ترمب ونتنياهو… أكثر من مجرد "خلاف شخصي"

ترمب، لا نتنياهو، هو من يمثل المصالح الإسرائيلية على نحو أفضل

أ.ف.ب
أ.ف.ب
ترامب يرحب برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في البيت الأبيض في واشنطن العاصمة في 7 أبريل

ترمب ونتنياهو… أكثر من مجرد "خلاف شخصي"

على مدى الأسبوعين الماضيين، أبقى الرئيس دونالد ترمب إسرائيل في حالة ترقب. فالرئيس فاجأ الحكومة الإسرائيلية في مناسبات متكررة، ما أدى إلى تصاعد القلق بين قادة البلاد في الكواليس، بهدوء ربما، لكنه كان ملموسا بما لا يدع مجالا للشك.

بدأت الصدمة عندما أعلن ترمب عن وقف غير متوقع لإطلاق النار مع الحوثيين، الجماعة اليمنية المتحالفة مع إيران، وذلك بعد لحظات فقط من شنّ إسرائيل ضربة كبيرة على مطار صنعاء ردا على هجوم صاروخي حوثي استهدف مطار بن غوريون الإسرائيلي. ووفقا لتقارير عديدة، لم تتلقّ إسرائيل أي إشعار مسبق بهذا الإعلان. وسرعان ما تبيّن أن الاتفاق لم يتضمّن أي إشارة إلى وقف الهجمات الحوثية على إسرائيل، التي لا تزال مستمرة حتى اليوم

لكن هذه لم تكن سوى البداية.

مع زيارة الرئيس إلى الخليج العربي، استمرت مفاجآته لإسرائيل. وبلغت هذه المفاجآت ذروتها بلقاء جمعه بالرئيس السوري أحمد الشرع، الذي طالما صوّرته إسرائيل كتهديد لأمنها ووكيل لتركيا. وزاد الطين بلّة أن ترمب أشاد مجددا بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان، بينما زار وزير الخارجية ماركو روبيو تركيا خلال الرحلة رسميا لمناقشة ملف أوكرانيا، ولكن من المحتمل أن تكون المباحثات قد تجاوزت ذلك.

ولم يكتفِ ترمب بوصف أحمد الشرع بأنه "شخص جذاب للغاية"، بل أعقب ذلك بإعلان مفاجئ عن رفع العقوبات المفروضة على سوريا، وسط ذهول الجانب الإسرائيلي. ولم يسبق هذا القرار أي مؤشرات، حتى في الأيام التي سبقت الإعلان، على نية الإدارة الأميركية اتخاذ مثل هذه الخطوة.

وكانت الحكومة الإسرائيلية، التي حافظت على موقف حازم تجاه الشرع، ترى في العقوبات أداة حيوية ينبغي الحفاظ عليها لضمان النفوذ تجاه دمشق، بدلا من التخلي عنها. غير أن القرار عكس بوضوح رغبة الرئيس الأميركي في الدفع نحو مسار تطبيع بين إسرائيل وسوريا.

رغم أن مثل هذا التطور قد يُفضي، على المدى البعيد، إلى فوائد واسعة ويُعدّ إنجازا دبلوماسيا كبيرا، فإن القيادة الإسرائيلية الحالية لم تُبدِ يوما أي اهتمام بتوسيع "اتفاقيات إبراهيم" لتشمل سوريا

ورغم أن مثل هذا التطور قد يُفضي، على المدى البعيد، إلى فوائد واسعة ويُعدّ إنجازا دبلوماسيا كبيرا، فإن القيادة الإسرائيلية الحالية لم تُبدِ يوما أي اهتمام بتوسيع "اتفاقيات إبراهيم" لتشمل سوريا.

