ورشات الكتابة الإبداعية بين صقل المواهب ووهم الإبداع

حافز للتعمق في القراءة أو وصفات جاهزة للكتابة التجارية

ورشات الكتابة الإبداعية بين صقل المواهب ووهم الإبداع

في عالم الأدب، حيث تتشابك خيوط الأحلام بالواقع، وتتجاذب الأقلام بين شغف الإبداع ومتطلبات الصنعة، برزت ورشات الكتابة الإبداعية كظاهرة ثقافية تثير النقاش والجدال. فهل هي فضاءات فعالة لتعليم الكتابة وصقل المواهب، أم أنها مجرد واجهات تجارية تبيع أوهام النجاح الأدبي؟ هذا السؤال، الذي يعكس توترات العصر بين الطموح الفردي وديناميات السوق الثقافية، يطرح نفسه بإلحاح في المشهد الأدبي العربي. في هذا التحقيق، نستطلع آراء عدد من الكتاب والنقاد العرب، مع الإضاءة على تجارب عالمية وأمثلة ملموسة، لنستكشف هذه الظاهرة من زوايا متعددة.

موهبة فطرية أم صنعة مكتسبة؟

يبدأ النقاش من سؤال جوهري: هل يمكن تعليم الإبداع؟ الروائي المغربي محمد سعيد احجيوج يضعنا أمام معادلة واضحة: "الكتابة الإبداعية تقوم على دعامتين، الموهبة الفطرية والصنعة المكتسبة". لكنه يرى أن الرواية العربية غالبا تعاني من غياب الاثنتين، خاصة الصنعة. يقول: "الصنعة الفنية الحقيقية ليست مجموعة قواعد يمكن تلقينها في بضعة أيام، بل هي بصمة أسلوبية تتطلب سنوات من القراءة المعمقة والممارسة الدؤوبة". ففي رأيه، الورشات، حتى في أفضل أحوالها، تقدم وصفات جاهزة تنتج أدبا تجاريا، مثل الروايات البوليسية أو أدب النوع، الذي يعتمد على هياكل سردية ثابتة، لكنها نادرا ما تصل إلى عمق الأعمال الكلاسيكية مثل ’موسم الهجرة إلى الشمال’ للطيب صالح".

ويحذر احجيوج من أن الورشات غالبا تبيع وهما للحالمين بالمجد الأدبي، خاصة عندما ترتبط بدور نشر تعد بنشر الأعمال أو تشرف عليها أسماء شهيرة كعلامات تسويقية، مما يخلق دائرة مفرغة من صناعة الأوهام.

الصنعة الفنية الحقيقية ليست مجموعة قواعد يمكن تلقينها في بضعة أيام، بل هي بصمة أسلوبية تتطلب سنوات من القراءة المعمقة والممارسة الدؤوبة

محمد سعيد احجيوج

الروائي السوري خليل النعيمي يتبنى موقفا أكثر حدة، معتبرا الكتابة فعلا نرجسيا خالصا ينبع من التوتر والرفض. يقول: "الإبداع ليس سلعة، وعظمته تكمن في تلقائيته". ويصف الورشات بأنها تسعى إلى "تخضيع أهواء الكاتب" لتتوافق مع متطلبات السوق، مما يجعلها "ورشات كآبة" تعلم الخضوع بدلا من تحرير الإبداع. ويتساءل: "من أي ورشة تخرج الطيب صالح أو عبد الرحمن منيف؟"، مشيرا إلى أن "الأدب العظيم كان نتاج تجارب فردية عميقة. هذا الرأي يتردد صداه عالميا، حيث لم يعتمد كتاب مثل إرنست همنغواي أو فيودور دوستويفسكي على ورشات، بل على القراءة المكثفة والتجربة الشخصية. همنغواي، في كتابه 'عيد متحرك'، يروي كيف شكلت قراءاته لتولستوي وتشيخوف 'مدرسته' الحقيقية"، مؤكدا أن الكتابة تنبع من حياة الكاتب الداخلية، لا من قوالب معدة مسبقا.

