تجويع غزة... ليس نتيجة عرضية للحرب، بل سياسة نتنياهو

مواجهة موت بطيء لا يرحم

رويتر
رويتر
فلسطينيون يتكالبون في تزاحم شديد على متن شاحنات تحمل مساعدات إنسانية دخلت أخيرا غزة، في بيت لاهيا شمال القطاع ، في 29 يوليو

تجويع غزة... ليس نتيجة عرضية للحرب، بل سياسة نتنياهو

تُعدّ الحرب التي يشنها بنيامين نتنياهو على غزة اليوم مثالا صارخا على القسوة الممنهجة التي تعتمدها حكومته اليمينية المتطرفة؛ إذ لم يكن التجويع نتيجة عرضية لحرب لا يمكن الفوز بها، بل أداة متعمدة تهدف إلى تحطيم إرادة الفلسطينيين في القطاع.

فعلى مدار نحو عامين، حوّل النظام الإسرائيلي القائم المناطق الحضرية في غزة إلى أقفاص، وعاقب المدنيين لمجرد وجودهم ضمن رقعة جغرافية لا تتجاوز 41 كيلومترا طولا و10 كيلومترات عرضا، كأداة مساومة للضغط على حركة "حماس"، التي شنت في أكتوبر/تشرين الأول 2023 هجوما غير مسبوق عبر الحدود على إسرائيل، أسفر عن مقتل نحو 1200 شخص واختطاف 251 آخرين.

منذ اللحظات الأولى للحرب، اتخذت استراتيجية نتنياهو منحى يتجاوز أساليب القتال التقليدية. فبينما تنهال القنابل من السماء، مدمرة ما يقارب 70 بالمئة من البنية التحتية في القطاع، و92 بالمئة من الوحدات السكنية، ومخلفة أكثر من 60 ألف قتيل على الأقل، تحولت أدوات الضغط العسكري إلى سلاح أشد قسوة في هذه المواجهة.

حُوصر مئات الآلاف من الفلسطينيين في غزة خلف جدران غير مرئية، محرومين من الغذاء والدواء ومقومات الحياة الأساسية. وفرض الحصار بإحكام شديد، إذ سيطرت نقاط التفتيش العسكرية الإسرائيلية على كل منفذ للإمدادات. ومع نضوب الموارد وانتشار سوء التغذية، بات فلسطينيون أمام موت بطيء لا يرحم.

لم يكن التجويع وحصار الفلسطينيين في أحياء غزة ضررا جانبيا للحرب، بل سياسة ممنهجة تبنتها حكومة نتنياهو، وواجهت انتقادات علنية حتى من بعض من سبقوه في المنصب. فقد وصف رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إيهود أولمرت ما يُعرف بـ"المدينة الإنسانية،" التي اقترح وزير الدفاع الإسرائيلي إقامتها على أنقاض رفح، بأنها "معسكر اعتقال،" مؤكدا أن إجبار الفلسطينيين على دخولها يشكّل "تطهيرا عرقيا".

منذ اللحظات الأولى للحرب، اتخذت استراتيجية نتنياهو منحى يتجاوز أساليب القتال التقليدية

خلال لقائي مع أولمرت في مكتبه بتل أبيب العام الماضي، أعرب عن قلقه البالغ من تصاعد نفوذ شخصيات اليمين المتطرف داخل الحكومة، ومن الطابع العبثي الذي باتت تتخذه الحرب على غزة.

وقال أولمرت: "إن ما يدور في ذهن إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش هو نهاية العالم،" في إشارة إلى وزيري الأمن القومي والمالية على التوالي. وأضاف: "ينبغي عزل نتنياهو بأسرع وقت ممكن. علينا أن نُدرك الهدف النهائي من هذه الحرب، وما إذا كانت لدى إسرائيل رؤية واضحة للمستقبل".

لم تغيّر حرب نتنياهو ملامح الرأي العام الدولي تجاه إسرائيل بسبب ردّها على جرائم الحرب التي ارتكبتها "حماس" فحسب، بل تركت أيضا أثرا عميقا داخل المجتمع الإسرائيلي نفسه.

