مقاطعة إسرائيل رياضيا... هل تؤتي ثمارها؟

على الأرجح لن تنجح إلا بمصاحبة إجراءات أخرى وليس بمفردها

المجلة
المجلة

مقاطعة إسرائيل رياضيا... هل تؤتي ثمارها؟

باعتباري من أشد مشجعي أستون فيلا، تابعت باهتمام النقاش الدائر حول احتمال طرد الأندية الإسرائيلية من دوري أبطال أوروبا لكرة القدم، نظرا لأن فريقي من المقرر أن يلعب ضد مكابي تل أبيب في "الدوري الأوروبي" في نوفمبر/تشرين الثاني. لطالما حمل أنصار حركة المقاطعة (مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها والتي تعرف اختصارا بـ"BDS" على عاتقهم دعوات لمنع الرياضيين الإسرائيليين من المشاركة في المسابقات الدولية لعقود مديدة، إلا أن أهوال الصراع في غزة أعطت هذه الدعوات زخما إضافيا. وبعد أن أعلنت لجنة التحقيق المستقلة التابعة للأمم المتحدة في سبتمبر/أيلول أن إسرائيل ارتكبت إبادة جماعية في غزة، ارتفعت أصوات شخصيات وخبراء في الأمم المتحدة والكثير من الحكومات مطالبين بفرض مقاطعة رياضية بحق إسرائيل. ومنذ ذلك الحين، خفف نجاح دونالد ترمب في التوسط لوقف إطلاق النار بين إسرائيل و"حماس" من حدة القضية إلى حد ما، مما يعني أن فريق تل أبيب قد يزور فيلا بارك. لكن من غير المرجح أن تتلاشى الفكرة كليا، وسوف يدفع مناصرو الحظر بالفكرة باعتبارها أداة فعالة للضغط على إسرائيل. ولكن هل هذا تقييم عادل؟ وهل يمكن للمقاطعة الرياضية أن تؤتي ثمارها حقا؟

سجل المقاطعات الرياضية

ترى مجلة "الإيكونوميست" أن مقاطعة الألعاب الرياضية "قديمة قدم الرياضة نفسها" حيث هددت أثينا القديمة بالانسحاب من دورة الألعاب الأولمبية في القرن الرابع قبل الميلاد بعد اتهام أحد رياضييها بالغش. أما في العصر الحديث، فقد اسُتخدم كل من الحظر والمقاطعة الرياضية كأدوات لمحاولة تغيير سلوك الحكومات. وكمثال على هذا، قاطعت الولايات المتحدة مع 66 دولة أخرى دورة الألعاب الأولمبية عام 1980 في موسكو احتجاجا على غزو الاتحاد السوفياتي لأفغانستان آنذاك. وقبل أربع سنوات، قاطعت 29 دولة معظمها من أفريقيا ودول العالم العربي "ألعاب مونتريال" لأن اللجنة الأولمبية الدولية (IOC) لم تفرض عقوبات على نيوزيلندا لقيام فريقها للراكبي بجولة في جنوب أفريقيا في عهد الفصل العنصري.

الاستثناء الأبرز هو نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، ما جعله نموذجا يحتذى لحركة المقاطعة (BDS) ومثيلاتها من الحركات

وفي مثال أحدث، قاطع دبلوماسيون أميركيون دورة الألعاب الأولمبية الشتوية 2022 في بكين، احتجاجا على معاملة الصين لمسلمي الأويغور، على الرغم من أن رياضييها لم يقاطعوا البطولة وخاضوا منافساتها. أما الأكثر لفتا للنظر فكان طرد فرق كرة القدم الروسية من مسابقات الاتحاد الدولي والاتحاد الأوروبي لكرة القدم، ومنع رياضييها من المشاركة في الألعاب الأولمبية بعد غزو فلاديمير بوتين لأوكرانيا في عام 2022.

رويترز
رفع علم فلسطين ولافتة خلال احتجاج مكتوب عليها "ملعبك هو اختيارك، قاطع إسرائيل" في وسط المدينة للاحتجاج ضد فريق مكابي تل أبيب، في بطولة الدوري الأوروبي لكرة القدم، اليونان، 24 سبتمبر 2025