غلاف رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" للكاتب السوداني الطيب صالح

الورشات كجسر للتعليم: رؤية متفائلة

لكن الرؤية ليست قاتمة بالكامل. الناقد السعودي محمد العباس يقدم منظورا متفائلا، معتبرا الورشات ضرورة لاختصار المسافات على الكتاب الشباب. يقول: "ورشات الكتابة تختصر على الموهوبين مسافات من الركض وراء الفراغ، لكن يشترط أن تكون الورشات خاضعة لمنهج علمي يقدمه خبراء"، مستشهدا بتجارب غربية ناجحة، مثل برنامج الكتابة الإبداعية في جامعة آيوا، الذي أنتج كتابا مثل فلانري أوكونور وجون إيرفينغ، أو جامعة إيست أنجليا التي صقلت موهبة إيان ماك إيوان وكازوو إيشيغورو. لكنه ينتقد الواقع العربي، حيث تحولت الورشات إلى "احتيال تجاري" بسبب غياب الرقابة وقلة خبرة المدربين. هذا الانتقاد يتسق مع تحذير الناقد الأميركي جون غاردنر في كتابه "فن الرواية"، حيث يرى أن الورشات غير المنهجية قد تؤدي إلى نصوص متشابهة تفتقر إلى الأصالة. على سبيل المثل، في العالم العربي، ورشات أنتجت أعمالا لاقت رواجا تجاريا، لكنها لم تترك بصمة أدبية عميقة.

الروائي المصري أحمد مجدي همام يشاركنا تجربته في ورشة "آفاق" ببيروت تحت إشراف جبور الدويهي، مؤكدا أن الورشات لا تصنع كاتبا من العدم، لكنها قادرة على صقل الموهبة. يروي كيف ساعدته مناقشات الدويهي على تحسين نصوصه، خاصة في بناء الحبكة وتطوير الشخصيات. لكنه يحذر من تحول الورشات إلى تجارة، حيث أصبحت المشاركة تعتمد على القدرة المالية. هذه الملاحظة تجد صدى في تجربة الكاتبة الأميركية توني موريسون، التي شاركت في ورشات بجامعة برينستون، وأكدت في مقابلة منشورة في "ذي باريس ريفيو" أن نجاح الورشة يعتمد على المشرف وقدرته على تحفيز الكاتب لاكتشاف صوته الخاص، لا فرض قوالب جاهزة.

الكاتب السوري إسلام أبو شكير، من خلال تجربته في الإشراف على عشرات الورشات، يقدم رؤية متوازنة. يرى أن الورشات مفيدة إذا صممت لتعزيز الحس النقدي واكتشاف الصوت الخاص، مع تجنب التلقين. يقول: "الورشة لا تصنع كاتبا من لا شيء، لكنها تساعد من يملك الرغبة الحقيقية على الكتابة بوعي".

الأدب العظيم كان نتاج تجارب فردية عميقة. هذا الرأي يتردد صداه عالميا، حيث لم يعتمد كتاب مثل إرنست همنغواي أو فيودور دوستويفسكي على ورشات، بل على القراءة المكثفة

خليل النعيمي

ويروي أبو شكير كيف تحسن أداء بعض المشاركين بشكل ملحوظ، مثل كاتب شاب بدأ بقصص قصيرة مرتبكة وانتهى برواية قصيرة منشورة، بفضل التوجيه في الورشة. هذا المنظور يتماشى مع تجربة كازوو إيشيغورو، الذي أشار في مقابلة مع صحيفة "ذي غرديان" عام 2017 إلى أن ورشات إيست أنجليا ساعدته في صقل مهاراته في بناء السرد، لكنها لم تحل محل قراءته المكثفة لكافكا ودوستويفسكي.

GettyImages
مباني سكن الطلاب المعروفة باسم "الزيغورات" في حرم جامعة إيست أنغليا، نورويتش، إنكلترا

المكتبة: الورشة الحقيقية

في مقال بعنوان "كذبة أدبية كبيرة اسمها: ورشة كتابة الرواية"، يطلق الكاتب الجزائري أمين الزاوي صرخة مدوية ضد الورشات، واصفا إياها بـ"مضغ الوهم". فهو يرى أن الكتابة الإبداعية لا تخضع للتعليم التقليدي، بل هي "سفر ضد المكرس" و"تحطيم الأصنام".

ويؤكد الزاوي أن الورشة الحقيقية هي "ورشة القراءة"، وأن المكتبة هي "الجنة" التي تحدث عنها بورخيس في "مكتبة بابل". يقول: "الكاتب الجيد قارئ أجود"، مشيرا إلى أن القراءة تشكل الذائقة الجمالية وتؤدي إلى ولادة كاتب متفرد. التاريخ يدعم هذا الرأي، حيث أنتجت مكتبات مثل الإسكندرية وتمبكتو أعمالا خالدة، من "الحمار الذهبي" لأبوليوس إلى نصوص ابن رشد الفلسفية.

ورشات الكتابة تختصر على الموهوبين مسافات من الركض وراء الفراغ، لكن يشترط أن تكون خاضعة لمنهج علمي يقدمه خبراء

محمد العباس

ويشارك الناقد الجزائري اليامين بن تومي الزاوي موقفه، واصفا الورشات بـ"وجبات سريعة" لا تلبي شروط الإبداع. يتساءل: "هل يمكن ورشة أن تخرج كاتبا دون شغف بقراءة هوميروس أو نجيب محفوظ؟"، معتبرا أنها خطر على الذائقة الأدبية. هذا التحذير يتسق مع رأي الناقد الأميركي هارولد بلوم في "القلق من التأثير"، حيث يرى أن الإبداع ينبع من صراع الكاتب مع أسلافه عبر القراءة العميقة.