رويترز
جندية إسرائيلية تنظر باتجاه قطاع غزة، كما يظهر من الجانب الإسرائيلي لحدود إسرائيل مع غزة، في 30 يوليو 2025

 

لم تغيّر حرب نتنياهو ملامح الرأي العام الدولي تجاه إسرائيل بسبب ردّها على جرائم الحرب التي ارتكبتها "حماس" فحسب، بل تركت أيضا أثرا عميقا داخل المجتمع الإسرائيلي نفسه

فقد توالت الصور والتقارير الموثوقة من داخل الأحياء المحاصرة في غزة، موثقة معاناة المدنيين اليومية، وعلى وجه الخصوص الاستخدام المنهجي للتجويع كسلاح. وقد فضحت هذه الحرب القائمة على الحصار، بما في ذلك التجويع المتعمد، وقصف المستشفيات، والتهجير القسري، استخفاف النظام الإسرائيلي الواضح بمبادئ حقوق الإنسان والقانون الدولي.

وفي رسالة أرسلت إلى صحيفة الغارديان بتاريخ 29 يوليو/تموز، دعا عدد من الشخصيات العامة البارزة، من أكاديميين وفنانين ومفكرين، إلى فرض "عقوبات مشددة" من قبل المجتمع الدولي على إسرائيل، إلى حين وقف الحملة العسكرية الوحشية وتنفيذ وقف دائم لإطلاق النار.

وقد وقّع الرسالة 31 شخصية بارزة، من بينهم حاصل على جائزة الأوسكار، ونائب عام إسرائيلي سابق، ورئيس سابق للكنيست، ورئيس سابق للوكالة اليهودية، إلى جانب عدد من الحائزين على جائزة إسرائيل، التي تُعد أعلى وسام ثقافي في البلاد.

اقرأ أيضا: الديكتاتورية الذكية في إسرائيل

وقد اعترف زعيم المعارضة ورئيس الوزراء الأسبق يائير لابيد، في 28 يوليو/تموز، بأن الوضع في غزة كان عبارة عن "فشل استراتيجي أدى إلى فشل عملياتي ودبلوماسي".

وقال في مؤتمر صحفي: "إذا لم ننهِ الحرب الآن، فلن يعود الرهائن، وسيفقد الجيش الإسرائيلي المزيد من نخبة مقاتليه، وستتفاقم الكارثة الإنسانية، وسيغلق العالم أبوابه في وجه الإسرائيليين".

خلال لقائي مع لابيد في مكتبه بالكنيست بعد شهرين من هجوم حماس عام 2023، أقرّ بأن تلك الهجمات ستؤدي إلى "تأخير كبير" في مسار إقامة الدولة الفلسطينية المنشودة. لكنه اعترف في الوقت ذاته بفشل سياسة "إدارة الصراع" التي تعتمدها إسرائيل، سواء في فترات الحرب أو السلم، مؤكدا أن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي لا يمكن تجاهله ويجب أن يُحل.

يرفض نتنياهو وشركاؤه في الائتلاف اليميني المتطرف حل الدولتين، رغم كونه الصيغة التي تحظى بدعم دولي واسع لتحقيق السلام. وتنص هذه الرؤية على إقامة دولة فلسطينية مستقلة في قطاع غزة والضفة الغربية إلى جانب إسرائيل، مع جعل القدس عاصمة مشتركة لكلا الجانبين.

أ.ف.ب
متظاهرون خارج مقر رئاسة الوزراء البريطانية في لندن يطالبون بفرض عقوبات فورية على إسرائيل بسبب التجويع في غزة

وعلى الرغم من وفرة الأدلة التي توثق معاناة سكان غزة، وتدمير المرافق الطبية، والاستهداف المتعمد للمناطق الحضرية المحاصرة، تواصل حكومة نتنياهو تبرير هذه الأفعال بوصفها استراتيجيات عسكرية ضرورية للقضاء على "حماس".

وقال نتنياهو في بيان صدر يوم الإثنين، 28 يوليو/تموز: "إننا نخوض حربا عادلة، حربا أخلاقية، حربا من أجل بقائنا. لا توجد دولة في العالم يمكن أن تسمح باستمرار سيطرة جماعة إرهابية على منطقة مجاورة تسعى إلى إبادتها، بعد أن اقتحمت حدودها بالفعل في هجوم إبادي."

غير أن هذه الحرب تجاوزت حدود الأهداف العسكرية المعلنة، لتتحول إلى شكل من أشكال العقاب الجماعي ضد سكان مدنيين، كانت الغالبية العظمى منهم تعارض في صمت حكم "حماس" في غزة. ومع مرور الوقت، باتت تكتيكات نتنياهو تمثّل وسيلة للبقاء السياسي، له ولـ "حماس" على حد سواء.

font change


مقالات ذات صلة