الإسرائيليون وخلاصات حرب إسرائيل في غزة

"العزلة السياسية" التي يُتوقع أن تدخل فيها إسرائيل، ليست مجرد إعلان سياسي، إنها... تنتشر كالنار في الهشيم... وتؤثر في الاقتصاد والثقافة والعلوم والمجال الأكاديمي والرياضة والسياحة

أ ف ب
أ ف ب
جنود اسرائيليون يؤدون التحية امام عربة تنقل رفاة رهينة اسرائيلية في تل ابيب في 15 اكتوبر

الإسرائيليون وخلاصات حرب إسرائيل في غزة

ستُسجَّل حرب إسرائيل في غزة كأطول حرب خاضتها هذه الدولة منذ إقامتها (1948)، والأكثر خسارة بأثمانها البشرية، والأشرس في تاريخها، والأبهظ بكلفتها المادية، ومع أنها أكثر حرب ربحتها من الناحية العسكرية، ضد الفلسطينيين، وضد محيطها، وصولا لإيران.

إلا أنها ستعتبر، أيضا، بوصفها أكثر حرب خسرتها من ناحية سياسية ورمزية، إذ فقدت في تلك الحرب صورتها كدولة رادعة، أما جيشها الذي كانت تروّج لاعتباره الأكثر أخلاقية في العالم، فبدا الجيش الأكثر وحشية، وبات يُنظر إلى إسرائيل من خلاله كدولة فاشية وكدولة إبادة جماعية، إضافة إلى كونها دولة عنصرية واستعمارية واستيطانية.

في المحصلة فقد باتت إسرائيل اليوم بمثابة دولة معزولة ومنبوذة، أمام الرأي العام العالمي، وحتى أمام قطاعات واسعة من اليهود في الغرب، بحيث إنها خسرت احتكارها تمثيل يهود العالم، واعتبارها كملاذ آمن لهم، كما خسرت اعتبارها وكيلة حصرية لضحايا "الهولوكوست".

يؤكد كل ذلك يورام هرباز بقوله: "روايتان إسرائيليتان تأسيسيّتان انهارتا في حرب 7 أكتوبر/تشرين الأول. الأولى، التي بحسبها إسرائيل هي الملجأ الآمن للشعب اليهودي. والثانية، التي بحسبها إسرائيل هي دولة الشعب اليهودي... حتى 7 أكتوبر والحرب التي جاءت في أعقابها آمن معظم الإسرائيليين بأن إسرائيل هي حقا ملجأ آمن نسبيا لليهود، وأنها هي نفسها بريئة بصورة جوهرية، وأن الجيش الإسرائيلي هو "الجيش الأكثر أخلاقية في العالم". ("هآرتس"- 7/10/2025)

إضافة إلى ما تقدم فقد غدت إسرائيل الدولة الأكثر تماثلا مع النازية، في حربها ضد فلسطينيي غزة، ما قوض محاولاتها احتكار مكانة الضحية في الضمير العالمي، وادعاءها بأنها تعيش في محيط معاد، يهدد وجودها، فإذا بها هي التي تهدد جوارها، وتعتدي على محيطها، وترفض محاولات الانفتاح عليها، والتطبيع معها، من مؤتمر قمة بيروت (2002)، إلى الآن، لصالح الظهور كدولة قوية، وتستطيع فرض السلام بالقوة، وكإسبرطة (بتعبيرات نتنياهو).

ويلخص تسفي برئيل هذا الوضع، في مقال عنوانه: "إسبرطة الإسرائيلية: على خطى هتلر وموسوليني"، بالآتي: "مقابل كل قتيل إسرائيلي دفع الفلسطينيون ثلاثين ضعفا أو أكثر. ومقابل كل بيت تم إحراقه في نير عوز أو في سديروت تم محو أحياء ومدن كاملة... وهذا حوّل إسرائيل إلى دولة منبوذة. مهندس مشروع الدمار الوطني أحسن في تعريفه عندما قارن إسرائيل بإسبرطة، التي ليست فقط رمزا للقوة العسكرية والبقاء والشجاعة، بل هي نموذج تقليد لهتلر وموسوليني... إسبرطة، التي تم تدميرها وخلفت إرثا رمزيا، بعثت الآن للحياة في إسرائيل. وإذا كنا حتى الآن "اكتفينا" بتشخيص العمليات التي شكلت إسرائيل كدولة فاشية تستند إلى التفوق العرقي، فإن الحرب في غزة ستستكمل هذه العمليات، وهي الآن تراكم إنجازات أيديولوجية مدهشة. فقد أفسدت معظم الأجهزة التي دافعت عن الديمقراطية في إسرائيل، وحوّلت جهاز القضاء إلى خرقة بالية خائفة، ووظفت نظام التعليم لتلقين عقائدي قومي ديني". ("هآرتس"- 18/9/2025).

