إسرائيل بين محاولات الهيمنة الإقليمية والقبول بـ"شركاء متكافئين"

 اف ب
اف ب
الجنود الاميركيون الذين يشغلون نظام الدفاع الجوي "باتريوت" الذي يحمي اسرائيل يرفعون العلمين الاميركي والاسرائيلي في قاعدة ريشون ليتزيون في 20 ابريل 2003

إسرائيل بين محاولات الهيمنة الإقليمية والقبول بـ"شركاء متكافئين"

يُنسب إلى تيودور هرتزل، مؤسس الحركة الصهيونية، قوله: "إن الأمم ستُجبر على التحالف معنا". ورغم اختلاف التأويلات المحتملة لهذا التصريح، فإن ما لا شك فيه هو إدراك هرتزل العميق لأهمية التحالفات، لا بوصفها أداة لتأسيس دولة إسرائيل فحسب، بل كعنصر حاسم في ضمان بقائها واستمرارها.

سلكت الحركة الصهيونية، ومن بعدها إسرائيل، طريقها في بناء التحالفات بقدر كبير من الحذر، خصوصا عند اختيار الحليف الرئيس. ففي بادئ الأمر، سعت إلى استمالة الدولة العثمانية، لكنها أخفقت في ذلك، فحوّلت بوصلتها نحو بريطانيا، ما أسفر عن صدور وعد بلفور عام 1917، الذي مهّد لهجرة اليهود الأوروبيين إلى فلسطين. ولاحقا، عقدت تحالفا مع فرنسا أسهم في دعم برنامجها النووي، ما ساهم في نهاية المطاف في إنتاج أسلحتها النووية. ومع ذلك، بقي التحالف الذي أقامته إسرائيل مع الولايات المتحدة التحالف الأهم والأكثر ديمومة.

وتبدّلت تحالفات إسرائيل على مدار تاريخها تبعا لما كان يقدمه كل حليف من دعم يعزز فرص بقائها. لكنها لم تكن دائما الطرف الذي يقرر مسار هذه العلاقات، إذ غالبا ما بادر الحلفاء أنفسهم إلى مراجعة مستوى دعمهم، خصوصا حين باتت إسرائيل تُثقل كاهلهم أكثر مما تعود عليهم بالنفع. وقد ظهر ذلك بوضوح في علاقتها مع فرنسا، وبدرجة أقل مع بريطانيا.

نشأ التحالف بين إسرائيل والولايات المتحدة في وقت متأخر نسبيا، لكنه سرعان ما تطوّر إلى علاقة "خاصة". وقد قدم هذا التحالف فوائد كبيرة لإسرائيل، كما خدم مصالح واشنطن، لا سيما بوصفه أداة لمواجهة النفوذ السوفياتي إبّان الحرب الباردة.

ورغم أن الولايات المتحدة كانت أول دولة تعترف بإسرائيل عام 1948، فإن العلاقة الوثيقة بين الجانبين لم تتبلور فعليا إلا بعد حرب عام 1967. وقد تعمّقت هذه العلاقة بشكل ملحوظ خلال حرب 1973 وما تلاها، حين أنقذت واشنطن إسرائيل من خلال جسر جوي زوّدها بأسلحة قلبت موازين الأيام الأولى من المعركة، ومن ثم تعهّدت بالحفاظ على التفوق النوعي للجيش الإسرائيلي على مجموع الجيوش العربية، ما أفضى إلى اعتماد شبه كامل لإسرائيل على واشنطن، وهو ما لا يزال قائما حتى اليوم.

