من التجسس إلى الذكاء الاصطناعي... تحالف واشنطن ولندن يدخل العصر الرقمي

محور جديد لمواجهة الصين

رويترز
رويترز
الرئيس الأميركي دونالد ترمب يحمل رسالة من ملك بريطانيا تشارلز أثناء لقائه برئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر في المكتب البيضاوي بالبيت الأبيض في واشنطن، الولايات المتحدة، 27 فبراير

من التجسس إلى الذكاء الاصطناعي... تحالف واشنطن ولندن يدخل العصر الرقمي

لم تكن زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب للمملكة المتحدة في خريف عام 2025 مجرد رحلة ديبلوماسية تقليدية، بل محطة فارقة في مسار العلاقات بين البلدين، نقلت التحالف التاريخي من إطاره العسكري والاستخباراتي إلى آفاق جديدة قوامها التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي. في تلك الزيارة التي أثارت اهتمام العالم، اصطحب ترمب معه وفدا غير مسبوق من رؤساء كبريات الشركات الأميركية، من "مايكروسوفت" إلى "غوغل" و"إنفيديا" و"أمازون" و"أوراكل"، في مشهد يجسد بوضوح كيف أصبحت شركات التكنولوجيا الكبرى أذرعا استراتيجية للولايات المتحدة، تتحرك بالتوازي مع البيت الأبيض، وتعمل كجزء من قوتها الناعمة والصلبة في آن واحد.

الحدث لم يكن سياسيا فحسب، بل اقتصادي واستراتيجي بامتياز. فقد أعلن الجانبان التزاما استثماريا ضخما تجاوز 42 مليار دولار، ركز معظمه في مجالات البنية التحتية السحابية والحوسبة الفائقة القدرة وتطبيقات الذكاء الاصطناعي. كانت الرسالة واضحة: التحالف بين واشنطن ولندن يدخل مرحلة جديدة عنوانها "الريادة التكنولوجية"، في زمن تتنافس فيه القوى الكبرى على قيادة الثورة الصناعية الرابعة.

تلك الخطوة جاءت في لحظة دقيقة من التحولات العالمية. فالعالم يعيش سباقا محموما على التفوق في مجالات الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمومية والتقنيات الدفاعية الذكية. الصين تمد نفوذها الرقمي عبر مشروع "طريق الحرير الرقمي" والاتحاد الأوروبي يسعى إلى استقلالية تكنولوجية تقلل اعتماده على الشركات الأميركية. في هذا السياق، أرادت واشنطن أن تؤكد أن "التحالف الأنغلوساكسوني" لا يزال في قلب المشهد، قادرا على المبادرة وليس مجرد متفرج على تحولات القوى العالمية.

ولم يكن اختيار بريطانيا مصادفة. فمنذ خروجها من الاتحاد الأوروبي، تسعى لندن إلى ترسيخ موقعها بوصفها شريكا مميزا لواشنطن في مجالات التكنولوجيا والابتكار. الحكومة البريطانية بقيادة كير ستارمر رأت في استثمارات الشركات الأميركية فرصة لتثبيت اقتصاد ما بعد "البريكست"، بينما وجد ترمب فيها ساحة مناسبة لتأكيد رؤيته الاقتصادية القائمة على "الصفقات الكبرى" التي تعزز النفوذ الأميركي في الخارج وتدعم الشركات الوطنية في الداخل.

وقد وصفت الزيارة بأنها الأضخم من حيث حجم الاتفاقات التجارية بين البلدين منذ الحرب العالمية الثانية، إذ تجاوزت قيمة الالتزامات المتبادلة 250 مليار جنيه إسترليني، وفق ما أعلن رئيس الوزراء البريطاني، منها 42 مليار دولار مخصصة لقطاع التكنولوجيا وحده. وشملت الاتفاقات إقامة مراكز بيانات متقدمة، وتمويل مشاريع بحثية في الذكاء الاصطناعي، وتطوير البنى التحتية السحابية المخصصة للقطاعين الحكومي والدفاعي.