أما في إدراكات الرأي العام الغربي، وأوساط يهود البلدان الغربية، وحتى في أوساط اليهود الإسرائيليين، فقد تم تشخيص مشكلة إسرائيل ليس بالتطرف ضد الفلسطينيين فقط. وإنما، أيضا، بالارتباط الوثيق بين التطرف ضد الفلسطينيين، والتطرف في إسرائيل، بين المتدينين والعلمانيين، وتاليا تطرف حكومة إسرائيل، بزعامة نتنياهو وبتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير، التي تعتبر أكثر الحكومات تطرفا عرفتها إسرائيل، بمحاولتها تكريس تحول إسرائيل من كونها دولة يهودية ديمقراطية إلى كونها دولة يهودية ودينية، بتغليب طابعها اليهودي على طابعها كدولة مواطنين، أي تغليب طابعها الديني على طابعها كدولة ليبرالية-ديمقراطية، ما أثّر في التضييق على اليهود العلمانيين أنفسهم الذين باتوا يرون أنفسهم في دولة تبدو أكثر فأكثر دولة دينية، الأمر الذي سيؤدي إلى تصدع الإجماعات الإسرائيلية، وتشقق المجتمع.

 رويترز
جنود اسرائيليون ودبابتهم قرب الحدود مع قطاع غزة في 13 اغسطس

وبديهي أن ذلك يترجم في الدول الغربية برفض مواطنيها مصادرة حقهم في الحرية، في سعيهم لصد أية محاولة لوصم العداء لإسرائيل، بممارساتها العنصرية والاستعمارية والوحشية، بالعداء ضد اليهود، واعتبار أن أي محاولة من هذا الطراز كمحاولة لمصادرة حرية الرأي في مجتمعاتهم.

هكذا، بات كثير من قادة الرأي والمحللين في إسرائيل يعتبرون أن إسرائيل تواجه خطر العزلة والنبذ السياسيين في الحلبة الدولية، باعتبار ذلك أحد أهم مصادر تهديد الأمن القومي لإسرائيل، وكمؤشر على تغيير مكانتها في العالم، بعد أن باتت تتموضع كإسرائيل أخرى، عنصرية وفاشية ومتوحشة ودينية واستبدادية.

وبحسب إيتمار أيخنر فإن "العزلة السياسية" التي يُتوقع أن تدخل فيها إسرائيل، ليست مجرد إعلان سياسي، إنها... تنتشر كالنار في الهشيم... وتؤثر في الاقتصاد والثقافة والعلوم والمجال الأكاديمي والرياضة والسياحة... إسرائيل اليوم دولة منبوذة... عقوبات اقتصادية سيجتمع مفوضو الاتحاد الأوروبي لمناقشة مقترحات خطِرة ضد إسرائيل... بشأن تعليق بنود في اتفاقيات التجارة مع إسرائيل... تتلقى الثقافة الإسرائيلية ضربات موجعة. لقد دعت عريضة وقّعها 4000 من السينمائيين حول العالم إلى مقاطعة كاملة للتعاون مع إسرائيل... هذا جزء من مقاطعة ثقافية واسعة تذكّر بالمقاطعات ضد جنوب أفريقيا في زمن الأبارتهايد... تواجه الرياضة تهديدا خطِرا. هناك فعلا محاولات لمنع فرق إسرائيلية من المشاركة في البطولات الأوروبية... وصولا إلى الألعاب الأولمبية... تتسارع المقاطعة الأكاديمية ضد إسرائيل... منذ يوليو/تموز 2025، أوقفت مجموعة من الدول بيع السلاح لإسرائيل، أو قلّصته... هناك مَن يريد الذهاب في عطلة إلى الخارج، وهو خائف من اكتشاف أنه إسرائيلي". ("يديعوت"- 18/9/2025).

