القصة الكاملة للحوار السري بين نظام الأسد وإدارتي ترمب وبايدنhttps://www.majalla.com/node/325633/%D9%88%D8%AB%D8%A7%D8%A6%D9%82-%D9%88%D9%85%D8%B0%D9%83%D8%B1%D8%A7%D8%AA/%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B5%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%83%D8%A7%D9%85%D9%84%D8%A9-%D9%84%D9%84%D8%AD%D9%88%D8%A7%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%B1%D9%8A-%D8%A8%D9%8A%D9%86-%D9%86%D8%B8%D8%A7%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%B3%D8%AF-%D9%88%D8%A5%D8%AF%D8%A7%D8%B1%D8%AA%D9%8A-%D8%AA%D8%B1%D9%85%D8%A8-%D9%88%D8%A8%D8%A7%D9%8A%D8%AF%D9%86
لقاء الرئيس السوري أحمد الشرع مع الرئيس الأميركي دونالد ترمب برعاية وحضور ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في الرياض يوم 14 مايو/أيار، كان نقطة انعطاف في العلاقات بين واشنطن ودمشق، إذ حقق الشرع خلال ستة أشهر ما عجز الرئيس المخلوع بشار الأسد عن تحقيقه خلال ربع قرن، وهو رفع العلاقات بين البلدين إلى مستوى القمة.
ويكشف تحقيق لـ"المجلة" استنادا إلى وثائق ومحاضر اجتماعات ولقاءات مع مسؤولين غربيين وإقليميين، أن الفرصة أتيحت أكثر من مرة للأسد كي يرفع مستوى الحوار مع مستوى البيت الأبيض خلال الولاية الأولى للرئيس دونالد ترمب بين 2017 و2021 وولاية الرئيس جو بايدن بين 2021 و2025، لكن عناد الأسد وسوء تقديره واستخفافه فوّت فرصا عديدة عليه إذ إنه خيب الوسطاء من قادة ومسؤولين عرب وإقليميين، حاولوا فتح نوافذ له قبل سقوطه نهاية العام الماضي.
اللافت أن المحاولة الأخيرة للحوار بين البيت الأبيض ودمشق جرت قبل أسابيع بل قبل أيام من هروب الأسد إلى موسكو في 8 ديسمبر/كانون الأول 2024، إضافة إلى الفشل الآخر في تسويف وتجاهل وساطة الرئيس فلاديمير بوتين لجمعه (الأسد) مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
قصة فشل وساطة بوتين بين أردوغان والأسد بسبب الأخير تستحق أن تروى، خصوصا أنها كانت أحد أسباب انهيار نظام الأسد في 8 ديسمبر وانفضاض روسيا-بوتين وعجزه، لكن سأروي هنا تفاصيل جديدة من الوساطات المهمة بين الأسد وكل من ترمب في 2019 وبايدن في 2023 و2024، علما أن بعض جوانبها سبق وأن نشر في الإعلام.
مفاوضات زمن ترمب
في المرحلة الأخيرة لولاية ترمب الأولى، كانت سوريا لا تزال محاصرة وتتمركز فيها قوات أميركية شمال شرقي سوريا، وروسية غربها، وتركية في الشمال، إضافة إلى انتشار الميليشيات الإيرانية في مناطق عدة واستمرار الغارات الإسرائيلية.
مسؤول غربي: المسؤولون الأميركيون قالوا إنه في حال تم الحصول على أي معلومات عن تايس، فإن وزير الخارجية مايك بومبيو يمكن أن يأتي إلى دمشق، ويعلن مواقف سياسية مهمة منها
وفي عام 2017 بدأت إدارة ترمب بإنشاء قنوات تواصل مع النظام السوري لإطلاق سراح الصحافي الأميركي أوستن تايس الذي اختفى في 2012، مع أن ترمب فكر في ربيع 2017 باغتيال الأسد لاستخدامه الكيماوي في خان شيخون في إدلب في أبريل/نيسان 2017. عارض وقتذاك وزير الدفاع السابق جيمس ماتيس اغتيال الأسد، فجرى توجيه ضربات أميركية–بريطانية–فرنسية لمواقع استعمال الكيماوي التابعة للنظام.
بعد ذلك، وجه ترمب رسالة إلى وزير الخارجية مايك بومبيو لفتح حوار مباشر للإفراج عن الصحافي الأميركي. وكان مدير الأمن العام اللبناني السابق اللواء عباس إبراهيم قال لـ"المجلة" إن السفير روجر كارستنس، مبعوث الرئيس الأميركي لشؤون المختطفين زار بيروت في ربيع 2020 طالبا فتح قناة مع مدير الأمن الوطني علي مملوك لبحث مصير الصحافي الأميركي أوستن تايس الذي اختفى في سوريا في 2012. بالفعل ذهب إبراهيم والتقى مملوك لإقناعه بالحوار باعتباره ممثلا لترمب. في هذا اللقاء وضعت دمشق شروط انسحاب القوات الأميركية ورفع العقوبات واستتئناف العلاقات التي تجمدت بعد سحب السفير روبرت فورد في 2012.
وفي شهر أغسطس عام 2020، إبان الولاية الأولى لدونالد ترمب، تواصل مساعد المبعوث الرئاسي الخاص لشؤون الرهائن ستيفن غيلين مع السفير بسام صباغ مندوب سوريا الدائم في الأمم المتحدة وطلب منه ترتيب لقاء بينهما. رفع صباغ الأمر إلى دمشق، فجاءت توجيهات الأسد بأن يجتمع معه، ويستمع إليه "على أن لا يعطيه أي موقف إطلاقا".
مدير الأمن العام اللبناني السابق اللواء عباس ابراهيم في 22 يوليو 2020
في اللقاء، فاجأ ستيفن غيلين السفير صباغ بأن رئيسه روجر كارستنس، المبعوث الأميركي لشؤون المختطفين والرهائن يرغب بترتيب زيارة سرية إلى دمشق واللقاء مع رئيس جهاز الأمن الوطني اللواء علي مملوك. كان محور اللقاء هو طلب مساعدة الحكومة السورية في تحديد مصير أوستن تايس، الصحافي الأميركي الذي يعتقد أنه قد وقع في قبضة يد الحكومة السورية إثر دخوله إلى سوريا قادما من تركيا عبر إدلب.