ومع ذلك، لا بد من التساؤل حول التأثير الفعلي لهذه التدابير. لقد غابت الولايات المتحدة عن موقعها المعتاد بالقرب من قمة جدول ميداليات أولمبياد 1980، إلا أن المقاطعة لم يكن لها تأثير آخر يذكر، فالاتحاد السوفياتي بقي في أفغانستان لتسع سنوات أخرى. وبالمثل، لم تغير مقاطعة عام 1976 موقف نيوزيلندا على الفور، حيث دعي فريق الراكبي لجنوب أفريقيا (Springboks) للقيام بجولة في نيوزيلندا عام 1981، وإن جاءت تلك الجولة وسط موجة احتجاجات واسعة جعلتها آخر زيارة من نوعها حتى سقوط نظام الفصل العنصري. كذلك لم تتأثر معاملة الصين للمسلمين في شينغيانغ بغياب الدبلوماسيين الأميركيين عن دورة الألعاب الأولمبية الشتوية، ومع مشاركة الرياضيين الأميركيين في المنافسات تأكدت الطبيعة الاستعراضية اللامبالية لاعتراضات الولايات المتحدة. وفي الوقت نفسه، لا يبدو أن غياب روسيا الرسمي عن المسابقات الأولمبية ومسابقات الفيفا والاتحاد الأوروبي لكرة القدم لمدة ثلاث سنوات قد أثر على نهج بوتين إزاء أوكرانيا حتى الآن. وعلى الرغم من رواجها، فالغالبية العظمى للمقاطعات وسياسات الحظر الرياضي لا تغير سلوك الحكومات.

جنوب أفريقيا كاستثناء

الاستثناء الأبرز هو نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، ما جعله نموذجا يحتذى لحركة المقاطعة (BDS) ومثيلاتها من الحركات. ومنذ عام 1964 مُنعت جنوب أفريقيا من المشاركة في الألعاب الأولمبية، وبحلول عام 1988 أعلنت اللجنة الأولمبية الدولية معارضتها لنظام الفصل العنصري في كافة الألعاب الرياضية. وفي حين كانت المقاطعة الرياضية في البداية بقيادة الدول الأفريقية الخارجة من الاستعمار، فإن الحكومات الغربية تعرضت في نهاية المطاف لضغوط جمة للانضمام إلى المقاطعة. وعندما سقط نظام الفصل العنصري، كانت جنوب أفريقيا منبوذة رياضيا على المستوى الدولي.

قادت تركيا وإسبانيا دعوات لمعاملة إسرائيل مثلما عوملت روسيا في عام 2022 وطردها من منافسات الاتحاد الأوروبي لكرة القدم والفيفا والأولمبياد

يبدو جليا أن المقاطعة الرياضية لعبت دورا في انهيار نظام الفصل العنصري. فقد ذكر استطلاع للرأي أُجري عام 1990 أن ما يقرب من 75 في المئة من البيض في جنوب أفريقيا، المعروفين بولعهم بالرياضة، قالوا إنهم تأثروا بشدة بسبب المقاطعة، وهو ما يشير إلى أنها ساهمت في دعمهم لقرار فريدريك دي كليرك بالتواصل مع نيلسون مانديلا وإنهاء نظام الفصل العنصري. بيد أن المقاطعة لم تلعب دورا فعالا إلا لأنها جاءت مصحوبة بعوامل أخرى. لا يمكن لأحد أن ينكر أن البيض في جنوب أفريقيا أصيبوا بالإحباط بسبب عزلتهم الرياضية الدولية، لكنهم تأثروا في الوقت نفسه بالعقوبات الاقتصادية المفروضة على النظام والتمرد العنيف المستمر الذي شنه معارضو الفصل العنصري، الذي ترافق أيضا مع حملة كبيرة للمجتمع المدني، شارك فيها نشطاء من البيض إلى جانب النشطاء السود ومختلطي الأعراق ضد النظام.

أ.ف.ب
مظاهرة تطالب بتعليق مباراة كرة السلة في الدوري الأوروبي بين باسكونيا ومكابي تل أبيب في إسبانيا في 7 فبراير 2025

والجدير ذكره أن انهيار نظام الفصل العنصري النهائي جاء في خضم تحولات جيوسياسية كبرى. فمع انتهاء الحرب الباردة، فقد نظام الفصل العنصري تدريجيا قيمته كحصن منيع ضد الشيوعية في أفريقيا، مما دفع حكومات غربية مختلفة إلى التخلي عن معارضتها للعقوبات في منتصف ثمانينات القرن الماضي، وهو ما دق المسمار الأخير في نعش هذا النظام. ومن ناحية أخرى، بحلول الوقت الذي أُطلق فيه سراح نيلسون مانديلا، كانت جنوب أفريقيا تخضع لشكل من أشكال المقاطعة الرياضية لما يقرب من ثلاثين عاما. لقد كانت عملية تراكمية بطيئة ساعدت، مصحوبة بعوامل أخرى، على إقناع بعض البيض في جنوب أفريقيا بتغيير مسارهم.