جوهر التحول الذي تعكسه زيارة ترمب يؤكد أن التكنولوجيا لم تعد مجرد صناعة، بل أصبحت مكونا أساسيا في السياسة الخارجية

أما المشهد الرمزي فكان لافتا: ترمب يقف أمام مقر الحكومة البريطانية في "10 داوننغ ستريت" وإلى جواره الرئيس التنفيذي لشركة "مايكروسوفت" ساتيا ناديلا، ورئيس "إنفيديا" جنسن هوانغ، ورئيس "أمازون ويب سيرفيسز"، في صورة تجمع بين السياسة ورأس المال والابتكار. صورة تعيد إلى الأذهان لحظات تأسيس "العولمة الأميركية" في منتصف القرن العشرين، لكنها الآن بنسختها الرقمية الجديدة.

هذه الزيارة لم تكن بمعزل عن الإرث الطويل للعلاقة الأميركية–البريطانية، الذي لم يبدأ من التجارة أو المال، بل من التحالف الأمني والاستخباراتي الذي ولد في أتون الحرب العالمية الثانية. فقبل أن يتبادل البلدان الاستثمارات، كانا يتبادلان الشيفرات والمعلومات السرية، ويبنيان شبكة استخبارات مشتركة ستصبح لاحقا نواة "تحالف العيون الخمس" الذي يربطهما اليوم بمستوى غير مسبوق من الثقة والتكامل.

من هنا، يمكن القول إن "صفقة الازدهار التكنولوجي" ليست مجرد اتفاق اقتصادي، بل امتداد طبيعي لمسار تاريخي طويل تحول فيه التعاون الأمني إلى تعاون علمي ثم إلى شراكة تكنولوجية شاملة. فكما كان الرادار والكود في أربعينات القرن الماضي أدوات للتفوق العسكري، أصبحت اليوم خوارزميات الذكاء الاصطناعي والحوسبة الفائقة أدوات للنفوذ والسيطرة في القرن الحادي والعشرين.

وهذا هو جوهر التحول الذي تعكسه زيارة ترمب ويؤكد أن التكنولوجيا لم تعد مجرد صناعة، بل أصبحت مكونا أساسيا في السياسة الخارجية. إذ باتت الدول تقيس قوتها ليس بعدد حاملات الطائرات أو الصواريخ، بل بحجم قدراتها في تحليل البيانات وتطوير الذكاء الاصطناعي وتخزين المعرفة في السحب الإلكترونية.

أ.ف.ب
رجال الشرطة في المقدمة بينما يحمل أنصار جماعة "بريطانيا أولا" اليمينية المتطرفة الأعلام الوطنية خلال مسيرة مناهضة للمهاجرين، تدعو إلى عمليات ترحيل جماعية، مانشستر، 2 أغسطس 2025

في هذا الإطار، يفهم حرص ترمب على اصطحاب رؤساء الشركات الأميركية العملاقة معه، في إشارة إلى أن هذه الشركات أصبحت بمنزلة "وزارات ظل" تدير معارك النفوذ العالمية بوسائل غير تقليدية — بالبيانات بدل السلاح، وبالخوارزميات بدل الجيوش.

"تحالف العيون الخمس"

إذا كانت زيارة ترمب في 2025 قد دشنت عصرا جديدا من التعاون التكنولوجي بين واشنطن ولندن، فإن جذور هذا التحالف تمتد عميقا في التاريخ، إلى زمن كانت فيه الشيفرات العسكرية والاتصالات اللاسلكية أهم من الخوارزميات والبيانات الضخمة اليوم. فالعلاقة بين البلدين لم تبنَ على التجارة فحسب، بل على الثقة الأمنية والاستخباراتية التي تشكلت في أحلك لحظات القرن العشرين: الحرب العالمية الثانية.

