فنانون وكتاب غزيون لـ"المجلة": الإبداع بعد الحرب ليس ترفا بل فعل نجاة

الحاجة إلى إعمار الثقافة بالتوازي مع إعمار الحجر

Bashar TALEB / AFP
Bashar TALEB / AFP
نازحون قرب جدارية للفنان عصام مخيمر في دير البلح

فنانون وكتاب غزيون لـ"المجلة": الإبداع بعد الحرب ليس ترفا بل فعل نجاة

توقف إطلاق النار في غزة، لكن الحياة الإبداعية لا تزال تواجه تحديات كبيرة، بعد سنتين من حرب دمر الاحتلال خلالها معظم المؤسسات الفنية والثقافية، ومزق سبل التواصل بين الفنانين والأدباء، وهو ما خلق واقعا متشظيا يطرح السؤال الحيوي عن جدوى الثقافة والإبداع في هذه المرحلة.

يصف محمود الشاعر، المدير التنفيذي لغاليري ومجلة "28"، ما حدث لمؤسسته بأنه أكثر من فقدان مكان: "هدم الغاليري وصار ركاما". ذلك الركام، بالنسبة إليه، لم يكن جدرانا فحسب، بل هو أرشيف للذاكرة الفلسطينية الحديثة، مركز للوعي، ومتنفس للمجتمع. يقول: "الثقافة ضرورة. ومن المهم أن نواصل الكتابة في كل وقت. فالتعافي يكون من خلال الكتابة".

لكن الشاعر يجد نفسه وحيدا أمام فعل الكتابة لا أكثر، "الحرب أعادتني إلى ذاتي وأعطتني مساحة للكتابة الفردية بعد أن كنت أعمل جماعيا". ويرى أن ما تبقى اليوم من ثقافة في غزة هو رماد يحتاج إلى إعادة تشكيل: "علينا استعادة الأدوات الجماعية للنهوض بعمل ثقافي جمعي. نحتاج إلى الشعور بالأمان أولا، فالمجتمع بحاجة للأمان كي يعود الجمهور، ولا عمل ثقافيا دون جمهور".

ويرى الشاعر أن الإبداع لم يعد ممارسة فردية بقدر ما هو سؤال حول البنية الممكنة لوجوده: "نحن بحاجة إلى مأسسة الأعمال الفردية، وتحويل الحدث المأسوي إلى فن، وهذا يتطلب تمويلا كبيرا. الاحتلال يملك المؤسسات، أما نحن فلا نملك إلا الذاكرة".

مركب للنجاة

في الطرف الآخر من المشهد، تتذكر الفنانة التشكيلية لميس الشريف لوحاتها الممزقة، حيث كانت قبل الحرب من مؤسسات "أتيليه غزة" للفنانات التشكيليات.

نحن بحاجة إلى مأسسة الأعمال الفردية، وتحويل الحدث المأسوي إلى فن، وهذا يتطلب تمويلا كبيرا. الاحتلال يملك المؤسسات، أما نحن فلا نملك إلا الذاكرة 

محمود الشاعر

 الأتيليه المقام في مبنى "جمعية الشبان المسيحيين"، تحول إلى مأوى للنازحين. تقول: "دخل الناس إلى المبنى، ومزقوا اللوحات لاستخدام خشبها في إشعال النار للطهي. لم يكن فعلهم مضادا للفن، بل بحثا عن النجاة".

تعرف الشريف أن الفن لا يغني من جوع، لكنها تصر على أن "العمل الثقافي مركب لنجاة المجتمعات، مثل التعليم تماما"، وتتأمل بمرارة الفجوة بين الحاجة إلى الخبز والحاجة إلى الجمال: "المعضلة أن المواطن الذي يعيش في خيمة، لا يشعر بالأمان، ولا يستطيع تأمين لقمة عيشه، فكيف ستحميه الثقافة من مأساته؟".

لكنها تستدرك: "مأساتنا ليست سلعة. كل من يقدم شكلا جماليا لمعاناته لا يتجمل، بل يحاول أن يخاطب الحياة بذاكرته الجمالية".

Omar AL-QATTAA / AFP
الفتاة الفلسطينية إسراء سعدة (17 عاماً) ترسم على خيمة في مخيم نازحين بغزة

ترى الشريف أن هناك أفكارا لا يمكن أن يستوعبها الفن، أو البناء الثقافي من خلالها، بقدر ما هي تجريب من أجل تجاوز كارثة تقيم داخل الإنسان: "خلال عملي مع الأطفال إبان الحرب، واجهت شهادات لأطفال عاشوا ويلات النزوح، واحتكوا بالجنود وعرفوا الخوف والموت، وشاهدوا الجثث المتحللة، ومنهم من تعثر بها. كيف للثقافة أن تساهم في معالجة تلك التشوهات؟ هذا هو لب العمل الثقافي المستقبلي في غزة".

لوحات الشريف الجديدة لا تهدف إلى الزخرفة، بل إلى إثبات أنها لا تزال على قيد الحياة: "ما أنتجته خلال الحرب كان طابعا شخصيا، لا جمالي ولا جمعي، كنت بحاجة إلى أن أشعر بأنني موجودة".

المعضلة أن المواطن الذي يعيش في خيمة، لا يشعر بالأمان، ولا يستطيع تأمين لقمة عيشه، فكيف ستحميه الثقافة من مأساته؟ 

لميس الشريف

وهي ترى أن العودة إلى الفعل الثقافي الجماعي تبدو شبه مستحيلة الآن، لكنها لا تغلق الباب: "ربما في المستقبل القريب، بخطوات صغيرة، بمكان جديد، بتمويل متواضع، وبإيمان بسيط بأن عجلة الحياة بدأت تتحرك".

