ستُسجَّل حرب إسرائيل في غزة كأطول حرب خاضتها هذه الدولة منذ إقامتها (1948)، والأكثر خسارة بأثمانها البشرية، والأشرس في تاريخها، والأبهظ بكلفتها المادية، ومع أنها أكثر حرب ربحتها من الناحية العسكرية، ضد الفلسطينيين، وضد محيطها، وصولا لإيران.
إلا أنها ستعتبر، أيضا، بوصفها أكثر حرب خسرتها من ناحية سياسية ورمزية، إذ فقدت في تلك الحرب صورتها كدولة رادعة، أما جيشها الذي كانت تروّج لاعتباره الأكثر أخلاقية في العالم، فبدا الجيش الأكثر وحشية، وبات يُنظر إلى إسرائيل من خلاله كدولة فاشية وكدولة إبادة جماعية، إضافة إلى كونها دولة عنصرية واستعمارية واستيطانية.
في المحصلة فقد باتت إسرائيل اليوم بمثابة دولة معزولة ومنبوذة، أمام الرأي العام العالمي، وحتى أمام قطاعات واسعة من اليهود في الغرب، بحيث إنها خسرت احتكارها تمثيل يهود العالم، واعتبارها كملاذ آمن لهم، كما خسرت اعتبارها وكيلة حصرية لضحايا "الهولوكوست".
يؤكد كل ذلك يورام هرباز بقوله: "روايتان إسرائيليتان تأسيسيّتان انهارتا في حرب 7 أكتوبر/تشرين الأول. الأولى، التي بحسبها إسرائيل هي الملجأ الآمن للشعب اليهودي. والثانية، التي بحسبها إسرائيل هي دولة الشعب اليهودي... حتى 7 أكتوبر والحرب التي جاءت في أعقابها آمن معظم الإسرائيليين بأن إسرائيل هي حقا ملجأ آمن نسبيا لليهود، وأنها هي نفسها بريئة بصورة جوهرية، وأن الجيش الإسرائيلي هو "الجيش الأكثر أخلاقية في العالم". ("هآرتس"- 7/10/2025)
إضافة إلى ما تقدم فقد غدت إسرائيل الدولة الأكثر تماثلا مع النازية، في حربها ضد فلسطينيي غزة، ما قوض محاولاتها احتكار مكانة الضحية في الضمير العالمي، وادعاءها بأنها تعيش في محيط معاد، يهدد وجودها، فإذا بها هي التي تهدد جوارها، وتعتدي على محيطها، وترفض محاولات الانفتاح عليها، والتطبيع معها، من مؤتمر قمة بيروت (2002)، إلى الآن، لصالح الظهور كدولة قوية، وتستطيع فرض السلام بالقوة، وكإسبرطة (بتعبيرات نتنياهو).
ويلخص تسفي برئيل هذا الوضع، في مقال عنوانه: "إسبرطة الإسرائيلية: على خطى هتلر وموسوليني"، بالآتي: "مقابل كل قتيل إسرائيلي دفع الفلسطينيون ثلاثين ضعفا أو أكثر. ومقابل كل بيت تم إحراقه في نير عوز أو في سديروت تم محو أحياء ومدن كاملة... وهذا حوّل إسرائيل إلى دولة منبوذة. مهندس مشروع الدمار الوطني أحسن في تعريفه عندما قارن إسرائيل بإسبرطة، التي ليست فقط رمزا للقوة العسكرية والبقاء والشجاعة، بل هي نموذج تقليد لهتلر وموسوليني... إسبرطة، التي تم تدميرها وخلفت إرثا رمزيا، بعثت الآن للحياة في إسرائيل. وإذا كنا حتى الآن "اكتفينا" بتشخيص العمليات التي شكلت إسرائيل كدولة فاشية تستند إلى التفوق العرقي، فإن الحرب في غزة ستستكمل هذه العمليات، وهي الآن تراكم إنجازات أيديولوجية مدهشة. فقد أفسدت معظم الأجهزة التي دافعت عن الديمقراطية في إسرائيل، وحوّلت جهاز القضاء إلى خرقة بالية خائفة، ووظفت نظام التعليم لتلقين عقائدي قومي ديني". ("هآرتس"- 18/9/2025).