في عام 1943، وفي خضم المعارك ضد ألمانيا النازية، وقعت اتفاقية BRUSA بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، بهدف تنظيم التعاون في فك الشيفرات وتبادل المعلومات السرية. كانت بريطانيا تمتلك في ذلك الوقت مركز "بلتشلي بارك"، الذي اشتهر بفضل عالم الرياضيات آلان تورينغ، أحد أوائل من استخدموا المنطق الحسابي لتفكيك شيفرات آلة "إنيغما" الألمانية.
هذا التعاون كان نواة لما سيصبح لاحقا أحد أقوى التحالفات الاستخباراتية في التاريخ. فبعد انتهاء الحرب بعام واحد، وقعت اتفاقية UKUSA عام 1946، التي منحت التعاون الاستخباراتي بين البلدين طابعا مؤسسيا ورسميا. الاتفاقية نصت على تبادل منهجي للمعلومات الملتقطة من الاتصالات العسكرية والمدنية، وتوزيع المهام بين أجهزة البلدين: وكالة الأمن القومي الأميركية من جهة، ومقر الاتصالات الحكومية البريطاني من جهة أخرى.

طورت واشنطن ولندن منظومات قادرة على تصفية ملايين الإشارات في ثوان، والتعرف الى الأنماط والسلوكيات المشبوهة باستخدام التعلم الآلي

هذه الاتفاقية تحولت تدريجيا إلى منظومة عرفت لاحقا باسم "تحالف العيون الخمس" بانضمام كندا وأوستراليا ونيوزيلندا. ومع الزمن، أصبح هذا التحالف أكبر شبكة تجسس وتحليل بيانات في العالم، قادرة على مراقبة الاتصالات العابرة للقارات، وتبادل المعلومات الاستخباراتية في الوقت الفعلي تقريبا.

خلال الحرب الباردة، تطور هذا التعاون إلى مستويات غير مسبوقة. فبينما ركز الاتحاد السوفياتي على بناء الترسانات النووية، ركزت واشنطن ولندن على تطوير قدراتهما في الاعتراض الإلكتروني والمراقبة الفضائية. أنشئ نظام "إشلون" في سبعينات القرن الماضي كشبكة عالمية لمراقبة الاتصالات عبر الأقمار الصناعية والكابلات البحرية. كانت محطاته تمتد من أوستراليا إلى كندا مرورا ببريطانيا، وتدار بتنسيق مشترك بين أجهزة التحالف.

ورغم الجدل الكبير حول استخدامه في مراقبة الحكومات والشركات وحتى المواطنين، فإن "إشلون" ظل أحد أعمدة الهيمنة الغربية على الفضاء المعلوماتي، وساهم في ترسيخ مبدأ أن من يملك القدرة على جمع المعلومات هو من يملك القوة.

في العقود التالية، لم تعد المعلومات مجرد وسيلة دفاعية، بل أصبحت عملة سياسية واقتصادية. فالتفوق الاستخباراتي تحول إلى تفوق تكنولوجي. ومن رحم هذه الشراكة نشأت مشاريع بحثية مشتركة في مجالات التشفير، وتحليل البيانات، والاتصالات الآمنة، لتصبح الأساس الذي سيبنى عليه لاحقا التعاون في الذكاء الاصطناعي.

مع دخول الألفية الجديدة، توسع التحالف ليشمل أدوات أكثر تعقيدا. من أبرزها منصة "ستون جوست" وهي شبكة آمنة مخصصة لتبادل المعلومات الدفاعية والاستخباراتية الحساسة بين دول "العيون الخمس". تديرها وكالة الاستخبارات الدفاعية الأميركية وتعتبر من أكثر الأنظمة أمانا في العالم.