نجحت إسرائيل مرارا في دفع الولايات المتحدة إلى اتخاذ مواقف تصب في مصلحتها الإقليمية

ثمّة عوامل عدة تجعل من العلاقة بين إسرائيل والولايات المتحدة علاقة فريدة، أبرزها نجاح إسرائيل في ترسيخ موقعها داخل النظام السياسي الأميركي. فعمليا، أصبحت إسرائيل قضية داخلية في الوعي العام الأميركي، ويُعزى ذلك إلى جهود ما يُعرف بـ"اللوبي الإسرائيلي،" كما وصفه الأكاديميان الأميركيان جون ميرشايمر وستيفن والت في كتابهما "اللوبي الإسرائيلي والسياسة الخارجية الأميركية"، وهو كتاب نال تقديرا دوليا واسعا، رغم ما أثاره من جدل وانتقاد داخل الولايات المتحدة.
ولا شك أن واشنطن استفادت من قدرات إسرائيل في تعزيز مصالحها الإقليمية، وخاصة على صعيد الاستخبارات، أما ما عدا ذلك، فيظل غير واضح، ما يجعله محلا للنقاش والجدل. إذ لا يمكن استذكار حالة واحدة اضطرت فيها الولايات المتحدة إلى الاعتماد الحصري على إسرائيل في حماية مصالحها الاستراتيجية في الشرق الأوسط. ولعل المثال الأوضح على ذلك هو الغزو الأميركي للعراق، حين طُلب من إسرائيل الامتناع حتى عن إظهار أي دعم لتلك المغامرة العسكرية.
في المقابل، نجحت إسرائيل مرارا في دفع الولايات المتحدة إلى اتخاذ مواقف تصب في مصلحتها الإقليمية. وقد تكرر ذلك في مناسبات عدة اضطرت فيها واشنطن إلى تقديم دعم عسكري عزز القدرات الدفاعية والهجومية للآلة الحربية الإسرائيلية. يشمل ذلك الجسر الجوي خلال حرب 1973، الذي ترافق مع رفع حالة التأهب النووي لردع تدخل سوفياتي محتمل، وتوفير الأسلحة والمعلومات الاستخباراتية دعما للحرب على غزة منذ عام 2023 حتى اليوم، فضلا عن دعم الهجمات الإسرائيلية على لبنان في العام نفسه من خلال نشر البحرية الأميركية لردع أي رد من "حزب الله". أما المثال الأوضح، فهو الهجوم الذي استهدف المنشآت النووية الإيرانية الأكثر تحصينا في يونيو/حزيران الماضي. فلولا الدعم الأميركي الفاعل، لما تمكنت إسرائيل من تحقيق النتائج التي أحرزتها، رغم كل الشكوك التي أحاطت بفاعليتها وجدواها.

للتوضيح، يشتمل نظام "القبة الحديدية" الإسرائيلي للدفاع الجوي على صواريخ اعتراض أميركية من طراز "ثاد". تقدر تكلفة الصاروخ الواحد من نظام "آرو" الإسرائيلي بنحو ثلاثة ملايين دولار، بينما تصل تكلفة صاروخ "ثاد" إلى ما يقارب ثلاثة أضعاف ذلك. وقد استخدمت إسرائيل نحو ربع المخزون الأميركي من هذه الصواريخ في التصدي للهجمات الصاروخية الإيرانية، وسيتطلب الأمر موارد ضخمة ووقتا طويلا كي تتمكن الولايات المتحدة من تعويض مخزونها، الذي يشكل عنصرا محوريا في حمايتها.
السؤال المطروح هنا هو: هل تستطيع الولايات المتحدة الاستمرار في تقديم هذا النوع من الدعم لإسرائيل في حال اندلاع مواجهة عسكرية طويلة الأمد؟ كثيرون في واشنطن يشككون في ذلك.

