عبثية الرهان على الخلاف بين ترمب ونتنياهو

لا ينسحب على العلاقة بين البلدين

رويترز
رويترز
دونالد ترمب وبنيامين نتنياهو عند مدخل البيت الأبيض في الرابع من فبراير

عبثية الرهان على الخلاف بين ترمب ونتنياهو

لا يوجد شيء يمكن الرهان عليه لصالح الفلسطينيين، نتيجة التوترات الحاصلة بين إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب والحكومة الإسرائيلية برئاسة بنيامين نتنياهو، إذ شهدت علاقات إسرائيل بالولايات المتحدة مثل تلك التوترات مرارا، نتيجة شعور بعض الإدارات الأميركية، سواء كانت جمهورية أو ديمقراطية، بأن إسرائيل لا تسهّل عليها سياساتها في الشرق الأوسط، وأنها تتصرّف بشكل غير مسؤول، بما يهدد استقرار المصالح الأميركية، بل وأمن إسرائيل ذاتها.

السياق التاريخي

في عهد الرئيس الجمهوري دوايت أيزنهاور (1953-1961)، أجبرت الولايات المتحدة إسرائيل على الانسحاب من شبه جزيرة سيناء ومن قطاع غزة، إبان العدوان الثلاثي على مصر (1956). وفي عهد الرئيس الديمقراطي جيمي كارتر (1977-1981)، تم الضغط على رئيس حكومة إسرائيل آنذاك، مناحيم بيغن، للانسحاب من سيناء، وتفكيك المستوطنات منها، لعقد اتفاق "كامب ديفيد" مع مصر (1978).

تكرّر ذلك في عهد الرئيس الجمهوري جورج بوش/الأب (1989-1993)، مرتين. الأولى، عندما ألزمت الولايات المتحدة إسرائيل بالوقوف جانبا، إبان حربها لإخراج الجيش العراقي من الكويت (1991)، ما يعني أنها باتت تستغني عنها لصون الاستقرار في المنطقة. والثانية، عندما ضغطت على إسحق شامير، رئيس وزراء إسرائيل الأسبق، بوقف ضمانات القروض (10 مليارات دولار)، لدفعه للمشاركة في مؤتمر مدريد للسلام (1991)، برغم معارضته له.

أما في عهد الرئيسين الديمقراطيين باراك أوباما وجو بايدن فقد اتسمت علاقات إسرائيل والولايات المتحدة بالتوتر والجفاء، لأسباب شخصية وسياسية، علما بأن ذلك لم يؤثّر على العلاقة الوطيدة بين البلدين، ولا على الدعم الأميركي اللامحدود لإسرائيل، رغم أن نتنياهو تجرّأ بنقل خلافاته معهما إلى الكونغرس الأميركي، الذي ألقى فيه خطابا، ثلاث مرات، اثنتان في عهد أوباما (2011، و2015) والثالثة في عهد بايدن (2024). ثمة رابعة في عهد كلينتون (1996 لكنها كانت وفاقية).

وكانت الخلافات بين أوباما ونتنياهو قد تمحورت حول قضايا الاستيطان ومفاوضات السلام مع الفلسطينيين، والاتفاق النووي مع إيران (2015). أما في عهد بايدن فقد تمحور الخلاف حول القضايا الداخلية، بالاعتراض على محاولة نتنياهو، وحكومته اليمينية، القومية والدينية المتطرفة، تغيير طبيعة إسرائيل، من كونها دولة ليبرالية ديمقراطية (لمواطنيها اليهود) إلى كونها دولة يهودية، دينية و"قومية"، وفك ارتباطها بالقيم الغربية (الديمقراطية والليبرالية والحداثية)، وتقويض السلطة القضائية فيها، رغم أن إدارة بايدن منحت إسرائيل، أكثر بكثير مما منحها أي رئيس سابق، سياسيا وعسكريا وماليا، وبخاصة دعمها حرب الإبادة التي شنتها على الفلسطينيين في قطاع غزة.