تعتمد هذه المنصة على مبادئ الأمن الصفري، أي أنها لا تفترض الثقة المسبقة في أي مستخدم، بل تتحقق باستمرار من الهوية والصلاحيات والبيانات المتداولة. وفي عام 2023، أعلنت الولايات المتحدة نيتها تحديث النظام لتمكين إضافة أو إزالة شركاء جدد وفق طبيعة التهديدات، مما يعكس توجها نحو تحالف استخباراتي مرن يستجيب بسرعة لمتغيرات الأمن العالمي.

.أ.ف.ب
الرئيس الأميركي دونالد ترمب خلال مؤتمر صحافي الى جانب رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر، في مدينة إليزبري وسط إنكلترا، 18 سبتمبر 2025

تواكب هذا التحديث مع بروز أدوات الذكاء الاصطناعي في تحليل البيانات الاستخباراتية، حيث طورت واشنطن ولندن منظومات قادرة على تصفية ملايين الإشارات في ثوان، والتعرف الى الأنماط والسلوكيات المشبوهة باستخدام التعلم الآلي. ومن المفارقات أن هذه الأدوات، التي صممت أصلا لتعقب الأعداء، أصبحت اليوم تستخدم لحماية البنى التحتية الحيوية ومراكز البيانات من الهجمات السيبرانية.

من التجسس إلى البحث العلمي

على امتداد هذا التاريخ، أدركت واشنطن ولندن أن التعاون الاستخباراتي يمكن أن يكون منصة لتبادل المعرفة العلمية والتقنية، وليس فقط للمعلومات الأمنية. ففي مطلع الألفية، أطلق البلدان مشروع الشبكات والمعلومات، وهو برنامج بحثي مشترك يربط بين الجامعات والمختبرات الدفاعية، هدفه تطوير تقنيات شبكية يمكن استخدامها في كل من العمليات العسكرية والتطبيقات المدنية.
هذا المشروع مثل تحولا فكريا مهما: فبدل أن تكون التكنولوجيا "أداة عسكرية"، أصبحت "مجالا استراتيجيا" بحد ذاته، يقوم على الابتكار والبحث العلمي. ومع الوقت، امتزجت حدود الأمن بالعلم، لتصبح المعرفة التقنية عنصرا من عناصر القوة القومية.

مع تصاعد التهديدات السيبرانية في العقد الأخير، أعادت لندن وواشنطن ترتيب أولوياتهما. لم يعد الخطر يأتي فقط من الجواسيس التقليديين، بل من قراصنة إلكترونيين قادرين على تعطيل منشآت الطاقة والمطارات والمصارف. ومن هنا نشأت مبادرات جديدة مثل "مبادرة الأمن للابتكار" التي أطلقها "تحالف العيون الخمس" عام 2024، بهدف حماية شركات التكنولوجيا الناشئة من التجسس الصناعي وسرقة الملكية الفكرية.

أُعلن إنشاء "مجلس التنسيق التكنولوجي" بين الولايات المتحدة وبريطانيا، يتولى مهمة وضع معايير موحدة للذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني والحوسبة الكمومية

وفي العام نفسه، نظم الجانبان ورشة علمية حول تطبيقات الحوسبة الكمومية في الكيمياء، بتمويل مشترك، كما أعلن المعهد البريطاني لسلامة الذكاء الاصطناعي افتتاح مكتب له في الولايات المتحدة لتعزيز التعاون في المعايير الأخلاقية والتنظيمية لتقنيات الذكاء الاصطناعي. هكذا امتدت العلاقة من تبادل الشيفرات إلى تبادل الخوارزميات، ومن فك الرسائل العسكرية إلى تطوير النماذج الذكية القادرة على التنبؤ بالتهديدات قبل وقوعها.

تعمل الولايات المتحدة على دمج الذكاء الاصطناعي في مختلف مستويات الحكم والإدارة، بدءًا من الدفاع حتى الصحة والتعليم. أما بريطانيا، فتركز على بناء إطار تشريعي وتنظيمي مرن يمنحها القدرة على استضافة الابتكار دون أن تتحول إلى بيئة فوضوية كما تخشى بعض الدول الأوروبية. ومن خلال هذا التوازن بين الحرية والتنظيم، تأمل لندن أن تصبح بوابة أوروبا نحو الذكاء الاصطناعي الغربي.