وليس هذا فحسب، بل إن الرأي العام الأميركي بات أقل دعما لإسرائيل، حيث أصبح عدد متزايد من الشباب يعبرون بوضوح عن مواقف معادية لها. وأظهر استطلاع للرأي أجرته جامعة ميريلاند هذا الشهر أن نسبة الأميركيين المتعاطفين مع الفلسطينيين بلغت (28 في المئة)، وهي نسبة تفوق لأول مرة نسبة المتعاطفين مع الإسرائيليين والبالغة 22 في المئة. ويزداد هذا الميل نحو الفلسطينيين بين الأميركيين الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و34 عاما، إذ قال 37 في المئة منهم إنهم يتعاطفون مع الفلسطينيين، مقابل 11 في المئة فقط أعربوا عن تعاطفهم مع الإسرائيليين. كما يرى 41 في المئة من الأميركيين، من بينهم 67 في المئة من الديمقراطيين و14 في المئة من الجمهوريين، أن العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة تُشكّل إما "إبادة جماعية" (22 في المئة) أو "أشبه بالإبادة الجماعية" (19 في المئة)، في حين رأى 22 في المئة أنها "إجراءات مبررة في إطار الدفاع عن النفس". أما بخصوص السياسة الأميركية في الشرق الأوسط، فيعتقد ثلث الأميركيين فقط أنها تخدم بالأساس المصالح الأميركية، من بينهم 34 في المئة من الجمهوريين، و36 في المئة من الديمقراطيين، و32 في المئة من المستقلين. في المقابل، يرى 25 في المئة أنها تخدم "بشكل أساسي المصالح الإسرائيلية"، بينما قال 6 في المئة إنها "تخدم بشكل أساسي مصالح الدول العربية".
فما الذي تعنيه هذه المؤشرات لمستقبل العلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل؟ باختصار، كشفت الحرب على غزة والمواجهة العسكرية مع إيران عن نقطتي ضعف جوهريتين في بنية إسرائيل، قد تترتب عليهما آثار طويلة الأمد على أمن الشرق الأوسط واستقراره.
أولا، على الرغم من أن إسرائيل أظهرت قدرة على تعديل استراتيجياتها الردعية بعد حروب 1967 و1973 و1982، منتقلة من الردع العقابي الخالص إلى مزيج أكثر توازنا بين المنع والعقاب، فإنها تغاضت عن الحقيقة الجوهرية الكامنة وراء هذه الصراعات جميعا: إن احتلال الأراضي والاعتماد على القوة الساحقة لا يوفّران الأمن والأمان. ثانيا، لا تستطيع إسرائيل، بمفردها، تحقيق طموحها في فرض هيمنة إقليمية، إذ تظل بحاجة ماسّة إلى دعم عسكري وسياسي فاعل من الولايات المتحدة.
وعلى مرّ الزمن، وبينما كانت إسرائيل تعيد تشكيل استراتيجياتها، حافظت على ركيزتين ثابتتين في عقيدتها العسكرية: الاعتماد المتنامي على التكنولوجيا وعلى جمع المعلومات الاستخباراتية، والأهم من ذلك، الاعتماد المتزايد على الدعم العسكري الأميركي.
ورغم كل ما تتمتع به إسرائيل من قدرات عسكرية، ورغم الانخراط الفاعل من قبل الولايات المتحدة، لم تتمكن إسرائيل من تحقيق أهدافها الاستراتيجية في المنطقة، والمتمثلة أساسا في فرض رؤيتها الخاصة لأمن المنطقة.
في السابق، نجحت واشنطن في الموازنة بين علاقتها بإسرائيل وعلاقاتها مع الدول العربية، فحافظت على خصوصية ارتباطها بإسرائيل، وفي الوقت ذاته طورت تعاونها مع العواصم العربية. وقد بلغت هذه السياسة ذروتها مع توقيع اتفاقات أبراهام عام 2020.

نجحت إسرائيل في إدارة علاقتها مع واشنطن بفضل قدرتها على ترسيخ مكانتها كقضية داخلية في وعي الرأي العام الأميركي

ورغم أن إسرائيل لطالما اعتمدت على الولايات المتحدة لضمان مصالحها، فإن التطورات التي أعقبت اندلاع الحرب على غزة، وبلغت ذروتها في الهجمات على إيران، كشفت عن التداعيات الخطيرة لطموحاتها الهيمنية، ليس فقط على استقرار الشرق الأوسط، بل وربما بدرجة أكبر، داخل المجتمع الأميركي نفسه.