أهم نقاط خلافية بالنسبة لإسرائيل مع إدارة ترمب، تتعلق بانتهاج الولايات المتحدة سياسة استدراج إيران لفكفكة برنامجها النووي بالدبلوماسية والضغط الاقتصادي، ومنع أية محاولة إسرائيلية لاستهدافها راهنا

إسرائيل في عصر ترمب

الآن، يبدو أن ثمة مشكلة لنتنياهو وحكومته مع ترمب وإدارته، رغم الصداقة الوطيدة التي تربط بينهما، والحماس الإسرائيلي لعودته لرئاسة الإدارة الأميركية، وبالنظر للدعم الكبير الذي منحه لإسرائيل في حقبته السابقة، إنْ بإغلاقه مكتب "منظمة التحرير الفلسطينية" في واشنطن، أو بوقف دعم وكالة "الأونروا" لتصفية قضية اللاجئين، كما بتشريعه الاستيطان في الضفة الغربية والقدس، وتهميشه للسلطة الفلسطينية.

ففي عهده الثاني باتت سياسات ترمب تتمحور حول إثباته قدرته على حل كثير من المشكلات في العالم، وضمن ذلك في الشرق الأوسط، بعيدا عما يرضي حكومة إسرائيل، وهو ما تمثل بإضفائه الشرعية على الرئيس السوري أحمد الشرع، بما يمثل كبحا للاعتداءات الإسرائيلية على الأراضي السورية، وفي غزة جرى تحرير رهينة أميركية/ إسرائيلية (عيدان ألكسندر) بمفاوضة حركة "حماس"، ولو بشكل غير مباشر، وتسهيل إدخال مساعدات غذائية لفلسطينيي غزة، كما تمت مفاوضة الحوثيين على وقف أعمالهم ضد التجارة الدولية، يضاف إلى ذلك الدعم الأميركي لتعزيز مكانة تركيا في المنطقة.

رويترز
رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في استقبال الرئيس الأميركي جو بايدن في تل أبيب، في 18 أكتوبر 2023

بيد أن أهم نقاط خلافية بالنسبة لإسرائيل مع إدارة ترمب، تتعلق أولا بانتهاج الولايات المتحدة سياسة استدراج إيران لفكفكة برنامجها النووي بالطرق الدبلوماسية والضغط الاقتصادي، مع ممانعة أية محاولة إسرائيلية لاستهدافها راهنا. وثانيا، بتقديم الدعم العسكري للمملكة العربية السعودية، بأفضل وأهم ما في الترسانة الحربية الأميركية. وثالثا، عدم ربط السياسات التي تنتهجها الإدارة الأميركية في الشرق الأوسط بمسار التطبيع مع إسرائيل، التي ظلت خارج برنامج الرئيس الأميركي في زيارته مؤخرا لتلك المنطقة.

والجدير ذكره هنا أن صحيفة "هآرتس"، في افتتاحية لها اعتبرت أن "خطوات ترمب تلك "ليست حراكا جغرافيا-سياسيا تاريخيا فحسب، بل صفعة رنانة لنتنياهو وللسياسة المحملة بالمصائب التي يتبعها". (أسرة التحرير- 15/5/2025)

ثمة وجهات نظر إسرائيلية رأت في كل تلك السياسات علامة على تحول أميركي في التعامل مع إسرائيل. فبحسب عاموس يادلين وأودي أفينتال، فإن إسرائيل "تقف عند نقطة حاسمة لترجمة الإنجازات الميدانية إلى مكاسب استراتيجية... بخطوات سياسية ترسّخ العلاقات مع الولايات المتحدة، وتعزز اندماجها في المنطقة وشراكاتها، كجزء من نظام إقليمي محدّث يشكل ثقلا موازنا لإيران"، لكنه، عوض ذلك، يرى أن "إسرائيل، بقيادتها، تفقد السيطرة على أمنها القومي... لدرجة أن حليفتها الكبرى والوحيدة، الولايات المتحدة، تفاجئها بدفع عمليات استراتيجية محورية في القطاع والمنطقة... تمثل ذروة جديدة لعملية تهميشها... وتعبيرا عن رؤية أميركية تعتبر أن السياسة الإسرائيلية لا تساهم في تحقيق الاستراتيجية التي يسعى ترمب لدفعها في الشرق الأوسط، بل تعرقلها... كعبارة عن التدهور المرتقب في متانة العلاقات بين إسرائيل والولايات المتحدة" ("N12"- 17/5/2025).

مشكلة نتنياهو هذه المرة مع ترمب، أي مع رئيس من طباعه، وهذا يختلف عن أوباما وبايدن

بين شعبوية نتنياهو وشعبوية ترمب

في هذا الإطار، يمكن اعتبار بنيامين نتنياهو، وهو شخص سياسي وأيديولوجي، كأكثر شخصية تورطت في الاعتراض على السياسات الأميركية في المنطقة، في الحقب الثلاث التي تبوأ فيها منصب رئيس حكومة إسرائيل (1996-1999، و2009-2021، و2022 حتى الآن).