تتلاقى هذه الرؤى في مشروع أوسع يسعى إلى تأسيس كتلة تكنولوجية غربية تشترك في بنية تحتية رقمية موحدة، ومعايير حوكمة مشتركة، ونظام تبادل بيانات آمن بين الحلفاء. الهدف ليس فقط التفوق على الصين في مجال التقنيات الناشئة، بل ضمان استمرار الهيمنة الغربية على البنية المعلوماتية للعالم — وهي الهيمنة التي كانت في الماضي عسكرية واقتصادية، وأصبحت اليوم رقمية ومعرفية.

تظهر ملامح هذا المشروع في سلسلة من الخطوات العملية. فقد أُعلن إنشاء "مجلس التنسيق التكنولوجي" بين الولايات المتحدة وبريطانيا، يتولى مهمة وضع معايير موحدة للذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني والحوسبة الكمومية. كما تعمل مجموعة السبع على تطوير"ميثاق الذكاء الاصطناعي الموثوق به"، الذي يهدف إلى وضع قواعد أخلاقية لتدريب النماذج ومراقبة استخدامها في المجالات الحساسة مثل الأمن والعدالة والإعلام.

ورغم الطابع المثالي لهذه المبادرات، فإن خلفها هواجس استراتيجية واضحة. فالغرب يخشى أن تؤدي هيمنة الصين على سلاسل التوريد في الرقائق والمعالجات إلى قلب موازين القوة، تماما كما فعل النفط في القرن العشرين. لذلك، تتجه الدول الغربية إلى تنويع الإنتاج، وتشجيع الشركات الأميركية والبريطانية على بناء مصانع متقدمة في الداخل أو في دول حليفة مثل كندا وأوستراليا والهند. هذه الخطوة ليست اقتصادية فقط، بل أمنية في المقام الأول، تهدف إلى تحصين الذكاء الاصطناعي الغربي من الاعتماد على الخصوم الجيوسياسيين.

في المقابل، يدرك القادة الغربيون أن التفوق في الذكاء الاصطناعي لا يقاس فقط بعدد المعالجات أو كمية البيانات، بل بالثقة العالمية في التكنولوجيا نفسها. ومن هنا تأتي أهمية ما يسمى بـ"حوكمة القيم"، أي السعي إلى جعل الذكاء الاصطناعي الغربي معيارا أخلاقيا قبل أن يكون تقنيا. ومن خلال تصدير هذا النموذج إلى الدول النامية، تأمل واشنطن ولندن في بناء شبكة من الشركاء الذين يشاركونها المبادئ ذاتها حول الشفافية والمساءلة.

لكن الطريق ليس خاليا من العقبات. فالاتحاد الأوروبي يسعى إلى فرض لوائحه الخاصة مثل "قانون الذكاء الاصطناعي" الذي يلزم الشركات معايير صارمة قد تبطئ الابتكار. كما تزداد المنافسة من آسيا، حيث تضخ الصين وكوريا الجنوبية واليابان استثمارات ضخمة في الأبحاث والتطبيقات الصناعية. أما في الداخل الأميركي، فلا تزال هناك مخاوف من الاحتكار التكنولوجي الذي تمارسه الشركات الكبرى مثل "غوغل" و"أوبن إيه آي"، وما قد ينجم عنه من هيمنة على المعرفة والمحتوى.

