لماذا تتقدم الإناث ويتراجع الذكور في مؤشرات التعليم التونسية؟

من البكالوريا إلى الشهادات الجامعية

REUTERS/Jihed Abidellaoui
REUTERS/Jihed Abidellaoui
إيمان حمّامي من شركة MooMe خلال مقابلة في مزرعة بجندوبة

لماذا تتقدم الإناث ويتراجع الذكور في مؤشرات التعليم التونسية؟

ما الذي يحدث في علاقة الذكور بالتعليم في تونس؟ لقد صار عددهم يمثل أقلية صغرى بين المتعلمين. فالإناث في هذا البلد يمثلن اليوم 70% من مجموع متخرجي التعليم العالي، و62% من مجموع حائزي شهادة الدكتوراه، أعلى الشهادات الجامعية.

وفي الوقت نفسه، أصبحت تونس تحتل المرتبة الأولى عالميا على مستوى نسبة الطالبات في المجالات العلمية (علوم، تكنولوجيا، هندسة، رياضيات)، فقد وصلت هذه النسبة إلى 49.45%، أي أنها قاربت التناصف بين الذكور والإناث، وبصفة عامة تمثل الإناث الغالبية بين الطلاب، حيث يوجد تقريبا طالبتان لكل طالب مسجل بالجامعات التونسية.

لكن المسألة لا تتعلق بالتعليم العالي فحسب، فأرقام امتحان البكالوريا (الثانوية العامة) منحازة أيضا إلى الإناث. في الدورة الأخيرة (2025) توزعت نتائج الناجحين بين 63% من الإناث و37% من الذكور، وإن كان تفوق الإناث ترسخ منذ زمن طويل، إلا أن الفارق بين الجنسين يتعمق تدريجيا بمرور السنين، فكانت نسب النجاح بين سنتي 2008 و2010، 61% تقريبا لصالح الإناث و39% لفائدة الذكور، وظلت كذلك حتى سنة 2022، لكن الدورة الأخيرة سجلت اتساع الهوة بفارق نقطتين.

الأسباب الاجتماعية للتفاوت التعليمي

من بين أسباب هذا التفاوت الإيجابي لصالح الاناث، يذكر المستشار العام في الإعلام والتوجيه المدرسي والجامعي، والمدير السابق للتوجيه الجامعي بوزارة التعليم العالي والبحث العلمي، السيد منصف الخميري لـ"المجلة"، تشتت التركيز لدى فئة الذكور نتيجة توفر مساحات كبرى من اللهو وتمضية الوقت في انشغالات موازية خاصة في ظل الانفجار الرقمي الحديث، وكذلك تعدد مسالك الجنوح، والانخراط في مسالك مغرية لكنها محفوفة بخطر الدفع نحو التسرب المبكر. يحصل ذلك، حسب قوله، مقابل تركيز أكبر لدى الفتيات اللواتي وعين بأن لا خلاص لهن في مجتمع ذكوري غير منصف في غالب الأحيان، إلا عبر التحصيل الدراسي والجامعي وكسب استقلالية مادية تقيهن شبح الإخضاع الأسري تحت ضغط التبعية الاقتصادية.

الفتيات ينخرطن بنسب عالية جدا في المسالك الجامعية ذات التشغيلية العالية، مقارنة بالذكور الموجودين أكثر في شعب جامعية ذات تشغيلية متدنية

وتؤكد أرقام التعداد السكاني الأخير بتونس الذي أجري سنة 2024 هذا التحليل، فهي تكشف أن نسب الدراسة بين الإناث والذكور متقاربة جدا إلى حدود سن الحادية عشرة (98.3%  للإناث، 98.1% للذكور). لكن مع سن الرابعة عشرة، يظهر فارق بينهما (97.9%  للإناث، 96.9% للذكور) ويأخذ في الاتساع  ليصل مع سن الثامنة عشرة إلى أكثر من 8 نقاط لفائدة الإناث (83.4%  للإناث، 75.1% للذكور) وحتى إلى أكثر من 18 نقطة بين سن التاسعة عشرة والرابعة والعشرين (52.3%  للإناث، 33.6% للذكور). هذا ما يوحي بأن فترة المراهقة هي الأصعب بالنسبة إلى الذكور التونسيين، وإلى أنهم لا يلاقون خلالها الإحاطة الكافية لصدهم عن التسرب المدرسي.