BASHAR TALEB / AFP
زائرة نتأمل لوحات لأطفال فلسطينيين نازحين في خان يونس

مساحة للذاكرة

أما الفنان التشكيلي والمخرج باسل المقوسي، فيكتب كمن يرسم الكلمات: "أستعير عيون الصاعدين إلى السماء لأرسم غزة وأترك مساحة في الذاكرة لما كان منها".

شارك المقوسي في مجموعة أفلام "من المسافة صفر" التي عرضت في "مهرجان كان السينمائي"، وهو من مؤسسي "غاليري التقاء للفن المعاصر" الذي قصف خلال الحرب.

لا يرى المقوسي الفن توثيقا جامدا بل هو خطاب للعالم: "الفنان لا يوثق الأحداث بالمعنى الحرفي، بل يخاطب بها العالم فنيا، لأن كثيرين لا يستطيعون مشاهدة صور الجرائم، لكنهم يستطيعون استقبالها عبر الموسيقى والمسرح والرواية والشعر".

يرى المقوسي أن الفضاء الرقمي أصبح المسرح البديل، بعد أن مسحت المراكز والغاليريات من الخريطة، "اليوم يمكن عرض الأعمال عبر وسائل التواصل، حتى يحين وقت إعادة إعمار المراكز والمسارح. لم يتوقف الإبداع يوما رغم كل المنع والقمع"، مؤكدا أن الفن هو "اليد الناعمة للمقاومة"، والمثقف "أول من يقاوم وآخر من يهزم".

لن يكون إعمار غزة متعلقا بالشوارع والمدارس فحسب، بل هو إعمار لكل مناحي الحياة، وسيكون للثقافة نصيب كبير في ذلك 

باسل المقوسي

حين يتحدث عن مستقبل غزة الثقافي، تبدو كلماته مشوبة بالوجع والأمل: "لن يكون إعمار غزة متعلقا بالشوارع والمدارس فحسب، بل هو إعمار لكل مناحي الحياة، وسيكون للثقافة نصيب كبير في ذلك".

إيصال الصوت

في السينما، يجد المخرج محمد الشريف معنى آخر للمقاومة. يقول: "الاستمرار بالنسبة إلي هو فعل مقاومة ونجاة في آن واحد. الفن في حالتنا ليس ترفا، هو وسيلتنا لنحكي قصتنا ونوصل صوتنا الى العالم بينما الجميع يحاول إسكاتنا".

قدم محمد الشريف خلال الحرب، أفلاما سينمائية عدة، تناولت أصوات الحرب ومشاعر الإنسان داخل غزة، كان آخرها فيلم "حسن" الذي عرض في "مهرجان الجونة السينمائي".

الفن عنده ليس مرآة للكارثة، بل لغة بديلة من الخبر العاجل، "في لحظة الحرب، التوثيق ليس خيارا، بقدر ما هو واجب. لكننا نوثق بطريقتنا السينمائية التي تحكي الوجع من الداخل".

لا يملك الشريف قاعة عرض، ولا منصة سينما، لكنه يرى أن الوعي لا يحتاج جدرانا: "حتى لو المسارح تضررت، فالفكر يبقى حيا، في داخلنا، والسينما اليوم صارت أقوى وسيلة لتوثيق الوعي ونشره".

يتحدث عن الفن كعلاج أيضا، خصوصا للأطفال: "الفن مساحة آمنة للتعبير، يساعد الأطفال في إعادة ترميم أنفسهم".

لكن خوفه الأكبر هو من "تسليع المأساة"، حين يتحول وجع غزة إلى مادة جاهزة للعرض، "نخشى استغلال مشاعرنا ومعاناتنا وتحويل وجعنا إلى سلعة بدلا من أن يكون رسالة حقيقية".

ورغم كل شيء، يظل متمسكا بالإيمان بأن "الفن أقوى من الحرب، لا ينكسر ولا يموت، هو الذي يجعلنا نصدق أنه ما زالت هناك حياة بعد كل الدمار".

Omar AL-QATTAA / AFP
فتاة فلسطينية تمرّ قرب مركز رشاد الشوا الثقافي المدمّر في غزة

بين الشاعر الذي يبحث عن ذاته المستعصية، والفنانة التي ترمم عالمها الغريب، والمخرج الذي يوثق الوجع بالصورة، وتشكيلي آخر يرسم ليرى الطريق المردوم، تتقاطع الأصوات لتقول شيئا واحدا، إن الإبداع ليس ترفا بل فعل نجاة.

الفن أقوى من الحرب، لا ينكسر ولا يموت، هو الذي يجعلنا نصدق أنه ما زالت هناك حياة بعد كل الدمار

كل واحد منهم يرى في الفن وسيلة لإثبات البقاء، ولتطهير الذاكرة من الموت. ومع ذلك، يبقى الخوف مشتركا: كيف يمكن استعادة الحياة الثقافية في مدينة بلا مسارح ولا جمهور؟

OMAR AL-QATTAA / AFP
تلاميذ فلسطينيون في صف تطريز تراثي بمخيم نزوح في خان يونس

الكل يتحدث عن "العمل الجماعي" كحلم مؤجل. فالجهود الفردية أنقذت الأرواح، لكنها لا تبني مشروعا طويل الأمد. يقول محمود الشاعر: "استثمار الأزمات ضروري لبقاء القصة. نحن من عشنا الإبادة، وعلينا أن ننقل قصتنا الى الآخرين".

ويضيف المقوسي من جانبه: "الكثير من الفنانين صنعوا الفن من لا شيء، وشاركوا في مهرجانات عالمية، لأننا ببساطة لا نعرف التوقف".

font change

مقالات ذات صلة