أعلنت شركة "مايكروسوفت" استثمارا ضخما يبلغ 30 مليار دولار، يوجه جزء كبير منه إلى بناء مراكز بيانات متقدمة وتمويل أكبر حاسوب فائق في بريطانيا

ورغم هذه التحديات، يبقى الغرب في موقع القيادة بفضل امتلاكه ثلاثة عناصر لا تزال حاسمة، هي القدرة على الابتكار المستمر، ومرونة النظم الديمقراطية في التكيّف مع التغيير، والشبكة العالمية من التحالفات التي تمنحه عمقا استراتيجيا لا تملكه الصين أو روسيا. لذلك، لا تسعى واشنطن ولندن إلى احتكار التكنولوجيا، بل إلى صوغ قواعدها المستقبلية بما يخدم مصالحهما ويضمن استدامة النفوذ الغربي في القرن الرقمي.

في المدى القريب، سيتركز التنافس على السيطرة على الذكاء الاصطناعي العام (AGI)، أي النماذج القادرة على التفكير والتعلم عبر مجالات متعددة. ومن المتوقع أن تصبح الحوسبة الكمومية العنصر الفاصل في هذا السباق، إذ ستتيح قدرة حسابية غير مسبوقة تغيّر شكل الأمن السيبراني والطب والاقتصاد. ولذا، تُعد المشاريع المشتركة بين أميركا وبريطانيا في هذا المجال بمثابة نواة للتحالف التكنولوجي المقبل، الذي سيتجاوز حدود الذكاء الاصطناعي التقليدي نحو عصر جديد من الإدراك الآلي المتطور.

نظام ثقة متبادل

ما يميز التحالف الأميركي–البريطاني عن غيره، أنه ليس مجرد شراكة مصلحية، بل نظام ثقة متبادل بني عبر عقود من العمل السري والمشترك. فحين تتبادل دولتان البيانات الأكثر حساسية — من معلومات الاتصالات إلى شيفرات الأسلحة النووية — فذلك يعني أن العلاقة بينهما تجاوزت حدود التحالف التقليدي.

أ.ف.ب
رجال الشرطة في المقدمة بينما يحمل أنصار جماعة "بريطانيا أولاً" اليمينية المتطرفة الأعلام الوطنية خلال مسيرة مناهضة للمهاجرين، والتي تدعو إلى عمليات ترحيل جماعية، مانشستر، 2 أغسطس


ومن هذه الثقة ولد التحالف التكنولوجي الجديد. فحين قررت "مايكروسوفت" و"إنفيديا" و"غوغل" ضخ استثمارات بمليارات الدولارات في البنية التحتية البريطانية، لم يكن ذلك فقط بسبب الجدوى الاقتصادية، بل أيضا لأن البيئة الأمنية البريطانية تعتبر امتدادا طبيعيا للنظام الأميركي. هذه الثقة هي ما جعل بريطانيا الوجهة المفضلة للشركات الأميركية بعد الـ"بريكست"، على عكس بقية أوروبا التي لا تزال تفرض قيودا تنظيمية صارمة.

ففي قلب التحالف الأميركي–البريطاني، تحولت التكنولوجيا من مجرد أداة للنمو الاقتصادي إلى محور استراتيجي يوازي في أهميته التعاون العسكري والاستخباراتي. وجاءت "صفقة الازدهار التكنولوجي" لتجسد هذا التحول التاريخي، إذ لم تعد الشراكة بين واشنطن ولندن تقوم على مبادئ التجارة الحرة أو الدفاع المشترك فحسب، بل باتت تبنى على ركائز الذكاء الاصطناعي، والحوسبة الفائقة، والبيانات الضخمة.

على رأس هذه الموجة، أعلنت شركة "مايكروسوفت" استثمارا ضخما يبلغ 30 مليار دولار، يوجه جزء كبير منه إلى بناء مراكز بيانات متقدمة وتمويل أكبر حاسوب فائق في بريطانيا، في مشروع تشاركي مع شركة "إن سكيل". هذا المشروع لا يهدف فقط إلى تعزيز القدرات الحسابية للمملكة المتحدة، بل إلى تمكينها من استضافة أبحاث الذكاء الاصطناعي المتقدمة التي تتطلب طاقة حوسبة هائلة يصعب توفيرها في معظم دول أوروبا حاليا.