أما في إدراكات الرأي العام الغربي، وأوساط يهود البلدان الغربية، وحتى في أوساط اليهود الإسرائيليين، فقد تم تشخيص مشكلة إسرائيل ليس بالتطرف ضد الفلسطينيين فقط. وإنما، أيضا، بالارتباط الوثيق بين التطرف ضد الفلسطينيين، والتطرف في إسرائيل، بين المتدينين والعلمانيين، وتاليا تطرف حكومة إسرائيل، بزعامة نتنياهو وبتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير، التي تعتبر أكثر الحكومات تطرفا عرفتها إسرائيل، بمحاولتها تكريس تحول إسرائيل من كونها دولة يهودية ديمقراطية إلى كونها دولة يهودية ودينية، بتغليب طابعها اليهودي على طابعها كدولة مواطنين، أي تغليب طابعها الديني على طابعها كدولة ليبرالية-ديمقراطية، ما أثّر في التضييق على اليهود العلمانيين أنفسهم الذين باتوا يرون أنفسهم في دولة تبدو أكثر فأكثر دولة دينية، الأمر الذي سيؤدي إلى تصدع الإجماعات الإسرائيلية، وتشقق المجتمع.

وبديهي أن ذلك يترجم في الدول الغربية برفض مواطنيها مصادرة حقهم في الحرية، في سعيهم لصد أية محاولة لوصم العداء لإسرائيل، بممارساتها العنصرية والاستعمارية والوحشية، بالعداء ضد اليهود، واعتبار أن أي محاولة من هذا الطراز كمحاولة لمصادرة حرية الرأي في مجتمعاتهم.
هكذا، بات كثير من قادة الرأي والمحللين في إسرائيل يعتبرون أن إسرائيل تواجه خطر العزلة والنبذ السياسيين في الحلبة الدولية، باعتبار ذلك أحد أهم مصادر تهديد الأمن القومي لإسرائيل، وكمؤشر على تغيير مكانتها في العالم، بعد أن باتت تتموضع كإسرائيل أخرى، عنصرية وفاشية ومتوحشة ودينية واستبدادية.
وبحسب إيتمار أيخنر فإن "العزلة السياسية" التي يُتوقع أن تدخل فيها إسرائيل، ليست مجرد إعلان سياسي، إنها... تنتشر كالنار في الهشيم... وتؤثر في الاقتصاد والثقافة والعلوم والمجال الأكاديمي والرياضة والسياحة... إسرائيل اليوم دولة منبوذة... عقوبات اقتصادية سيجتمع مفوضو الاتحاد الأوروبي لمناقشة مقترحات خطِرة ضد إسرائيل... بشأن تعليق بنود في اتفاقيات التجارة مع إسرائيل... تتلقى الثقافة الإسرائيلية ضربات موجعة. لقد دعت عريضة وقّعها 4000 من السينمائيين حول العالم إلى مقاطعة كاملة للتعاون مع إسرائيل... هذا جزء من مقاطعة ثقافية واسعة تذكّر بالمقاطعات ضد جنوب أفريقيا في زمن الأبارتهايد... تواجه الرياضة تهديدا خطِرا. هناك فعلا محاولات لمنع فرق إسرائيلية من المشاركة في البطولات الأوروبية... وصولا إلى الألعاب الأولمبية... تتسارع المقاطعة الأكاديمية ضد إسرائيل... منذ يوليو/تموز 2025، أوقفت مجموعة من الدول بيع السلاح لإسرائيل، أو قلّصته... هناك مَن يريد الذهاب في عطلة إلى الخارج، وهو خائف من اكتشاف أنه إسرائيلي". ("يديعوت"- 18/9/2025).