ففي حقبته الأولى، مثلا، قام بتقويض اتفاق أوسلو، وتحجيم مكانة السلطة الفلسطينية، وضمن ذلك تقويض المشروع الأميركي لإقامة "الشرق الأوسط الجديد"، الذي تبناه أيضا شيمعون بيريز زعيم حزب "العمال" ورئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق. وهو كرس كل جهوده في حقبته الثانية لوأد السلطة الفلسطينية، ولتعزيز الاستيطان في القدس والضفة، والتخفف من مكانة فلسطينيي 48، بتشريع قانون إسرائيل كدولة "قومية" للشعب اليهودي (2018). وها نحن نشهد، في حقبته الثالثة، شنه حرب إبادة جماعية ووحشية، هي أطول الحروب في تاريخ إسرائيل، وأكثرها وحشية، منذ إقامتها، وقد نجم عنها تدمير قطاع غزة، وتحويله إلى مكان غير صالح للعيش، مع محاولة محو مخيمات الضفة الغربية، في مسعى للانتهاء من السلطة ومن "منظمة التحرير"، ومن الحركة الوطنية الفلسطينية، والهيمنة على الفلسطينيين من النهر إلى البحر.

أ ف ب
نازحون فلسطينيون يستلمون مساعدات إنسانية من مؤسسة تدعمها الولايات المتحدة في رفح، جنوب قطاع غزة، في 10 يونيو 2025

مشكلة نتنياهو هذه المرة مع ترمب، أي مع رئيس من طباعه، وهذا يختلف عن أوباما وبايدن. ولعل المحلل الإسرائيلي بن كسبيت أفضل من عبر عن ذلك، في مقال له عنوانه: "حفلة الشرق الأوسط... إسرائيل: نتنياهو يرمينا للكلاب"، قال فيه: "ترمب نوع من نتنياهو، لكنه أكبر، نتنياهو شعبوي، لكن ترمب شعبوي مع محفزات. نتنياهو متلاعب وترمب أكثر بكثير. نتنياهو محتال، لكن ترمب أكبر المحتالين. ضمير نتنياهو نقي؟ ترمب لا ضمير على الإطلاق. من ناحية نتنياهو، بعده الطوفان؟ ترمب هو الطوفان... في عهد رؤساء آخرين، كان يمكن لهذا أن يمر بسلام نسبي. لدى أوباما وبايدن وكلينتون... حتى لو كان نتنياهو ينهك، يجنن، يكذب ويكره عليهم حياتهم، عاقبوه رمزيا، ضمن الإطار. أما لدى ترمب فالقواعد مختلفة. أي، لا توجد قواعد... الاتجاه الحالي يؤدي إلى كارثة. لشدة الأسف، الفشل كله لنتنياهو لكن الكارثة لنا". ("معاريف"- 13/5/2025)

تبعا لكل ما تقدم، ثمة أربع ملاحظات. الأولى، أن الخلاف بين أي رئيس أميركي وأي رئيس حكومة إسرائيلية، لا ينسحب على العلاقة بين البلدين، أي لا يؤثر كثيرا في الدعم اللامحدود الذي يربطهما معا، وضمن ذلك ضمانة الولايات المتحدة لأمن وتفوق إسرائيل في المنطقة. الثانية، أن الخلاف بين نتنياهو وترمب سيبقى خلافا محدودا، وشكليا، تبعا لعقلية ترمب، وطريقته في العمل. الثالثة، ما نشهده من خلافات إسرائيلية أميركية، يأتي ضمن لحظة تاريخية قوامها نوع من الانفكاك بين الغرب وإسرائيل، بانكشاف إسرائيل على حقيقتها كدولة استعمارية وعنصرية ودينية وكدولة إبادة جماعية ضد الفلسطينيين. الرابعة، أنه حتى لو كان ثمة خلافات أميركية-إسرائيلية، إلى هذه الدرجة أو تلك، فإن مشكلة الفلسطينيين، والعالم العربي عموما، عدم القدرة على الاستثمار فيها إلى الدرجة المناسبة لصالح الحقوق الفلسطينية والعربية.

font change