أما "غوغل"، فقد أعلنت استثمارا قدره 6.8 مليار دولار لدعم الأبحاث المرتبطة بشركتها التابعة، "ديب مايند"، المعروفة بريادتها في مجال الذكاء الاصطناعي التعلمي. وبذلك تؤكد الشركة التزامها تحويل بريطانيا إلى منصة أوروبية لأبحاث الذكاء الاصطناعي المتقدم، بعد أن أثبتت "ديب مايند" قدرتها على منافسة المراكز الأميركية نفسها في حجم الابتكار والنتائج.

من المتوقع أن تؤدي هذه الاستثمارات إلى خلق نحو 15 ألف وظيفة جديدة في مجالات التقنية العالية، وتوليد فرص تدريب وتأهيل متقدمة للقوى العاملة البريطانية

في المقابل، كشفت "إنفيديا" عن حزمة استثمارية تبلغ نحو  13.5 مليار دولار تتضمن توفير ما يصل إلى 120 ألف وحدة معالجة رسومية لتعزيز قدرات بريطانيا الحاسوبية في مجال التدريب العميق والنماذج الضخمة. هذا الرقم ليس تفصيلا تقنيا، بل يمثل نقلة نوعية تضع بريطانيا ضمن الدول القليلة التي تمتلك بنية تحتية قادرة على استضافة نماذج بحجم "جي بي تي" أو أكبر، وهو ما يفتح الباب أمامها لتكون مركزا أوروبيا لتطوير الذكاء الاصطناعي السيادي.

ولم يتوقف سيل الاستثمارات عند هذا الحد، فقد أعلنت "سيلزفورس" خطة استثمارية إضافية بقيمة 2 مليار دولار مع تمديد التزاماتها حتى عام 2030، بينما ضخت شركة "كور ويف" نحو 1.5 مليار جنيه إسترليني لتوسيع عملياتها في بريطانيا. وإلى جانب عمالقة التكنولوجيا، برزت مفاجأة في القطاع المالي، حين تعهد صندوق "بلاكستون" الاستثماري بضخ نحو 122 مليار دولار في الاقتصاد البريطاني على مدى العقد المقبل، في إشارة إلى أن التكنولوجيا لم تعد حكرا على الشركات الرقمية، بل صارت جاذبة لرؤوس الأموال الضخمة التي كانت توجه تقليديا نحو العقارات والطاقة.

وبحسب تصريحات رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر، من المتوقع أن تؤدي هذه الاستثمارات إلى خلق نحو 15 ألف وظيفة جديدة في مجالات التقنية العالية، وتوليد فرص تدريب وتأهيل متقدمة للقوى العاملة البريطانية. غير أن الأثر الحقيقي يتجاوز الأرقام، فهو يعيد رسم خريطة النفوذ الاقتصادي والتكنولوجي بين ضفتي الأطلسي.

بالنسبة الى الرئيس الأميركي دونالد ترمب، تمثل هذه الاتفاقيات أكثر من مجرد إنجاز اقتصادي. إنها ورقة سياسية استراتيجية تعيد تقديمه كرجل الصفقات القادر على تحريك الشركات الأميركية العملاقة لخدمة المصالح القومية لبلاده. داخليا، يستطيع ترمب أن يقدم هذه التوسعات الخارجية كدليل على عبقريته الاقتصادية، فالشركات الأميركية تكسب أسواقا جديدة، وتحقق أرباحا ستعود في النهاية إلى الولايات المتحدة، فيما يتعزز النفوذ الأميركي في واحدة من أكثر الأسواق الأوروبية استراتيجية.