وفي ضوء اتصالات إبراهيم واقتراح صباغ، زار روجر كارستنس المبعوث الخاص للرئيس الأميركي لشؤون المخطوفين، وكاش باتل مساعد الرئيس الأميركي ومدير مكافحة الإرهاب في البيت الأبيض زارا دمشق في أغسطس/آب 2020 واجتمعا مع مملوك في مكتبه بدمشق. وهذه ليست الزيارة الأولى لمسؤولين أميركيين، فقد سبقتها ثلاث زيارات مشابهة إلى دمشق خلال الأشهر والسنوات الماضية. في هذه الزيارة السرية، شرح المسؤولان الأميركيان أهمية تعاون دمشق مع واشنطن في هذا الملف وكيف سينعكس إيجابا على بقية الملفات.
وقال مسؤول غربي إن المسؤولين الأميركيين قالوا إنه في حال تم الحصول على أي معلومات عن تايس، فإن وزير الخارجية مايك بومبيو يمكن أن يأتي إلى دمشق، ويعلن مواقف سياسية مهمة منها. وأضاف: "لم تكن بيد مملوك أي حيلة، فالتعليمات التي جاءته من الأسد كانت صارمة: لا نعرف أي شيء عن أوستن تايس وهو ليس بقبضتنا".
وأضاف مصدر آخر: "لم يكن مجيء كارستنس وكاش إلى دمشق في ذلك الوقت بالأمر الذي يمكن الاستخفاف به، ولو كان الأسد يمتلك مؤهلات وصفات مناسبة، لكان قد استغل هذه الزيارة لمد الجسور وفتح قنوات التواصل مع إدارة الرئيس ترمب. ولكنه ضيع هذه الفرصة الاستثنائية وذهبت أدراج الرياح، كما ضيع عشرات الفرص الأخرى فيما بلاده تتردى في مهاوي الكارثة".
أواخر عام 2022 اتصل سلطان عمان هيثم بن طارق سلطان عمان بالأسد وتحدث معه مطولا حول رغبة الأميركيين في فتح قناة للحوار، وشرح أهمية "إبقاء باب الحوار مفتوحا حتى بين الدول المتناحرة سياسيا
وكان اللواء إبراهيم قال لـ"المجلة" إنه بعد أيام توجه إلى واشنطن في طائرة خاصة أرسلتها واشنطن والتقى بمسؤولين أميركيين بينهم مستشار الأمن القومي روبرت أوبراين لكن المفاجأة أنه خلال وجود إبراهيم في واشنطن قال ترمب إنه فكر في اغتيال الأسد. وفجأة اتصل مملوك بإبراهيم الموجود في أميركا، وقال له أوقف المحادثات بناء على توجيه الأسد.
كان ترمب قد أعلن سحب قواته جزئيا من شمال شرقي سوريا في خريف 2019، ما فتح الباب لتوسيع نفوذ القوات السورية المعارضة المدعومة من تركيا على حساب "قوات سوريا الديمقراطية" حلفاء واشنطن. وكان هناك من يتشدد في دمشق للضغط لصالح انسحاب أميركا من شرق سوريا.
زمن بايدن
وفي 2021، تجددت وساطة إبراهيم بطلب أميركي لمعرفة مصير تايس. وقال إبراهيم في الحديث: "كان هناك طلب أن يتم تشكيل وفد لزيارة سوريا، إذ كانت السيدة ديبرا تايس، والدة أوستن، تضغط على الإدارة الأميركية لتحريك هذا الملف، وعَقدتْ جلسة مع الرئيس بايدن، وبعد هذه الجلسة وعدها الرئيس وأعطى أمرا أمامها لكل مستشاريه لكي يعملوا بأقصى ما يستطيعون لحل هذا الموضوع". الأمر الذي فاجأ إبراهيم أن "الأسد رفض استقبال الوفد الأميركي".
في 2022 تسارع قطار التطبيع العربي مع دمشق وأعيدت إلى الجامعة العربية وحضر الأسد القمة العربية في جدة منتصف 2023. ويقول مصدر قريب من دمشق، إن إدارة بايدن، كانت تريد "فتح نوع من التواصل مع النظام، فأولا، كانت الولايات المتحدة تدرك أن وجود قواتها العسكرية حول حقول النفط والغاز في منطقة الشمال الشرقي لسوريا أمر لا يمكن استمراره دون أفق مفتوح لإنهاء هذا الوجود، ولكنها ترغب في ضمانات من الطرف السوري بأن انسحاب قواتها من هناك لن يؤدي إلى دخول "الحرس الثوري" وميليشيات "الحشد الشعبي" الموالية لإيران إلى تلك المنطقة. وثانيا، كانت الإدارة الأميركية تتعرض لضغوط كبيرة من أسر المفقودين الأميركيين في سوريا للبحث عنهم، والتحقق من مصيرهم، وربما إطلاق سراحهم في صفقة تبادل ما مع النظام السوري، فهي مقتنعة أنهم في قبضته رغم إنكار النظام الدائم لذلك".
ورغم علم واشنطن بأن النظام لم يقدم معلومات عن مصير تايس، فإن تجارب سابقة كانت قد بينت أن النظام كان ينكر بكل قوة وجود محتجزين أجانب لديه، ثم يعود فيتراجع عن روايته وينخرط في صفقة من صفقات التبادل، فهي لعبة يلعبها النظام أملا في تحقيق القدر الأعظم من المكاسب من صفقة التبادل، ما أبقى على اهتمام أميركا بفتح أقنية حوار مع دمشق ولو في السر، حسب قول مسؤول غربي.
مر وقت قبل أن تقرر إدارة الرئيس بايدن أن تعاود التواصل مع دمشق. في عام 2022 أرسل كارستنس معاونه إلى نيويورك ليقابل السفير بسام صباغ. حاول إقناعه بفائدة التعاون في عدة ملفات، رفع صباغ الأمر إلى دمشق، فجاءه التوجيه بـ"عدم التعاون".
صباغ الذي كان يريد فتح الأقنية "وجد موقف الأسد غريبا وغير مفهوم" لكنه اكتفى بنقل الرسائل. أما وزير الخارجية فيصل مقداد، فكان "يريد استغلال هذه الفرصة لفتح الأقنية مع بلد في حجم وأهمية الولايات المتحدة. ولكن بشار الأسد ارتأى غير ذلك، وتم صرف النظر عن الموضوع"، حسب تقرير كتب عن التفاصيل.