 أ ف ب

وهذا يعيدنا إلى انعكاسات كل ما سبق على مستقبل العلاقة بين إسرائيل والولايات المتحدة. فرغم وجود تبعية متبادلة بين الطرفين في خدمة مصالحهما في الشرق الأوسط، فإن تبعية إسرائيل للولايات المتحدة ظلت، على الدوام، أكثر وضوحا. حيث استفادت واشنطن من القدرات الإسرائيلية، ولا سيما في مجال الاستخبارات، في مواجهة نفوذ خصومها، خاصة خلال الحرب الباردة، واستمر هذا التعاون حتى اليوم، كما يتجلى في مواجهة التهديدات الصادرة عن إيران وحلفائها في المنطقة. ولكن، عندما تعلق الأمر بتنفيذ مشاريع أميركية كبرى، مثل غزو العراق، ارتأت واشنطن أن مصلحتها تقتضي تهميش الدور الإسرائيلي.
اليوم، وبموجب استراتيجية الأمن القومي التي يتبناها كل من الجمهوريين والديمقراطيين، تسعى الولايات المتحدة إلى تقليص التزاماتها العسكرية في الشرق الأوسط، من أجل إعادة توجيه تركيزها نحو منطقة آسيا والمحيط الهادئ، في مواجهة التحديات "المستمرة" التي تفرضها الصين.
غير أن ذلك لا يعني انسحابا أميركيا تاما من الشرق الأوسط، إذ لا تزال واشنطن تحتفظ بمصالح استراتيجية كبرى في المنطقة، من بينها ضمان الاستقرار الإقليمي لضمان استقرار سوق الطاقة العالمية، وتأمين المضائق البحرية الحيوية. ولهذا، تظل الحاجة قائمة لأن تؤدي الولايات المتحدة دورا عسكريا "عبر الأفق"، غير أن اضطلاع واشنطن بهذا الدور يتطلب وجود ترتيب أمني إقليمي يتيح لها البقاء كضامن نهائي لأمن المنطقة. وحتى الآن، لا تظهر أي مؤشرات على أن الصين أو روسيا تمتلكان الرغبة أو القدرة على تحمل مثل هذه المسؤولية. بل إن الواقع يشير إلى أن عددا من الدول يفضّل استمرار الولايات المتحدة في أداء هذا الدور.
من الناحية المثالية، ينبغي أن يتجسد هذا الترتيب في هيكل أمني إقليمي يلبّي مصالح جميع الأطراف بشكل متوازن. ويمكن تحقيق ذلك بأفضل صورة من خلال عملية شاملة وتشاركية. تشاركية بمعنى أن تشمل جميع دول المنطقة: العرب وتركيا وإيران وإسرائيل. وشاملة بمعنى أن تغطي الأبعاد السياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية والإنسانية.
غير أن الرؤية الأمنية التي تتبناها إسرائيل تتعارض كليا مع هذا التوجه، إذ تقوم على فرض هيمنة إسرائيلية مطلقة على المنطقة. 
وقد نجحت إسرائيل في إدارة علاقتها مع واشنطن بفضل قدرتها على ترسيخ مكانتها كقضية داخلية في وعي الرأي العام الأميركي. وتمثّلت الخطوة الأولى في بناء تحالفات بين الجالية اليهودية وبعض الأقليات، وعلى رأسها المجتمع الأسود، من خلال الانخراط المشترك في قضايا الحقوق المدنية. وبما أن الحزب الديمقراطي كان الراعي الأبرز لتلك القضايا، فقد أصبح الإطار السياسي الطبيعي لغالبية أبناء الجالية اليهودية، ما جعله لسنوات طويلة أكبر داعم لإسرائيل في الساحة الأميركية.
لاحقا، ومن خلال متابعتها الدقيقة للسياسة الداخلية الأميركية، رصدت إسرائيل مبكرا التحول نحو اليمين الذي بدأ مع إدارة ريغان، فسارعت إلى تعزيز علاقاتها مع الحزب الجمهوري، ولا سيما جناحه اليميني الديني. واليوم، يُعد هذا الجناح المصدر الأكثر ثباتا واستمرارية في دعم إسرائيل داخل المشهد السياسي الأميركي.