أما خارجيا، فهذه الصفقة تمنحه فرصة لإظهار أن التحالف الأميركي–البريطاني لم يعد مقتصرا على الدفاع والأمن، بل تطور إلى قيادة مشتركة للثورة التكنولوجية المقبلة. إنه تحالف بين وادي السيليكون ومدينة لندن المالية، بين الابتكار الأميركي والبيئة البحثية البريطانية، في مواجهة التمدد الصيني والتطلعات الأوروبية نحو الاستقلال الرقمي.

في هذا السياق، يمكن قراءة "صفقة الازدهار التكنولوجي" كإعلان غير مباشر لتأسيس محور تكنولوجي غربي مواز للصين، يضم واشنطن ولندن وربما لاحقا عواصم مثل أوتاوا وسيدني وطوكيو. إدخال شركات بحجم "مايكروسوفت" و"إنفيديا" و"غوغل" في قلب هذه الشراكة يجعل القطاع الخاص الأميركي جزءا من القوة الجيوسياسية الناعمة التي تعيد تشكيل موازين القوى في العالم الرقمي.

رويترز
في جوار شعار "غوغل" خلال معرض تجاري في هانوفر

من الناحية الأوروبية، تمثل هذه التطورات تحديا واضحا للاتحاد الأوروبي، إذ تضع بريطانيا – بعد خروجها من الاتحاد – في موقع المنصة المفضلة للاستثمارات الأميركية، وتدفع بروكسيل إلى موقع المتفرج. كما أنها تعمق الفجوة بين القارة العجوز والولايات المتحدة في مجالات الابتكار السحابي وحوسبة الذكاء الاصطناعي، في وقت تسعى فيه أوروبا إلى سن تشريعات صارمة لحماية البيانات قد تقيد الابتكار بدلا من دعمه.

وفي الشرق الأوسط وأفريقيا، تحمل الرسالة أبعادا استراتيجية صريحة: من يسيطر على الذكاء الاصطناعي والبنى التحتية السحابية العملاقة سيكون هو القادر على تحديد مسارات البيانات وأسواق المستقبل. ومن هذا المنطلق، لم تكن زيارة ترمب لندن مجرد مناسبة بروتوكولية، بل خطوة استراتيجية لإعادة رسم خريطة النفوذ التكنولوجي العالمي، وتثبيت مقولة أن "واشنطن ولندن ما زالتا تمسكان بدفة الابتكار"

ومع ذلك، لا تخلو هذه الشراكة من توترات. فبينما تدفع بريطانيا في اتجاه تشديد الرقابة على الفضاء الرقمي من خلال قوانين مثل "الأمان على الإنترنت"، التي تهدف إلى كبح خطاب الكراهية والمحتوى الضار، تصر الولايات المتحدة على نموذجها الليبيرالي القائم على حماية حرية التعبير بموجب التعديل الأول للدستور الأميركي. هذه التباينات القانونية تضع الشركات العملاقة – مثل "ميتا" و"يوتيوب" و"إكس" – في مأزق دائم بين الامتثال للقوانين البريطانية والحفاظ على فلسفة الانفتاح الأميركية.

وعليه، فإن نجاح صفقة "الازدهار التكنولوجي" لن يقاس فقط بحجم الاستثمارات أو عدد الوظائف التي تخلق، بل بقدرة الطرفين على ابتكار نموذج مشترك لحوكمة التكنولوجيا يجمع بين الأمن والحرية، وبين الانفتاح والمسؤولية.

في النهاية، تكشف هذه التطورات أن العلاقة بين واشنطن ولندن تجاوزت مرحلة "الشراكة الخاصة" لتتحول إلى تحالف تكنولوجي عابر للحدود، يتكامل فيه رأس المال مع المعرفة، والقطاع الخاص مع القرار السياسي. ومع ذلك، سيظل هذا التحالف أمام اختبارات متكررة — من قضايا الخصوصية والرقابة إلى المنافسة مع الصين — لكن تاريخه الطويل في التكيف يجعل منه واحدا من أكثر التحالفات قدرة على البقاء والقيادة في عالم يتغير بسرعة مذهلة.

font change