القناة العمانية... وفدا التفاوض
في أواخر عام 2022 اتصل سلطان عمان هيثم بن طارق سلطان عمان بالأسد وتحدث معه مطولا حول رغبة الأميركيين في فتح قناة للحوار، وشرح أهمية "إبقاء باب الحوار مفتوحا حتى بين الدول المتناحرة سياسيا، ورغم أن عقلية بشار الأسد التي كانت تتسم بالعناد الشديد وضيق الأفق لم تكن مرتاحة إلى إجراء أي حوار مع الأميركيين، فقد كان من الصعب على الأسد أن يرفض طلبا لسلطان عمان، فوجد نفسه مضطرا للموافقة".
أبلغ سلطان عمان الطرف الأميركي بموافقة السوريين على اللقاء معهم سرا في مسقط، واتفق الجانبان عبر الوساطة العمانية على أن يحدد كل جانب النقاط التي يرغب في مناقشتها في جدول الأعمال دون أن يحق للطرف الآخر الاعتراض عليها. ولم يبق إلا الاتفاق على أعضاء الوفدين.
مسؤول غربي: يبدو أن الأسد كان يعتبر أن المفاوضات تجري بين خصمين متكافئين يتمتعان بالندية
أبلغ الجانب الأميركي العمانيين أن وفدهم سيكون رفيع المستوى، وسيرأسه بريت ماكغورك نائب مستشار الرئيس الأميركي المكلف بشؤون الشرق الأوسط. كما سيضم جوشوا غيلتزر وهو أيضا يشغل منصب نائب مساعد الرئيس الأميركي لشؤون الأمن القومي، إضافة إلى خمسة أعضاء آخرين من جميع المؤسسات الأميركية، أي وزارة الخارجية، وزارة الدفاع، وزارة الأمن الوطني، وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إيه).
كان ماكغورك مسؤولا رفيعا في إدارة الرئيس بايدن، وكان مقربا من مستشار الأمن القومي جيك سوليفان، ويحظى بثقة الرئيس بايدن. كان يتردد بانتظام على الشرق الأوسط فيقابل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وقادة عربا وإقليميين آخرين. أما جوشوا غيلتزر فكان مختصا استراتيجيا بشوؤن الإرهاب ومستشارا قانونيا لكل من البيت الأبيض ومجلس الأمن القومي.
كان من الطبيعي أن يتوقع الأميركيون أن يرسل السوريون وفدا رفيع المستوى، كأن يضم رئيس جهاز الاستخبارات السورية ونائب وزير الخارجية أو مستشار رئيس الجمهورية أو أحد كبار قادة الجيش. وجاء قرار الأسد بأن يكون الوفد السوري برئاسة السفير عماد مصطفى (الذي عين مديرا للمعهد الدبلوماسي بعد عودته من منصبه كسفير في الصين بعد عمله سفيرا في واشنطن) وعضوية شخصين من الأجهزة الأمنية السورية، هما العميد سامر بريدي والعميد ماجد إبراهيم. يقول مسؤول غربي: "كان الاختيار مفاجئا لمسقط وواشنطن بكل المقاييس. فلم يكن هناك تكافؤ أو تناسب بين مناصب أعضاء الوفد السوري ومناصب أعضاء الوفد الأميركي الدولة العظمى في العالم".
السفير عماد مصطفى
وحسب وثيقة سورية، فإن المقداد "شعر بالحرج عندما أبلغه الأسد بقراره، فكيف سيشرح للأسد أن هناك عدم حكمة في تشكيلة الوفد السوري، وعندما أبلغ مصطفى بقرار تشكيل الوفد، جاءه رده سريعا، أنه يفهم العقلية الأميركية جيدا، وبغض النظر عن خبرته وتاريخه الدبلوماسي، فهم سيعتبرون أن إرسال وفد برئاسة مدير المعهد الدبلوماسي، وعضوية عميدين غير معروفين في الأمن السوري، هو تعبير صريح عن الاستخفاف بهذا الحوار، وعدم التعامل معه بجدية".
اقترح مصطفى أن يرأس هذا الوفد شخصية أعلى في الموقع الهرمي في القيادة السورية، وأن يدعم المفاوضات والدبلوماسية الدولية ليكون الشخص الثاني في هذا الوفد لتحقيق "الغرض المطلوب من المفاوضات، ويرسل رسالة صحيحة إلى الجانب الأميركي". عندما اقترح المقداد على الأسد ذلك رد الأخير: "الوفد سيكون كما قلت لا تغيير فيه"، حسب شخص معني.
مصطفى كان قد عمل سفيرا في بكين وواشنطن، وكان يتقن اللغة الإنكليزية ويعرف الكثير عن آلية صنع القرار في واشنطن. لكنه لم يكن "بعثيا" ما حرمه من تعيينه في منصب رئيس في وزارة الخارجية. ورفض الأسد تعيينه في منصب رئيس. وعندما شغر موقعي نائب الوزير بعد تعيين بشار الجعفري سفيرا في موسكو، ومعاون الوزير أيمن سوسان، لم يتم ترفيع مصطفى، بل جاء الأسد بالسفير صباغ نائبا لوزير الخارجية والسفيرين أيمن رعد وحبيب عباس معاونين لوزير الخارجية.
أما العميد سامر بريدي فكان ضابطا في الاستخبارات السورية. التقطه مملوك عندما كان مديرا للاستخبارات العامة، فاصطفاه إلى جانبه، وعندما أصبح رئيسا لجهاز الأمن الوطني نقله معه من إدارة المخابرات العامة، وأصبح من أقرب المساعدين إليه. وكان يكلف عادة بالمهام الخاصة في المفاوضات واختراق المعارضة في مسار آستانة أو جنيف. العميد ماجد إبراهيم كان ينتمي إلى شعبة الأمن العسكري، في فرع فلسطين سيئ السمعة، وهو رجل أمن سوري نمطي لا توجد لدينا الكثير من المعلومات عنه.