ومع زيارة ترمب إلى قطر، تصاعدت المخاوف في إسرائيل بشأن تأثير الدوحة المحتمل على الرئيس الأميركي. وزادت هذه المخاوف بعد تداول تقارير في الصحافة الأميركية عن هدية قطرية للرئيس تمثلت في طائرة فاخرة، لا سيما بعد أن صرّح ترمب قائلا: "لا يرفض مثل هذه الهدية إلا أحمق". وقد غذّى ذلك الشكوك الإسرائيلية بأن قطر استعادت موطئ قدم في دوائر القرار داخل إدارة ترمب.

أضف إلى ذلك تقارير أميركية تفيد بأن ترمب هدد نتنياهو بعدم الوقوف مع إسرائيل من الآن فصاعدا، إذا لم تُنهي حكومته الحرب في غزة. 

لقد جاءت هذه التطورات في وقت بالغ الحساسية على صعيد الصراع في غزة. ففي تطور غير متوقع آخر، نجحت الإدارة الأميركية في الضغط على حركة "حماس" لإطلاق سراح عيدان ألكسندر، وهو مواطن أميركي–إسرائيلي مزدوج الجنسية، في وقت كانت فيه المفاوضات بشأن إنهاء الصراع والإفراج عن بقية الرهائن تبدو في طريق مسدود. وسرعان ما تبيّن أن الإدارة الأميركية تجاوزت إسرائيل مجددا، إذ أجرت محادثات مباشرة مع "حماس" وأقنعتها بالحاجة إلى بادرة حسن نية قبيل الزيارة المرتقبة.

وهنا لا بدّ من التمييز بين مستويين: فبينما فاجأت هذه الصفقة الحكومة الإسرائيلية وأبرزت فجوة متزايدة في المصالح الاستراتيجية، فإنها قوبلت بترحيب واسع لدى الرأي العام الإسرائيلي. فقد بدأت تظهر في الاحتجاجات الشعبية المطالبة باتفاق لوقف إطلاق النار لافتات تُشير إلى أن ترمب، لا نتنياهو، هو من يمثل المصالح الإسرائيلية على نحو أفضل. ويؤكد ذلك توجّها متصاعدا داخل حركة الاحتجاج وعائلات الرهائن نحو الرئيس الأميركي، أملا في أن يحقق ما يتطلع إليه معظم الإسرائيليين.

أزمة شخصية؟

أثارت سلسلة التوترات العلنية بين الولايات المتحدة وإسرائيل، إلى جانب قرار ترمب باستبعاد إسرائيل من خط سير رحلته، تكهنات بشأن وجود خلاف شخصي بين الرئيس ترمب ورئيس الوزراء بنيامين نتنياهو. لا سيما أن كليهما معروف بأسلوبه "الشخصي" في الدبلوماسية، الذي يولي أهمية لـ"الكيمياء الشخصية" على حساب السياسات الموضوعية، أو على الأقل يسعى إلى إظهار العلاقة على هذا النحو.

إلا أن الحقيقة، على الأرجح، أكثر تعقيدا. فتصوير العلاقة بين ترمب ونتنياهو على أنها علاقة شخصية متينة يتجاهل الكثير من المؤشرات– التي سبق لكاتب هذه السطور أن وثّقها– والتي تدلّ على أنهما لا يكنّان بالضرورة وُدّا حقيقيا أحدهما للآخر، وإن كانا بلا شك يُجيدان التظاهر بذلك أمام العلن.

ثم إن هذا التصوير يغفل جوهر ما يحفّز دونالد ترمب. فنهجه في السياسة الخارجية لا ينبني على مصالح جيوسياسية تقليدية، أو على تحالفات راسخة وديناميات إقليمية متماسكة، بل على البحث عن "مكاسب" ثنائية، ذات وقع إعلامي لافت، سواء كانت في شكل "صفقات" أو تدفقات استثمارية إلى الاقتصاد الأميركي.