إصرار إسرائيل على فرض هيمنة إقليمية قد يكلّفها تحالفاتها الراهنة، ويمنعها من نسج تحالفات مستقبلية لا غنى عنها لاستمرار وجودها

لكن، وبعد الحرب على غزة، بدأ الرأي العام يتغيّر تدريجيا ضد إسرائيل، سواء داخل الولايات المتحدة أو على المستوى الدولي، نتيجة لما اعتُبر تجاهلا صارخا للأرواح البشرية وللقانون الدولي. ولم تقتصر خسارة التأييد على فئة الشباب أو الحزب الديمقراطي، بل امتدت أيضا إلى شخصيات مؤثرة داخل الحزب الجمهوري. فقد صدرت في الآونة الأخيرة تصريحات من رموز بارزة في حركة "اجعلوا أميركا عظيمة مجددا"، مثل مارجوري تايلور غرين وتاكر كارلسون، وجّهوا فيها انتقادات لاذعة إلى "أيباك" (لجنة الشؤون العامة الإسرائيلية-الأميركية التي تعتبر أبرز هيئات اللوبي الإسرائيلي) ونفوذها المتنامي داخل الكونغرس.
لا تزال هذه التحولات في بداياتها، ومن المبكر الجزم بما إذا كانت تعبّر عن توجّه طويل الأمد. إلا أن المؤشرات الحالية، ولسوء الحظ، توحي بأن الولايات المتحدة تتفق مع الرؤية الإسرائيلية للأمن الإقليمي، وهي رؤية تقوم على توسيع الالتزامات العسكرية الأميركية بدل تقليصها.
من الواضح والمشترك بين أطياف الرأي العام المختلفة في أميركا، أن ثمة إدراكا متزايدا بأن السياسات الإسرائيلية في المنطقة تفرض على الولايات المتحدة تدخّلا عسكريا مباشرا ومستمرا، وهو ما لا يبدو أن الشارع الأميركي مستعد لتحمّله.

اف ب
رئيس الوزراء البريطاني السابق ارثور بلفور وحاييم وايزمن الذي سيصبح رئيسا لاسرائيل يزوران تل ابيب في 1925 في صورة وزعها الحكومة الاسرائيلية الاعلامي في 24 اكتوبر 2017

بكلمات ثانية، فإن الاستراتيجية التي تتبناها واشنطن لتقليص التزاماتها العسكرية، والتي ازدادت وضوحا في الآونة الأخيرة مع تراجع التأييد للسياسات الإسرائيلية، تتعارض جوهريا مع الحاجة التي تراها إسرائيل في استمرار التدخل العسكري الأميركي المباشر والفعّال في الصراع.
وقد صرّح رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو مؤخرا بالتزامه برؤية "إسرائيل الكبرى"، وهي تعبير مخفّف عن مشروع الهيمنة الإسرائيلية على الشرق الأوسط. ولا تقتضي هذه الهيمنة بالضرورة سيطرة ميدانية مباشرة على الأراضي، بل يكفي أن تفرض إسرائيل نفوذها الاقتصادي، وتحتفظ بقدرتها على التدخل العسكري متى شاءت، ومن دون أن تواجه أي تبعات تُقيّدها. وهذه هي، في جوهرها، الاستراتيجية التي تنتهجها إسرائيل اليوم.
والسؤال المطروح هنا: هل ترتكب إسرائيل خطأ جسيما بمحاولتها استدراج الولايات المتحدة إلى دعم سياساتها المتطرفة، القائمة على فرض الهيمنة بالقوة وتكريس رؤيتها الأحادية للأمن الإقليمي؟
وهذا يثير سؤالين إضافيين: هل ستنجح إسرائيل في استمالة الولايات المتحدة، أو على الأقل نيل موافقتها الضمنية على مخططاتها لمستقبل الشرق الأوسط؟ وهل سيدفع تنامي التحوّل في الرأي العام الأميركي واشنطن إلى إعادة النظر في دعمها غير المشروط لإسرائيل؟
إن نجاح إسرائيل أو فشلها لا يتوقف على الموقف الأميركي وحده، بل يعتمد أيضا على دور الدول العربية. ففي الماضي، تمكنت إسرائيل مرارا من دفع الولايات المتحدة إلى اتخاذ خطوات تخدم مصالحها الإقليمية. غير أن إعادة التشكيل الجارية في السياسة الداخلية الأميركية تثير تساؤلا جوهريا: هل ستتمكن إسرائيل من القيام بذلك في المستقبل؟
وهل ستتمكن الدول العربية من بلورة رؤية بديلة للأمن الإقليمي، تحظى بتأييد القوى الكبرى، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، إلى جانب الصين وروسيا والاتحاد الأوروبي؟
نشأت إسرائيل واستمرت عبر بناء تحالفات كانت ضرورية لبقائها. غير أن التوسع المفرط قد يُعرّض هذه التحالفات للخطر. فإصرار إسرائيل على فرض هيمنة إقليمية قد يكلّفها تحالفاتها الراهنة، ويمنعها من نسج تحالفات مستقبلية لا غنى عنها لاستمرار وجودها.