هل ثمة نموذج خاص بإسرائيل؟

تقف إسرائيل اليوم في ملعب مختلف كليا. قادت تركيا وإسبانيا دعوات لمعاملة إسرائيل مثلما عوملت روسيا في عام 2022 وطردها من منافسات الاتحاد الأوروبي لكرة القدم (UEFA) والفيفا  والأولمبياد. وذهبت الأمور أبعد من ذلك عندما اقترح الاتحاد الأوروبي لكرة القدم عقد اجتماع لمناقشة إيقاف مشاركة "مكابي تل أبيب" والمنتخب الإسرائيلي في المسابقات، إلا أن هذا الاقتراح تأجل بعد الإعلان عن خطة ترمب لوقف إطلاق النار. وكانت ثمة احتجاجات مماثلة ضد الفرق الإسرائيلية المشاركة في سباقات الدراجات الدولية، واقتراحات باستبعاد تلك الفرق. ومع ذلك، حتى لو أصبحت هذه المقترحات أمرا واقعا ودخلت حيز التنفيذ (وهو أمر غير مضمون، نظرا لمعارضة دول مثل ألمانيا والمجر داخل الاتحاد الأوروبي لكرة القدم، ومعارضة الولايات المتحدة داخل الفيفا) فأولئك الذين يتوقعون تكرار ما حدث في جنوب أفريقيا عليهم أن لا يرفعوا سقف آمالهم كثيرا.

أولا: ستكون هذه المقاطعة الرياضية الأولى من نوعها التي تواجهها إسرائيل. وإذا أخذنا بالاعتبار أن مقاطعة جنوب أفريقيا استغرقت ثلاثين عاما كي تؤتي ثمارها، وأن المقاطعات الرياضية الأخرى التي عرضناها آنفا لم تحقق غاياتها، فإعلان الحظر وحده لن يكون كافيا دون أدنى شك.

لا يمكن الجزم ما إذا كان لمناقشات الاتحاد الأوروبي لكرة القدم بشأن تعليق مشاركة الفرق الإسرائيلية أي تأثير على قرار نتنياهو بقبول خطة ترمب لوقف إطلاق النار

ثانيا: إن العوامل الإضافية التي لعبت دورا في جنوب أفريقيا غائبة إلى حد كبير في إسرائيل اليوم.  ثمة معارضة عنيفة لسياسات إسرائيل، إلا أنها لم ترتق إلى مستوى فرض عقوبات دولية كبيرة عليها، على الرغم من جهود حركة المقاطعة (BDS) في هذا الصدد. إضافة إلى أن العوامل الجيوسياسية تصب حتى الآن في صالح إسرائيل، التي ما زالت تحظى بدعم دول غربية مهمة، في مقدمتها الولايات المتحدة، على عكس جنوب أفريقيا في أواخر الثمانينات.

هل هناك تأثير فعلي؟

على هذا، يخبرنا التاريخ بأنه حتى لو نجح دعاة المقاطعة في إقناع عدد كبير من الدول بمنع إسرائيل من المشاركة في المسابقات الرياضية، فلن يكون ذلك وحده كافيا لتغيير الرأي العام الإسرائيلي، وبالتالي تغيير سلوك الحكومة. كما يخبرنا نموذج جنوب أفريقيا الذي تتخذه حركة المقاطعة (BDS) ومثيلاتها مثالا يحتذى، بضرورة اتخاذ تدابير إضافية كثيرة كي يكون للحظر أثر جدي ملموس. لا يعني هذا أن الجهود المبذولة قد تذهب أدراج الرياح، ولكنه على الأرجح لن ينجح إلا بمصاحبة إجراءات أخرى، وليس بمفرده.

أ.ف.ب
مشجعو فريق باوك اليوناني يرفعون الأعلام الفلسطينية خلال مباراة اليوم الأول من بطولة الدوري الأوروبي لكرة القدم، بين فريق باوك سالونيكي وفريق مكابي تل أبيب في ملعب تومبا في سالونيك في 24 سبتمبر 2025

مع ذلك، ثمة من يزعم بأن التهديد بالمقاطعة قد ترك أثرا بالفعل. لا يمكن الجزم ما إذا كان لمناقشات الاتحاد الأوروبي لكرة القدم بشأن تعليق مشاركة الفرق الإسرائيلية أي تأثير على قرار نتنياهو بقبول خطة ترمب لوقف إطلاق النار، ولكن ربما كان لعزلة إسرائيل المتزايدة من قبل المجتمع الدولي، ومن بينها العزلة في ميادين الرياضة، تأثير ما. لا شك أن مناصري حركة المقاطعة وغيرهم قد يجادلون بأن التهديد بالمقاطعة لعب دورا ما، وسيواصلون بالتأكيد الدعوة إليها للضغط على إسرائيل مستقبلا. إلا أن الفشل الذي منيت به المقاطعات الرياضية في أماكن أخرى يشير إلى ضرورة اتخاذ المزيد من الإجراءات إلى جانب الحظر الرياضي لفرض تغييرات جذرية في سياسات الحكومات.

font change