REUTERS/Zoubeir Souissi
طلاب يقفون خارج جامعة المنار في تونس، تونس، 14 أكتوبر 2019

يذكر السيد منصف الخميري أيضا من بين أسباب التفاوت، التطور الحاصل في عقلية الأسرة التونسية بصورة عامة، فتزويج البنت، أو زواجها إذا كانت إرادتها حرة نسبيا، لم يعد أولوية مطلقة كما كان الحال سابقا. إضافة إلى ذلك، يشير الخميري إلى أن الفتيات ينخرطن بنسب عالية جدا في المسالك الجامعية ذات التشغيلية العالية (مثل الدراسات الطبية وشبه الطبية وشعب التصرف في المدارس الانتقائية الكبرى: 75% من الإناث في جامعات الطب، 68% في شعب التجارة والتصرف) مقارنة بالذكور الموجودين أكثر في شعب جامعية ذات تشغيلية متدنية، بما يجعل شريحة واسعة منهم يستبقون واقع البطالة الطويلة الأمد.

REUTERS/Jihed Abidellaoui
المهندسة في مصائد الأسماك والبيئة البحرية، رملة بوهليل، تتحدث مع أعضاء من جمعية "نوتر غران بلو" داخل مقر الجمعية في المنستير، تونس، 16 أغسطس 2024

متفوقات في الدراسة، محدودات في العمل

من المفارقات التي تؤكد تواصل وجود رواسب المجتمع التقليدي في تونس، أنه على الرغم من التفاوت الإيجابي لصالح الإناث في التعليم الثانوي والعالي، إلا أن نسبة البطالة تبقى أكثر حدة بالنسبة إلى النساء (21.1 %) مقارنة بالنسبة المسجلة لدى الرجال (13.2 %). بصورة مشابهة، لا يزال الوصول إلى الرتب الأكاديمية العليا يعكس وجود "سقف زجاجي"، فبحسب تقرير الوزارة التونسية للتعليم العالي والبحث العلمي لسنة 2023-2024، تمثل النساء  36.49% من الأساتذة المحاضرين، لكن النسبة تنخفض إلى  24.74% في الرتبة العليا، أي رتبة الأساتذة الجامعيين.

تقول الأستاذة نهلة بن عمر، وهي أستاذة تعليم عال في اختصاص الإعلامية الإدارية (Business Computing) بالمعهد العالي للتصرف – جامعة تونس، ومديرة مخبر البحث في البحث العملياتي والقرار والمراقبة، إن الوضع أكثر إيجابية في مجال تكنولوجيا المعلومات والاتصال. فأعداد الأساتذة من النساء في الرتب العليا أكبر، كما يلاحظ ازدياد عدد اللجان النسائية بالكامل (لمشاريع التخرج  والماجستير والدكتوراه)، وكذلك لجان الانتداب ذات الغالبية النسائية في الاختصاصات الإعلامية.

تشكل فروع تكنولوجيا المعلومات والاتصال سلما حقيقيا للتمكين الاقتصادي للنساء، لما توفره من رواتب تنافسية، واعتراف بالخبرة، وفرص تطور مهني

هذا المشهد التونسي يختلف بوضوح عن الاتجاه العالمي، فعلى الصعيد الدولي، لا تتجاوز نسبة النساء 35% من متخرجي التعليم العالي في المجالات العلمية. لكن تقول الأستاذة بن عمر إنه في الإمكان ملاحظة الظاهرة نفسها في عدد من الدول النامية (المغرب، الجزائر، مصر، تركيا، رومانيا، بلغاريا، جورجيا، وغيرها) حيث تشكل فروع تكنولوجيا المعلومات والاتصال سلما حقيقيا للتمكين الاقتصادي للنساء، لما توفره من رواتب تنافسية، واعتراف بالخبرة، وفرص تطور مهني تتيح للنساء بلوغ الاستقلال المالي والمواقع القيادية.

آفاق تفاوت تعليمي لم يكن في الحسبان

انعقد سنة  2000 "المؤتمر العالمي حول التربية للجميع" في دكار (السنغال)، وحددت ستة أهداف اعتمدتها منظمة "يونسكو" والدول المشاركة. يتمثل الهدف الخامس منها في تحقيق المساواة بين الجنسين في التعليم، بإزالة الفوارق بينهما في التعليمين الابتدائي والثانوي في حلول سنة 2005، وتحقيق المساواة الكاملة بين الجنسين في جميع مستويات التعليم في حلول سنة 2015، مع التركيز على التحسين النوعي لتعليم البنات.