عندما أبلغ المقداد الجانب العماني بتشكيلة الوفد، أصيب العمانيون بالدهشة من هذه التشكيلة، ولكنهم اكتفوا بإبلاغ الجانب الأميركي بأسماء الوفد السوري. وقال مسؤول غربي: "لم يسر الجانب الأميركي بتركيبة الوفد السوري، اعتبروا مستوى التمثيل دليلا على عدم الجدية. فمصطفى لم يكن في موقع عال في الهرم الرسمي للسلطة والمسؤولية، والضابطان الآخران غير معروفين، وربما كانت مهمتهما مراقبة مصطفى والعمل على ضبط إيقاعه، فهو معروف بعدم التزامه الدقيق بالخط الرسمي السوري".
أرسل الأميركيون رسالة عبر الجانب العماني بهذا الشأن، هم يريدون أن يكون الوفد السوري برئاسة علي مملوك. وكما هو مألوف في مثل هذه الحالات، ازداد تشبث الأسد بقراره: "نحن لم نتدخل بتشكيلة الوفد الأميركي. لماذا يتدخلون بتشكيلة وفدنا؟". وقال مسؤول غربي: "يبدو أن الأسد كان يعتبر أن المفاوضات تجري بين خصمين متكافئين يتمتعان بالندية. كانت المشكلة دبلوماسية بامتياز: مستوى التمثيل في الوفد السوري لم يكن مكافئا لمستوى التمثيل في الوفد الأميركي، وسوريا في ميزان القوى ليست ندا للولايات المتحدة". لكن الأميركيين وافقوا على المفاوضات.
الأسد لوفد التفاوض: "لا تتخيلوا أنكم ذاهبون للتفاوض مع الأميركيين. كل ما سيطلبونه منكم سترفضونه. نحن فقط وافقنا على المحادثات إرضاء لأخوتنا العمانيين"
الموقف التفاوضي
بدأ الوفد السوري بالتحضير لجولة المفاوضات الأولى، كانت الاجتماعات تتم في مكتب مصطفى في وزارة الخارجية السورية، وضع أعضاء الوفد قائمة بالأهداف الرئيسة المطلوب تحقيقها: "استرجاع حقول النفط والغاز (كونيكو والعمر)، وتخفيف العقوبات القاسية المفروضة على سوريا، ثم في المرحلة النهائية انسحاب القوات الأميركية من سوريا وإعادة ضم منطقة شمال شرقي سوريا". ثم وضعوا قائمة بأدواتهم التفاوضية التي يمكن أن يقدموها للأميركيين: "التعاون لكشف مصير المفقودين الأميركيين في سوريا وعلى رأسهم أوستن تايس، والتعاون ضد الإرهاب، ثم في المرحلة النهائية استئناف التعاون الأمني الذي كان قائما بين أجهزة البلدين الأمنيين إثر الهجوم على برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك عام 2001"، حسب وثيقة سرية.
أكمل الوفد التفاوضي السوري تجهيز ملفهم التفاوضي، ثم انتظروا أن يستدعيهم الأسد فيعرضوا عليه ملفهم، ويأخذوا منه التعليمات النهائية قبل التوجه إلى مسقط: أين هي خطوط المرونة، وأن يمكن تقديم تنازلات تفاوضية، وما هي الخطوط الحمراء التي لا يجوز التنازل عنها. ولكن هذا الاستدعاء لم يأت. وحسب وثيقة فقبل يومين من موعد السفر، عبر مصطفى عن موقفه للمقداد، قائلا: "نحن سنسافر بعد يومين ولا نعرف ما هي حدود ولايتنا في المفاوضات".
لم يكن المقداد قادرا على تقديم الإجابات، فجميع قرارات السياسة الخارجية كانت محتكرة تماما من قبل الأسد ولم يكن من النوع الذي يستمع للآراء والنصائح من قبل فريق السياسة الخارجية لديه، بل كان يكتفي عند اللقاء معهم بشرح الواقع الدولي لهم وتزويدهم بالتوجيهات. اكتفى المقداد بنقل طلب مصطفى إلى الأسد.
تقويم إيراني لعامي 2021 و2022 عثر عليه في قسم السجن العسكري بمجمع سجن تدمر، الذي كان يستخدم سابقا من قبل مقاتلين إيرانيين لمساندة نظام الأسد، في مدينة تدمر، وسط سوريا، في 7 فبراير
وقبل يوم من موعد السفر، استدعى الأسد السفير مصطفى منفردا إلى "قصر الشعب". ذهب مصطفى حاملا الملف الذي أعده مع بريدي وإبراهيم ليعرضه على الرئيس. فيما بعد أبلغ مصطفى زملاءه في الوزارة بأنه فوجئ عندما بدأ الأسد الحديث بقوله: "لا تتخيلوا أنكم ذاهبون للتفاوض مع الأميركيين. كل ما سيطلبونه منكم سترفضونه. نحن فقط وافقنا على المحادثات إرضاء لأخوتنا العمانيين"، حسب قول مصدر. وعندما أجابه مصطفى: "لكن المطلب الأساسي للأميركيين في هذه الجولة على الأقل هو أوستن تايس. لماذا لا يمكننا التعاون معهم في هذه النقطة على الأقل؟". قال الأسد: "أوستن تايس ليس عندنا". أجاب مصطفى: "هذا أفضل، بما أنه كذلك فيمكننا أن نعرض عليهم التعاون لكشف مصيره فنكسب بذلك بعض النقاط التفاوضية. أنا درست ملفه جيدا، وهم لديهم ما يعتقدون أنها أدلة على وجوده عندنا، فيمكننا التداول معهم حول هذه الأدلة لعلنا نصل إلى تعاون مشترك قد يتطور ويفضي إلى أمور أخرى".
ختم الأسد حديثه بصورة حازمة: "أمنعكم تماما من التفاوض مع الجانب الأميركي حول تايس". عاد مصطفى إلى الوزارة فأبلغ المقداد وسوسان بفحوى اللقاء-الصدمة مع الأسد.
في مسقط
استيقظ أعضاء الوفد السوري في وقت مبكر صباح الأربعاء 22 فبراير/شباط 2023 واجتمعوا في فندقهم في مسقط لمراجعة أخيرة لملفاتهم قبل التوجه إلى مقر الاجتماع. لاحظ مصطفى أن العضوين الآخرين لم يكونا على علم بتوجيهات الأسد. اصطحبت المخابرات العمانية الوفد السوري إلى فيلا فاخرة منعزلة تطل على خليج في بحر عمان. ولدى وصولهم كان الوفد العماني في استقبالهم. جلسوا في غرفة استقبال كبيرة، وبعد تبادل قصير للمجاملات وصل أعضاء الوفد الأميركي.