الوقت مهم للغاية، ولا يمكن الاكتفاء بانتظار أن يضغط الشعب الأميركي على حكومته من أجل تعديل سياساتها تجاه إسرائيل

لكنّ هناك طريقا آخر ممكنا. فبإمكان إسرائيل أن تقبل بوجود شركاء متكافئين في المنطقة، تتعاون معهم لإقامة هيكل أمني إقليمي يراعي مصالح جميع الأطراف.
ويكمن العنصر الجوهري في هذا الهيكل في قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة، وإنهاء احتلال الأراضي العربية، واحترام سيادة ووحدة أراضي الدول المجاورة، والامتناع عن اللجوء إلى القوة.

إلا أن إسرائيل، للأسف، تبذل كل ما في وسعها لطمس أي إمكانية لقيام دولة فلسطينية. ولا يمكن للفلسطينيين الاستمرار في الانتظار إلى أن يتحرك الرأي العام الدولي للضغط على الحكومات من أجل اتخاذ موقف حازم تجاه سياسات إسرائيل. 
الوقت مهم للغاية، ولا يمكن الاكتفاء بانتظار أن يضغط الشعب الأميركي على حكومته من أجل تعديل سياساتها تجاه إسرائيل. فهناك حاجة ملحّة لاتخاذ إجراءات فورية تضمن استمرار المساعدات الإنسانية لأهالي غزة، إلى جانب خطوات عملية تُرغم إسرائيل على التراجع عن سياساتها، ليس فقط في غزة والضفة الغربية، بل على مستوى المنطقة بأسرها.

اف ب
رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو يتحدث اثناء احتفال خصص ليوم الاستقلال الاميركي اقيم في القدس في 13 اغسطس

وتشكّل الدورة المقبلة للجمعية العامة للأمم المتحدة فرصة حاسمة أمام المجتمع الدولي لاتخاذ موقف جاد وحازم. (انظر مقالاتي في "المجلة" بتاريخ 22 يوليو/تموز و11 أغسطس/آب في النسخة الإنكليزية، وبتاريخ 28 يوليو و3 أغسطس في النسخة العربية).
كما ينبغي على الولايات المتحدة أن تعيد تقييم علاقاتها مع إسرائيل. وفي سياق هذه المراجعة، لا بد من طرح سؤالين جوهريين: أولا، ما موقع إسرائيل ضمن استراتيجية الأمن القومي الأميركي التي تسعى إلى تقليص الالتزامات العسكرية في الشرق الأوسط؟ وثانيا، أن لا يعني الانخراط في الرؤية الإسرائيلية للأمن الإقليمي تورطا عسكريا أميركيا أعمق في المنطقة؟
حتى الآن، التزمت إسرائيل بدقة بمقولة تيودور هرتزل، فاختارت بحنكة حليفها الرئيس الذي كان ركيزة أساسية في ضمان بقائها طيلة 77 عاما. لكن، وبفعل سياساتها المتطرفة وسعيها المستمر لفرض هيمنتها على الشرق الأوسط، قد تجد نفسها قريبا معزولة، من دون حلفاء تعتمد عليهم.
إن إسرائيل اليوم بحاجة إلى أن تتأمل مليا في ما كتبه أحد أبرز الاستراتيجيين في التاريخ، سون تزو: "اختر حلفاءك بعناية؛ ففي معركة البقاء، قد تكون أي خطوة خاطئة قاتلة".

font change