاءات دورية بين القيادات، خيارا أفضل بكثير من البديل.

ولذلك فإن المعيار الحقيقي لنجاح القمة لن يكون في الإنجازات الكبرى التي تحققها، بل في قدرتها على ترسيخ توافق دبلوماسي ودي يحفظ التوازن الهش في السنوات العاصفة المقبلة.

font change