وقال مسؤول مطلع على المفاوضات، إنه كان واضحا أن الوفد السوري لم يكن قادرا على تخمين الكيفية التي سيتعامل الأميركيون معهم بها. هل سيكونون باردين ومتباعدين أم لطفاء؟ هل سيصافحونهم أم سيكتفون بإيماءة من الرأس؟ عندما وصل الوفد الأميركي إلى غرفة الاستقبال بدأوا بمصافحة المضيفين العمانيين، ثم استداروا تجاه الوفد السوري وصافحوهم. وكعادة الأميركيين، رفعوا الكلفة فورا، وبدأوا بسؤال مصطفى عن رحلتهم من دمشق إلى مسقط، وعن الفندق الذي ينزلون فيه، وغير ذلك من الأمور غير المهمة.
بدأ الأميركيون الحديث، قدموا التعاطف والتعازي للشعب السوري إثر الزلزال المدمر الذي ضرب المدن السورية قبل أيام في فبراير، ثم انتقل بريت ماكغورك للحديث عن أهمية التعاون بشأن أوستن تايس
في العاشرة صباحا، اصطحب العمانيون الوفدين إلى غرفة الاجتماعات، ألقوا كلمة ترحيبية قصيرة ثم انسحبوا تاركين الوفدين التفاوضيين على انفراد. لم يكن هناك أي مترجمين. دار الحديث باللغة الإنكليزية التي كان مصطفى يتقنها. العميد بريدي كان ملما بها يفهم معظم ما يقال ولكنه لم يكن متمرسا بالحديث بها، أما العميد إبراهيم فلم يكن يعرف كلمة إنكليزية واحدة. "كان العميد بريدي يسجل الحديث الدائر بجهاز صغير كان معه"، حسب قول أحد المشاركين.
بدأ الأميركيون الحديث، قدموا التعاطف والتعازي للشعب السوري إثر الزلزال المدمر الذي ضرب المدن السورية قبل أيام في فبراير، ثم انتقل بريت ماكغورك للحديث عن أهمية التعاون بشأن أوستن تايس، وكيف أن هذا التعاون سيغير من طبيعة العلاقات السورية-الأميركية، وسيفتح آفاقا للتعاون حول ملفات أخرى. كان ماكغورك يتكلم لخمس أو ست دقائق، ثم كان يعطي الحديث لجوشوا غيلتزر فيتكلم هو الآخر لخمس أو ست دقائق فيعود ماكغورك لاستئناف حديثه، ثم يعطي المجال لستيفن غيلين قبل أن يكرر مرة أخرى أهمية التعاون حول أوستن تايس.
ولم يخل الجو من بعض الغرابة. وقال أحد المشاركين: "كان العميد ماجد إبراهيم يلتفت إلى السفير مصطفى ويسأله بصوت عال: ما الذي يقولونه؟ فيطلب مصطفى من ماكغورك التوقف لبرهة وجيزة ليلخص للعميد إبراهيم ما قاله الأميركيون بصوت عال وبالعربية". أما عضوة الوفد التي كانت تمثل استخبارات الدفاع الأميركية فكانت تتابع تدوين ما يقوله مصطفى بالعربية لماجد إبراهيم، فأدرك أنها تلم بالعربية إلماما جيدا. ولاحظ أيضا علامات الدهشة ترتسم على وجوه أعضاء الوفد الأميركي. فليس من المألوف في المفاوضات الدولية أن يوقف رئيس الوفد مجريات الاجتماع ليلخص لأحد أعضاء الوفد ما الذي كان يدور حوله!
المصور المستقل أوستن تايس في مكان لم يكشف عنه في سوريا، يوليو 2012
بعد حوالي الساعة وعشر دقائق من حديث الوفد الأميركي، بدأ مصطفى بالحديث، استعرض معهم تاريخ العلاقات السورية-الأميركية، وحدثهم عن خبرته السابقة في التعامل مع مدير "سي آي إيه" ويليام بيرنز والذي كان يتعامل معه بشكل كبير بصفته السابقة كنائب لوزير الخارجية الأميركي، وكيف تعاونا في كثير من الملفات قبل انهيار العلاقات الثنائية. كان مصطفى يتحدث عن العلاقات الدولية والصراع العربي الإسرائيلي، أو التعاون الدولي في مكافحة الإرهاب وغير ذلك من قضايا السياسة الدولية والإقليمية في الشرق الأوسط.
لاحظ مسؤول غربي أن مصطفى "لم يتحدث مطلقا عن موضوع أوستن تايس رغم إلحاح الأميركيين المتكرر عليه ليناقشهم حول موضوع تايس"، دون أن يعرف الجانب الأميركي أن "الأسد وجهه بأن يقول بأن أوستن تايس ليس عندنا، ففضل بدلا عن ذلك أن لا يقول شيئا". وزاد: "لعدة مرات كان ماجد إبراهيم يقاطعه ليسأله: ما الذي تقوله لهم؟ " فيبتسم أعضاء الوفد، ويبتسم الوفد الأميركي لغرابة الموقف.
بعد انتهاء حديث مصطفى، عاد الوفد الأميركي برأسيه بريت وجوشوا فأكدا على ضرورة التعاون لكشف مصير أوستن تايس، وقال ماكغورك: "نحن ندرك أن سوريا تشهد حربا طاحنة على أراضيها، وندرك أن السيطرة على الأراضي تتغير دون توقف، ونعلم أن أوستن تايس كان قد وقع في قبضة الأمن السوري فاحتجز لديهم، ثم نعلم أنه تمكن من الفرار من سجنه حيث تواصل معنا وأرسل لنا رسالة فيديو قصيرة، ثم اختفت آثاره، ربما هو الآن بحوزتكم، ربما قتلته إحدى الجماعات المسلحة، ربما قتل وهو قيد الاحتجاز لديكم أثناء معارك الكر والفر بينكم وبين المعارضة، نحن لا نهدف إلى توجيه اللوم، نحن نريد كشف مصيره، هذا هو التعاون الذي نطلبه منكم".