الرواية الوحيدة التي يمكن أن ترمم حق إسرائيل الأخلاقي في الوجود وقدرتها على الوجود يجب كتابتها على يد يهود وفلسطينيين يحبون السلام والتعايش والمساواة

لا تتوقف المخاطر التي تواجهها إسرائيل على العزلة والنبذ الدوليين، ولا على تضعضع مكانتها إزاء المجتمعات اليهودية في بلدان العالم فحسب، فهي مع هذا وذاك، تنشأ، أيضا، من تبعية إسرائيل للولايات المتحدة، التي لولاها لما استطاعت إسرائيل المضي بحربها لمدة عامين، مع كل الأكلاف البشرية والمادية والسياسية الناجمة عن ذلك، وقد تبين، أيضا، أن الإدارة الأميركية هي صاحبة القرار باستمرار الحرب أو وقفها.

رويترز
جندي اسرائيلي وسط الانقاض شمال قطاع غزة في 3 نوفمبر 2023

وفي ذلك يقول عاموس يادلين وأودي أفينتال: "بعكس التفاهات التي يطلقها وزراء وأعضاء الكنيست منذ الانقلاب الدستوري، وتشير إلى أنه "بإمكاننا أن نتدبر أمرنا من دون أميركا"، فإن الولايات المتحدة دعامتنا الاستراتيجية الوحيدة، ولا يوجد أي بديل عنها، حسبما أوضحت الحرب في سبع جبهات... أرسلت إدارة بايدن إلى المنطقة حاملات طائرات، وهددت إيران و"حزب الله" في حال انضما إلى الحرب، وزودت إسرائيل عسكريا بكميات هائلة من الذخائر، وأسقطت بالفيتو قرارات في مجلس الأمن، واعترضت صواريخ وطائرات مسيّرة من اليمن والعراق وإيران، وحاربت من أجل حرية الملاحة في البحر الأحمر ضد الحوثيين، وواصل الرئيس ترمب الدعم الثابت لإسرائيل، الذي بلغ ذروته بانضمام الولايات المتحدة إلى الحرب مع إيران، في الهجوم، وفي الدفاع". ("الأيام"- 24/9/2025).
طبعا ثمة وجهات نظر طالبت بمراجعة، وتغيير، المسار الحربي الذي أخذت به حكومة اليمين القومي والديني المتطرف، لتجنب المخاطر الاستراتيجية التي باتت تحيق بإسرائيل، رغم جبروتها العسكري، وقوتها الاقتصادية، وضمان الولايات المتحدة لأمنها وتفوقها.
في هذا الإطار، يعتبر المحلل الإسرائيلي يورام هرباز أن "الرواية الوحيدة التي يمكن أن ترمم حق إسرائيل الأخلاقي في الوجود وقدرتها على الوجود يجب كتابتها على يد يهود وفلسطينيين يحبون السلام والتعايش والمساواة. فقط هذه الرواية، التي سيكتبها الشعبان اللذان ذبح بعضهما بعضا على مدى 150 سنة، يمكن أن ترمم أنقاض غزة وأنقاض إسرائيل". ("هآرتس"- 7/10/2025).
أما عاموس يادلين وأودي أفينتال، فقد أكدا في مقالهما المذكور أن "المطلوب تغيير جذري في سياسة الضم الزاحف في الضفة الغربية، وكبح الإرهاب اليهودي والدفع قدما بإصلاحات في السلطة الفلسطينية، بدلا من محاولة إسقاطها، مثلما تفعل الحكومة. المطلوب من شعب إسرائيل الاختيار: هل يريد تحقيق "رؤية إسبرطة" الخاصة بنتنياهو، أم "حلم أثينا" الخاص ببن غوريون؟... هكذا فقط، ربما نتمكن من كبح التآكل في مكانتنا في الولايات المتحدة، وفي المنطقة، وفي أوروبا. هذا التآكل قد يمس حُرية العمل العسكري لإسرائيل، وبنموّ اقتصادها، ويُفشل قدرتنا على الحفاظ على مكانتنا كأمة تكنولوجية رائدة، فضلا عن أننا قد نفوّت الفرصة العظيمة لتعزيز اتفاقيات السلام والاندماج في المنطقة، إلى جانب الدول العربية السّنية المعتدلة، كجزء من تنظيم إقليمي لصدّ إيران ("N12"- 24/9/2025).
بل إن عيدو روزنتسفايغ يؤكد أن المسار الذي تسلكه حكومة إسرائيل، سيظهر وبطريقة عكسية، وكأن "التعريف بنتنياهو وسموتريتش وبن غفير سيكون أنهم كانوا من الآباء المؤسسين للدولة الفلسطينية". ("معاريف"- 29/9/2025).

font change