GettyImages
بورتريه لإرنست همنغواي

التجربة العالمية: دروس وتحذيرات

تجربة الورشات عالميا تقدم دروسا متباينة. في الولايات المتحدة، برامج مثل "ورشة الكتابة في آيوا" أنتجت كتابا مثل كورت فونيغوت، الذي استفاد من مناقشات جماعية لتطوير روايته "مسلخ 5". لكن الناقدة ميشيل دي كريسيه، في مقال لها في "ذي نيويوركر"، حذرت من أن الورشات قد تؤدي إلى "توحيد الأصوات"، حيث تنتج نصوصا متشابهة بسبب التركيز على قوالب محددة.

في أوروبا، ساعدت برامج إيست أنجليا كتابا مثل إيان ماك إيوان، لكن ماك إيوان أكد في مقابلة مع "ذي غرديان" أن الورشات كانت مفيدة فقط لتوجيهه نحو القراءة العميقة لجيمس جويس. أما في العالم العربي، فتفتقر الورشات إلى هذا العمق الأكاديمي في معظمها، لأنها تسند بناء على العلاقات التي يملكها المدرب أو مدير الورشة، الذي قد لا يملك موهبة نقل معارفه السردية، حتى وإن كان يملك موهبة كتابة خارقة، ولعل هذا ما جعل الروائي المغربي أحمد المديني يرى أن الورشات، إذا أشرف عليها معلم راسخ، يمكن أن تكون دليل سير للكاتب الناشئ، مستحضرا "رسائل إلى شاعر ناشئ" لريلكه، شرط تبناه ضمنيا محسن الرملي في مقال دافع فيه عن الورشات، مشيرا إلى أن كتابا مثل غبريال ماركيز، الذي شارك في ورشات في كولومبيا، استفاد منها في صقل أسلوبه في "مائة عام من العزلة"، بل نجده يدعو إلى إدخال الورشات في المؤسسات التعليمية العربية كعلم مرتبط بالنفس واللغة والجمال.

تصميم الورشة المثالية

لكن، كيف يمكن تحقيق التوازن بين النقد والتفاؤل، وكيف نتمكن من تصميم ورشة كتابة مثالية؟ سؤال يجد إجابته في الآراء السابقة: أولا، يجب أن يشرف عليها كاتب أو ناقد متمرس. ثانيا، ينبغي أن تركز على تنمية الحس النقدي بدلا من فرض قوالب، كما يقترح إسلام أبو شكير، مع التركيز على مناقشة مشاريع المشاركين. ثالثا، يجب أن تتضمن برنامجا طويل الأمد يشمل القراءة الموجهة لأعمال كلاسيكية مثل "دون كيخوته" أو "مدن الملح". رابعا، ينبغي أن تكون الورشات مدعومة بمؤسسات أكاديمية أو ثقافية لضمان الجودة، على غرار نموذج آيوا.

ينبغي أن تركز الورشة على تنمية الحس النقدي بدلا من فرض قوالب، كما يقترح إسلام أبو شكير، مع التركيز على مناقشة مشاريع المشاركين

في العالم العربي، تملك بعض المؤسسات قدرة على تبني مثل هذه المبادرات وبهذه الشروط، على غرار ورشة "بوكر" العربية التي دأبت إدارة الجائزة العالمية للرواية العربية على تنظيمها، لكنها تصر للأسف على عدم تطويرها رغم إمكاناتها الكبيرة.

ورشات الكتابة الإبداعية تقف على مفترق طرق. فهي، من جهة، يمكن أن تكون جسرا لصقل المواهب، كما أثبتت تجارب آيوا وإيست أنجليا، لكنها تحتاج إلى منهجية علمية ومشرفين مؤهلين. ومن جهة أخرى، قد تتحول إلى فخ تجاري يستغل أحلام الشباب، كما يحدث في كثير من الورشات العربية. الجميع يتفق على أن القراءة العميقة والممارسة الدؤوبة هما العمود الفقري للإبداع. كما يقول بورخيس: "المكتبة هي الجنة"، وربما تكون الورشة مكملا مفيدا إذا صممت بعناية.

مستقبلا، ينبغي أن يعمل العالم العربي على بناء ورشات منهجية مدعومة أكاديميا، تركز على اكتشاف الأصوات الفردية وتشجع القراءة المعمقة، لتكون جسرا حقيقيا نحو إبداع أدبي متميز ينافس الأعمال العالمية.

font change