في الواحدة ظهرا، قاطع المضيفون العمانيون الاجتماع ودعوا الطرفين لتناول الغداء على طاولة مشتركة. أجلسوا مصطفى بين ماكغورك وغيلتزر وجلس بريدي على يمين ماكغورك، وإبراهيم على يسار غيلتزر. على الطرف المقابل حول المائدة جلس العمانيون وسائر أعضاء الوفد الأميركي. وقال أحد المشاركين: "كانت الأحاديث هادئة وودية وشملت أمورا كثيرة، سألوا مصطفى عن الفرق بين تجربته في واشنطن وتجربته في بكين، فيما جلست مندوبة مخابرات الدفاع الأميركية على يمين سامر بريدي وانخرطت معه في أحاديث مطولة. أما ماجد إبراهيم فاكتفى بتناول الطعام وتبادل عبارات المجاملة مع العمانيين".
ويشير خبير مطلع على محضر الاجتماع: "كان هذا تكتيكا مألوفا لدى الأميركيين، كانوا يدرسون شخصية كل مفاوض على حدة، ويحاولون فهم ما الذي يدور حقا في ذهنه، وما هو موقفه غير الرسمي، وهل توجد وسيلة يمكنهم عبرها بناء قنوات مباشرة معه، أو الاستفادة منه في الحصول على معلومات ثمينة، بل حتى إغراؤه للعمل لصالحهم مقابل وعود ومكتسبات شخصية. كان عماد مصطفى معتادا على الطرق الأميركية هذه، فتعامل معها بتجاهل لطيف، فيما انهمكت السيدة الأميركية التي تتقن اللغة العربية بحديث مطول مع سامر بريدي، أما ماجد إبراهيم فكان صامتا معظم الوقت".
كان الاقتصاد السوري في حالة انهيار تام، وكان الشعب السوري يعاني من حالة فقر غير مسبوقة، وها هم الأميركيون يقولون للسوريين: "خذوا آباركم وأعطونا أوستن تايس"
مفاجأة غير متوقعة
في الثانية بعد الظهر عاد الوفدان إلى غرفة الاجتماعات، وهنا فجر الأميركيون مفاجأة غير متوقعة. قال بريت ماكغورك: "من معرفتنا بكم، نحن ندرك جيدا أنكم لا تقدمون شيئا دون مقابل، ولذلك سنتقدم لكم بالعرض التالي. قوات جيشكم النظامي تتمركز على بعد مئات قليلة من الأمتار عن قواتنا الموجودة اليوم في حقلي عمر وكونيكو. نحن مستعدون لسحب قواتنا من هذين الحقلين والسماح لكم باستعادة السيطرة عليهما مقابل أن تتعاونوا معنا في كشف مصير أوستن تايس. طبعا لدينا شرطان لتحقيق هذا الانسحاب: أولهما أن لا تدخل إلى المنطقة التي ننسحب منها أي قوات غير نظامية، أي إن (الحرس الثوري) الإيراني وميليشيات (الحشد الشعبي) لا يمكنها دخول تلك المناطق، وثانيهما هو تحصيل حاصل: لا يجوز أن تستعمل الأراضي التي ننسحب منها منطلقا لأي هجوم بقذائف الهاون أو الكاتيوشا على قواتنا، وإلا فإننا سنجد أنفسنا مضطرين لإعادة احتلالها مرة أخرى".
قوات أميركية تسير دوريات في حقول نفط قرب الحدود الشمالية الشرقية لسوريا مع تركيا في ريف القحطانية، شمال شرق محافظة الحسكة، في 3 سبتمبر 2024
كان "العرض سخيا" حسب قناعة الوسطاء، إذ إن سوريا كانت تعاني من وطأة الحرمان من مصادرها النفطية، وكان الاقتصاد السوري في حالة انهيار تام، وكان الشعب السوري يعاني من حالة فقر غير مسبوقة، وها هم الأميركيون يقولون للسوريين: "خذوا آباركم وأعطونا أوستن تايس". لكن مصطفى كان مقيدا بتعليمات صارمة من الأسد بعدم التفاوض حول أي موضوع. لكن الضابطين المرافقين له لم يطلعا على هذا الأمر. وحسب قول أحد المشاركين: "قال مصطفى لبريدي: أعتقد أن هذا موضوع عسكري بحت وأنا لا علاقة لي بالأمور العسكرية والأمنية وبالتالي أترك لك مجال الكلام وأنا سأكتفي بالترجمة".
أخرج بريدي فورا من حقيبته مجموعة خرائط تبين مواقع وجود القوات الأميركية في سوريا، وبدأ يرسم عليها بالقلم دوائر تبين الأماكن التي يجب عليهم الانسحاب منها. وقال المصدر: "عندما حاول الاقتراب من منطقة التنف أبلغوه بأن التنف خط أحمر، فهي موقع مهم لهم لحماية الدول المجاورة في إشارة إلى إسرائيل، من أي هجمات إرهابية جهادية".
أخذ الجانب الأميركي تلك الخرائط، واتفق الجانبان على العودة إلى رؤسائهم في واشنطن ودمشق، على أن يعودوا فيلتقوا مرة ثانية بعد ثلاثة أسابيع في مسقط، أي في مارس/آذار المقبل.
خلوة ماكغورك-مصطفى
بعد انتهاء الجلسة في الساعة الخامسة والعشرين دقيقة من بعد ظهر اليوم نفسه، تقدم ماكغورك من مصطفى وطلب إليه أن يختلي معه ليتحدثا على انفراد. خرج الاثنان إلى شرفة خارجية تطل على منظر بديع لخليج عمان، كانت الشمس تميل إلى الغروب. وفي المياه المقابلة للفيلا كان هناك يختان يحومان بشكل دائري، قال ماكغورك لمصطفى: "أتعتقد أن هذين اليختين يتبعان للمخابرات وأنهما كانا يتنصتان على مفاوضاتنا؟". أجابه مصطفى بدعابة مماثلة: "أؤكد لك أنهما تابعان للمخابرات الإسرائيلية التي تريد أن تعرف مجريات الأمور بيننا".