شاركت تونس في أشغال المؤتمر ووقعت "إطار عمل دكار للتعليم للجميع" الذي يشمل الأهداف الستة والذي نص على التزام كل دولة وضع خطة وطنية للتعليم للجميع قبل سنة 2002. وفعلا، أعدت تونس لاحقا الخطة الوطنية للتعليم للجميع الممتدة بين 2002–2015، بالتعاون مع "يونسكو" و"يونيسف" والبنك الدولي، وجعلت هذه الخطة جزءا من الاستراتيجيا الوطنية لإصلاح التعليم.

REUTERS/Zoubeir Souissi
شابات يسرن خارج جامعة المنار في تونس، تونس، 14 أكتوبر 2019

 لكن ربما ما لم يكن في الحسبان، هو أن المعادلة ستنقلب، وأن انعدام المساواة في التعليم سيستمر في تونس تحت صيغة أخرى، حيث يكون الأولاد هم المتأخرون في هذا التفاوت. يقول السيد منصف الخميري: "إننا لن نسعى الآن بالطبع إلى تعطيل الإناث، لكن نحاول فهم التسرب الدراسي للذكور، وبالتالي استعادة قدرة صاحب القرار السياسي على التأثير في هذه الكوابح وتحييد المعرقلات، وهي رهانات مجتمعية جدية يجب الاشتغال عليها".

تتخذ الأستاذة نهلة بن عمر المنحى نفسه في تعليقها على آفاق هذا التفاوت بين الجنسين في التعليم. فهي تقول إن "التحدي ليس في تقليص الحضور النسائي، بل في الحفاظ على التنوع والتوازن: أي جذب عدد أكبر من الذكور من دون أن يتراجع تفوق الفتيات". لكنها تشير أيضا إلى أنه لا ينبغي أن يبقى الحضور المكثف للنساء في الجامعات في شكل موجة قصيرة، حيث يتمثل في دخول نسائي قوي إلى الجامعة، يقابله ضعف في بلوغ المناصب القيادية العلمية والتقنية.

REUTERS/Zoubeir Souissi
تظاهرة للأطباء ضد قانون يلزمهم العمل في مستشفيات ريفية قبل التخرج

تعتبر بن عمر أنه إذا ما ترجمت الكثافة النسائية في المرحلة الجامعية إلى نجاحات في الدكتوراه، وإشراف على الأطروحات، ونشر علمي، فسترتفع تلقائيا نسبة النساء في الدرجات الأكاديمية العليا، لكن ذلك يستوجب تنفيذا عمليا وقابلا للقياس لسياسات داعمة، مثل تمويلات عادلة للدكتوراه، وإرشاد منظم وحقيقي للتوجيه والإرشاد العلمي، وتطبيق فعلي لسياسات مكافحة التحرش، وترتيبات مهنية مرنة مثل إجازات الأمومة، إلى جانب آليات تقييم تعلي شأن جودة البحث لا كثرته.

مسألة التفاوت التعليمي تتجاوز النضال النسوي، إذ قد تخلق شرخا اجتماعيا وفكريا بين النساء والرجال يغلق أسباب التواصل الفعلي والمتناغم بين التونسيات والتونسيين

قد يساهم تفوق الإناث على الذكور في الدراسة بتونس في تفاقم الأزمة التي يعيشها الرجال التونسيون في مطلع القرن الحادي والعشرين، بعد أن خبر آباؤهم أزمة مترتبة عن مراجعة دورهم الاجتماعي خلال القرن الماضي حينما نص القانون التونسي سنة 1956 على منع تعدد الزوجات وأنشأ الزواج المدني ووضع حق الزوجة في طلب الطلاق، هذا إلى جانب خروج المرأة إلى سوق الشغل. فهم يجدون أنفسهم في إطار مختلف عن الذكورة والأبوة  التقليديين اللذين يسيطران على الفضاء العمومي مع إقصاء المرأة منه. وإن كانت البحوث في براديغم الرجولة بعد تحرر المرأة بدأت بالظهور لا في تونس فحسب، بل في كامل العالم العربي، فإن مسألة التفاوت التعليمي تتجاوز النضال النسوي، إذ قد تخلق شرخا اجتماعيا وفكريا بين النساء والرجال يغلق أسباب التواصل الفعلي والمتناغم بين التونسيات والتونسيين.

font change