لم يكتفِ ترمب بوصف أحمد الشرع بأنه "شخص جذاب للغاية"، بل أعقب ذلك بإعلان مفاجئ عن رفع العقوبات المفروضة على سوريا، وسط ذهول الجانب الإسرائيلي

 

أ.ف.ب
ترمب يتحدث إلى وسائل الإعلام المرافقة له على متن طائرة الرئاسة الأمريكية، بعد مغادرته أبوظبي في نهاية جولته الشرق أوسطية في 16 مايو

في جوهره، لا يحمل الرئيس ترمب أيديولوجيا محددة في الكثير من القضايا التي يعتبرها خبراء العلاقات الدولية حاسمة في المدى الطويل. إنه مستعد للتحاور مع أي طرف– الحوثيين، طالبان، حماس، إيران، روسيا– إذا توافرت إمكانية لتحقيق "نتيجة" ملموسة. ما يهمّه هو "الصفقات" و"الانتصارات"، أيا كانت طبيعتها، ومن أي جهة جاءت. لا توجد في قاموسه مبادئ مقدسة، ولا خطوط حمراء أيديولوجية، ولا قناعات راسخة لا تقبل المساومة.

انطلاقا من هذا الفهم، فإن الخلاف بين ترمب ونتنياهو لا يعود إلى فتور شخصي– فالعلاقة الوثيقة بينهما كانت في الأساس مخصصة للاستهلاك الإعلامي– بل إلى حقيقة مفادها أن نتنياهو ببساطة غير قادر على أن يقدّم لترمب ما يريده: "مكاسب" و"صفقات". فالرئيس الأميركي يرى أن إسرائيل ترفض صفقة بشأن غزة، وترفض أخرى بشأن سوريا، وتُعارض احتمالات الاتفاق مع إيران، وتتخذ مواقف تقلل من فرص التطبيع مع السعودية. وبالتالي، لم يكن مفاجئا أن يتجاهل ترمب إسرائيل في جولته، لا بدافع الخصومة، بل لأنه لم يجد ما يمكن احتسابه "نصرا" هناك.

تقديم التنازلات

لقد أظهرت إدارة ترمب استعدادا للبحث عن الفرص، حتى خارج نطاق ما يُرضي الحكومة الإسرائيلية الحالية. فمن الناحية الدبلوماسية، يمنحه نهجه غير الأيديولوجي مرونة في طرح مبادرات وعقد صفقات قد لا يجرؤ غيره حتى على التفكير فيها. غير أن المعضلة الجوهرية في سياسة ترمب الخارجية تكمن في مكان آخر: فهي تركّز على الإعلانات والرمزيات والعناوين الإعلامية، لكنها كثيرا ما تعاني من نقص في المضمون والاتساق والاستمرارية.

ومن المرجح أن نتنياهو يدرك ذلك، وقد يسعى إلى استثماره لمصلحته. ففي ملف غزة، قد يكتفي بانتظار أن ينتقل ترمب إلى عنوان إخباري آخر، لا سيما بعد انتهاء زيارته. أما في ما يخص إيران، فإن التردد الأميركي في حسم ما إذا كان الهدف هو تقليص البرنامج النووي الإيراني أو القضاء عليه بالكامل، قد يؤدي إلى إفشال المفاوضات، رغم أن كلا الطرفين يفضّل التوصل إلى اتفاق. وهذه بالضبط هي الاستراتيجية المألوفة لدى نتنياهو: كسب الوقت، والمراهنة على تغيّر الظروف، بدلا من الاستجابة الفورية للضغوط.

لكن هذا النهج لا يخلو من المخاطر. فإذا أثبتت إدارة ترمب قدرة أكبر مما هو متوقع على التركيز والمتابعة، فقد يجد نتنياهو نفسه مضطرا إلى تقديم تنازلات، لإثبات أنه ليس مجرد عقبة، بل شريك مستعد لمجاراة تفكير الإدارة الجديدة ونهجها غير التقليدي. وقد تضطر الحكومة الإسرائيلية، حينها، إلى إعادة ترتيب أولوياتها، وتحديد المواضع التي يمكنها فيها إبداء مرونة، وتلك التي يجب أن ترسم فيها خطوطا حمراء لا تُمس.

font change

مقالات ذات صلة