غضب الأسد عندما قرأ أن العميد بريدي قد تفاوض مع الأميركيين حول تفاصيل الانسحاب من حقلي عمر وكونيكو، كما انزعج بشدة من عملية تبادل الأرقام بين ماكغورك ومصطفى
بعد ذلك انتقل الحديث إلى مواضيع جدية. قال ماكغورك لمصطفى: "أنا سأغادر مسقط اليوم، وسأتوجه مباشرة إلى تل أبيب. لدي موعد غدا صباحا مع نتنياهو، ما رأيك في أن أجس نبضه في مسألة عملية استئناف محادثات السلام الإسرائيلية-السورية؟ سيكون لاستئناف هذه المحادثات وقع إيجابي هائل لدى أعضاء الكونغرس والمعارضين داخل الإدارة الأميركية لأي انفتاح أو تقارب مع سوريا".
أجاب مصطفى ماكغورك: "أقترح أن نحل مشاكلنا الثنائية أولا قبل البدء بالحديث عن مشاكلنا مع طرف ثالث". أجابه ماكغورك: "ربما كان الحق معك، فإذا تعاونتم معنا في حل قضية أوستن تايس سيؤدي هذا إلى خلق ديناميات جديدة تدفعنا للتفكير في إحياء محادثات السلام بينكم وبين إسرائيل".
بعد ذلك طلب ماكغورك من مصطفى أن يتبادلا أرقام الاتصال المباشر باستخدام تطبيق "واتساب". أعطاه رقمه وسجل رقم مصطفى ثم تصافحا وغادر الجميع مكان الاجتماع.
بعد عودة الوفد السوري إلى دمشق رفع مصطفى محضر الاجتماع إلى الأسد في عشرين صفحة. وقال مصدر: "غضب الأسد عندما قرأ أن العميد بريدي قد تفاوض مع الأميركيين حول تفاصيل الانسحاب من حقلي عمر وكونيكو، كما انزعج بشدة من عملية تبادل الأرقام بين ماكغورك ومصطفى".
بريت ماكغورك، منسق البيت الأبيض الأميركي لشؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، يتحدث خلال الدورة السابعة عشرة لحوار المنامة في العاصمة البحرينية المنامة، في 21 نوفمبر 2021
أبلغ المقداد مصطفى بأن "الأسد قد أمره بأن يقوم مصطفى بمسح رقم ماكغورك من هاتفه وحذره من أي اتصال مباشر مع ماكغورك". نفذ مصطفى الأمر الموجه إليه وقطع أي اتصال مباشر له مع ماكغورك.
بعد ثلاثة أيام من ذلك الاجتماع، أرسل ستيفن غيلين رسالة إلى مندوب سوريا الدائم في نيويورك بسام صباغ يعلمه فيها أن الجانب الأميركي يعتبر أن محادثات مسقط "كانت جيدة جدا ويريد مواصلتها". قام صباغ بإرسال محتوى هذه الرسالة إلى الوزير المقداد الذي رفعها إلى الأسد ما زاد من شكوكه بمصطفى. أبلغ الأسد الوزير المقداد أن المحادثات لم تؤد إلى أي نتيجة وأنه لا داعي لعقد جولة تالية.
عود على بدء
مرت الأسابيع الثلاثة المتفق عليها ولم يلتق الجانبان مرة أخرى وفق ما تم الاتفاق عليه في مسقط.
في الفترة التالية تكرر سقوط قذائف الهاون على القوات الأميركية المتمركزة في شمال شرقي سوريا، أرسل بريت ماكغورك رسالتين إلى مصطفى يحذره فيها من عواقب سقوط تلك القذائف، ويشير إلى أنها لم تؤد إلى أي أضرار مادية ولكنها حطمت الروح الطيبة التي سادت أثناء اجتماع مسقط السابق. لم يتلق مصطفى هذه الرسائل لأن الأسد كان قد أمره بمحو رقم ماكغورك من هاتفه الخلوي. بقيت الرسائل غير مقروءة ودون رد، أثار ذلك سخط الجانب الأميركي.
تكرر السيناريو السابق مرة أخرى. الأسد يرى أن لا فائدة من استئناف الحوار مع الأميركيين. العمانيون يرسلون مبعوثهم الخاص إلى دمشق للتوسط من جديد. الأميركيون يشعرون بأنه لا بد من رفع مستوى الحوار اعتقادا منهم أن الوفد السابق لم يكن يمتلك الصلاحيات الكافية للانخراط في حوار جدي. اقترحوا إرسال جيك سوليفان مستشار الرئيس الأميركي لشؤون الأمن القومي على أن يرأس الوفد السوري اللواء علي مملوك. وقال مصدر مطلع: "ازداد غضب الأسد: لا علاقة لهم بمن يرأس وفدنا. وبدأت الشكوك تتسرب إلى نفسه من إصرار الأميركيين على اللواء مملوك".
الاجتماع الثاني
ومن جديد، تحدث سطان عمان إلى الأسد الذي وافق مرة ثانية على أن يذهب الوفد نفسه الذي ذهب في المرة الأولى. الأميركيون وافقوا على الاجتماع الثاني.
توجه الوفد السوري مرة ثانية إلى مسقط للاجتماع مع الأميركيين يوم 23 مايو/أيار 2023، أي بالتزامن مع حضور الأسد القمة العربية في جدة لأول مرة منذ 2012. كانوا يدركون أن "رحلتهم لا طائل منها وأن الأسد متعنت بطريقة غير مفهومة، وأن المفاوضات ستكون شكلية وأنها مجرد بادرة لطف إرضاء للعمانيين"، حسب قول أحدهم.
في بداية العام قرر الأسد فجأة عزل مملوك من منصبه رئيسا لمكتب الأمن الوطني وتعيينه مستشارا أمنيا بالقصر. وكان أحد التفسيرات أن السبب هو إصرار الأميركيين على مشاركته (مملوك) في المفاوضات
تأخر انعقاد الاجتماع الثاني في مسقط 10 ساعات عن موعده المحدد أصلا. قضاها الوفد السوري في الفندق ينتظر نقله إلى قاعة الاجتماعات السابقة. في السابعة مساء التقى الجانبان مرة ثانية. كان ماكغورك هذه المرة أقل كياسة وأكثر مجابهة. بدأ حديثه بأن قال لمصطفى: "لا داعي لأن نخوض في أي تفاصيل طالما أنتم غير موافقين على مناقشة مسألة أوستن تايس".
ومرة أخرى تجنب مصطفى الخوض في أي حديث عن تايس. طبعا كانت هناك عشرات من الأسئلة المحيرة التي تدور في ذهن مصطفى، فهو لم يكن قادرا على تلمس حقيقة اختفاء أوستن تايس، الحقيقة القاطعة الوحيدة لديهم كانت أن الأسد يرفض تماما أي حوار حول مصير تايس. وقال أحد المشاركين: "هل يعقل أن تضيع سوريا فرصة استرداد حقلي العمر وكونيكو بسبب هذا الإصرار العنيد على عدم مناقشة موضوع تايس؟ ربما هناك أشياء أخرى مجهولة ، ولكن هذا ما كان عليه واقع الحال".
دام الاجتماع ساعة وعشر دقائق وانتهى بسرعة دون أي نقاش جدي حول أي موضوع ذي شأن.
الإمارات العربية تدخل
انقطعت جميع قنوات الاتصال بين الولايات المتحدة وسوريا بعد فشل الاجتماع الثاني. وظلت سبل التواصل منقطعة حتى يناير/كانون الثاني 2024. في ذلك الشهر أبلغ الأسد المقداد أن الإمارات طلبت توسطا من الأميركيين، وأنها ألحت كثيرا في رفع مستوى الوفد التفاوضي السوري وإرسال اللواء علي مملوك مع السفير مصطفى وغيرهما من الضباط إلى أبوظبي حيث سيأتي جيك ساليفان مع بريت ماكغورك وجوشوا غيلتزر.
مقاتلون معارضون لنظام الأسد يحرقون علما تابعا للواء "فاطميون" المدعوم من إيران أثناء تفقدهم قاعدة في بلدة خان شيخون، بمحافظة إدلب شمال غرب سوريا، في 1 ديسمبر 2024
أعلم الأسد المقداد أنه قد وافق على عقد اجتماع ثالث من حيث المبدأ، وأنه سيرفع مستوى تمثيل الوفد التفاوضي، ولكن لديه مشكلة واحدة، هي أنه لا يريد إرسال اللواء علي مملوك. لقد بدأ إلحاح الأميركيين في إرسال اللواء مملوك يثير حفيظته، بل وحتى ريبته. أعلم الأسد وزير خارجيته أنه سيرسل وفدا جديدا للتفاوض مع الأميركيين، غير أنه لا داعي لاستعجال الموضوع. ونقل عنه قوله: "المهم أن نبلغ أبوظبي بموافقتنا على الاقتراح، وسنتريث في تحديد الموعد الجديد".
في بداية العام قرر الأسد فجأة عزل مملوك من منصبه رئيسا لمكتب الأمن الوطني وتعيينه مستشارا أمنيا بالقصر. وكان أحد التفسيرات أن السبب هو إصرار الأميركيين على مشاركته (مملوك) في المفاوضات.
في سبتمبر/أيلول 2024، تدخلت عمان ثانية لاستئناف الحوار بين واشنطن ودمشق. اللافت، أن الأسد أعفى مملوك من منصبه بشكل مفاجئ وأعطاه أياما لتسليم مكتبه وأرسله إلى منزله. وقال مصدر: "حتى اليوم لا يعرف مملوك سبب التغير المفاجئ من قبل الأسد تجاهه. هل لهذا علاقة بإلحاح الأميركيين على ترؤسه للوفد السوري؟ أم إن هناك أمورا أخرى لا يعرفها إلا الأسد نفسه؟ هل سبب إخراجه جواز سفر فلسطيني لعائلته من الرئيس محمود عباس علاقة بذلك؟".
وتزامن هذا مع انطلاق عملية إسرائيل ضد "حزب الله" التي أسفرت عن اغتيال قادته بمن فيهم زعيم "الحزب" حسن نصرالله.
طلب الأسد من المقداد أن يرفع إليه اقتراحا بتشكيل وفد على مستوى أعلى. تشاور المقداد مع معاونيه ووجدوا أن الاقتراح الأنسب هو أن يتشكل الوفد من نائبه الجديد بسام صباغ وعضوية مصطفى، وأن يتم إبلاغ الجانب الأميركي بذلك.
كان دور صباغ صاعدا في الخارجية وكانت هناك توقعات بأنه سيتبوأ قريبا منصب وزير الخارجية وهذا ما حصل بالفعل. وكانت لديه علاقة مع المقداد على عكس علاقات سلفه الجعفري، فيما كانت تربطه صلة قوية بمصطفى. رفع المقداد الاقتراح إلى الأسد فوافق عليه. ووجه وزارة الخارجية بأن تتواصل مع الأميركيين عبر الوسطاء طبعا لتحديد مكان وزمان الاجتماع القادم.
في 23 سبتمبر شكل الأسد وزارة جديدة عين فيها صباغ وزيرا للخارجية. وفي 26 نوفمبر/تشرين الثاني وجه صباغ، وزير الخارجية الجديد، تعليماته إلى مندوب سوريا في الأمم المتحدة السفير قصي الضحاك ليلتقي مع ستيفن غيلين فيتفق معه على مكان وتاريخ الاجتماع المقبل.
اتفق غيلين مع السفير الضحاك على اللقاء في مقر البعثة السورية في نيويورك في 2 ديسمبر. وفي 27 نوفمبر أطلقت "إدارة العمليات العسكرية" بقيادة "هيئة تحرير الشام" برئاسة أحمد الشرع عملية "ردع العدوان" ودخلت بعد يومين حلب، بالتزامن مع زيارة سرية كان يقوم بها الأسد إلى موسكو لحضور حفل تخرج ابنه حافظ في جامعة روسية.
في 2 ديسمبر، لم يأت ستيفن غيلين للاجتماع مع السفير الضحاك، ولم يتصل به لتأجيل الموعد أو إلغائه. وبذلك انتهى الفصل الأخير من قصة الحوار الأميركي مع نظام الأسد.
وفي 8 ديسمبر دخلت "إدارة العمليات" بقيادة "هيئة تحرير الشام" دمشق العاصمة، وفي 14 مايو/أيار التقى الرئيس الأميركي دونالد ترمب الرئيس السوري الجديد أحمد الشرع في الرياض، برعاية ووساطة سعودية، معلنا رفع العقوبات عن سوريا واستعادة العلاقات الثنائية.