صور غير نمطية عن الأمومة في 5 روايات عربية جديدة

الانتقال من القيم المثالية إلى الواقعية والمركبة

 Aliaa Abou Khaddour
Aliaa Abou Khaddour

صور غير نمطية عن الأمومة في 5 روايات عربية جديدة

لطالما هيمنت قيم المثالية والتضحية والعطاء غير المحدود، على صورة الأمومة، فيصعب الاقتراب من تلك الصورة أو المساس بها أو تحديها، إلا أن تناول الأدب لهذه الفكرة لم يعد بالقدر ذاته من الثبات والرسوخ، بل على العكس من ذلك تبدو الكاتبات بشكل خاص على قدر كبير من الوعي برفض تلك الفكرة وهالة التقديس المحيطة بها، ليس انطلاقا من الرغبة في تغيير النمط أو تجاوزه، وإنما هي رؤيتهن الواقعية لما يمتلئ به المجتمع من صور ونماذج مختلفة ومتباينة عن الأمومة.

انطلاقا من ذلك، نسعى هنا إلى تأمل وقراءة عدد من الروايات العربية الصادرة حديثا لكاتبات عربيات من أجيال وبيئات مختلفة، لنرى كيف تجلت صورة الأم وفكرة الأمومة عند كل واحدة منهن، وهل عبر عنها وفقا للتصورات المثالية الشائعة، أم تجاوزت تلك الأفكار لتعبر عن مشاهدات ووقائع مغايرة.

"فوق رأسي سحابة"... الأمومة القاهرة

في رواية المصرية دعاء إبراهيم الأولى "فوق رأسي سحابة" (دار "العين"، مصر) لاتبدو الأم ملاك رحمة، رغم أن بطلتها تحاول أن تكون كذلك، لكن الأم على العكس تماما بدت أنانية منشغلة بنفسها وبحياتها ولا تولي ابنتها الاهتمام المطلوب، بل إن كل ما يهمها هو أن تعيش وتتزوج من يناسبها، حتى لو أدى ذلك إلى قهر ابنتها وحرمانها من أبسط حقوقها في أن تعيش معها، ولا تكتفي بذلك ولكنها "تبخ سمومها في ابنتها" على حد تعبيرها، تشكو لها الأب الغائب طوال الوقت، بل وتواصل شكواها من كل أزواجها الذين تجرب معهم حيوات مختلفة، حتى يلتقطها الخال /المجرم الذي لا يتورع عن التحرش بها بل واغتصابها فيما بعد، مما يحول الفتاة الضحية إلى امرأة تعمل في التمريض وتسعى لقتل كل من تتحكم في أمره.

تشير البطلة إلى أن موت أمها الذي ظنت أنه سيخلصها من آلامها، تركها أكثر حيرة وألما، وبقيت آثار الأم ماثلة في كل تجارب حياتها

هكذا تحضر الأم في حياة بطلة الرواية نهى التي أصبحت رئيسة الممرضات، وفي كل مرحلة من مراحل حياتها، حتى بعد أن تخلصت منها فعليا، يموت الخال/ المجرم موتا عاديا فتقرر أن تنتقم منه في أمها، وتسافر أخيرا إلى الأب الذي يظهر فجأة كأنما لينتشل ابنته من كل هذا الضياع.

غلاف رواية "فوق رأسي سحابة"

تشير البطلة إلى أن موت أمها الذي ظنت أنه سيخلصها من آلامها، تركها أكثر حيرة وألما، وبقيت آثار الأم ماثلة في كل تجارب حياتها حتى حينما سعت للهرب إلى اليابان، حيث سعت للاندماج في ذلك المجتمع المختلف عنها كليا، لكن الماضي يظل يطاردها وحكايتها مع أمها وتخليها عنها يحضران في كل موقف تمر به، حتى تفاجأ هناك بنموذج آخر لفتاة تمارس عليها نوعا من القهر المادي والمعنوي، حتى تقرر الانتحار وتصبح متهمة بقتلها.

"هند أو أجمل امرأة في العالم"... الأم السجانة

تنتقل اللبنانية هدى بركات إلى مستوى آخر في تصوير الأم، في روايتها "هند أو أجمل امرأة في العالم" (دار الآداب، بيروت) حيث تعاني بطلتها هنادي من لعنة الماضي الذي يطاردها حينما كانت تعيش مع أمها التي مارست عليها أشد صنوف القسوة، فلم تتحمل إصابتها بمرض نادر تسبب في تشويه وجهها، فتنفر منها وتعزلها  في مكان خاص بالمنزل لفترة طويلة، وتخفيها عن أنظار الجميع، حتى تفكر البنت في أن تخلص أمها من ذلك العار فتقرر الهرب من ذلك السجن، وتذهب لتواجه العالم بعيدا في الغربة.

غلاف رواية "هند أو أجمل امرأة في العالم"

تغادر هند/هنادي عالم أمها وقسوتها، لكن الأم تبقى حاضرة في كل تفاصيل حياتها، تسألها وتسائلها، تستحضر كلماتها وتصرفاتها، حيث أنها كانت وسيلتها الأولى للتعرف على العالم، تسافر وتفاجأ بأحداث أشد قسوة وتأثيرا ولكن يبقى أثر الأم الغائبة حاضرا، تحدثها عن الجمال الذي بدأ يتلاشى من مظهرها، سواء وجهها أو نبرة صوتها، أو حتى شكل شعرها، وكيف كانت كل كلمة وكل تعليق بمثابة جروح غائرة لا تندمل ولا تزول بمرور السنين، تلك العلاقة الملتبسة تجدلها هدى بركات بعناية، ومهما بدا للبطلة المقهورة أنها استطاعت تجاوزها، فإذا بها تحضر بتجليات أخرى.

وهكذا تتحول فكرة الأمومة المثالية إلى فكرة الالتزام بالظاهر، وتحضر مقولات تلك الأم وحكايتها وماضيها في نفسية بطلة الرواية 

تبدو الأم في رواية "هند أو أجمل امرأة في العالم" ملتزمة بالمظهر حريصة عليه، لذا فهي سرعان ما تحرص على إخفاء ابنتها والتستر عليها لمجرد أن "شكلها" لم يعد مناسبا لبنت. وهكذا تتحول فكرة الأمومة المثالية إلى فكرة الالتزام بالظاهر، وتحضر مقولات تلك الأم وحكايتها وماضيها في نفسية بطلة الرواية وحاضرها القاسي، رغم كل ما تتعرض له من مواقف وتحديات وصعوبات.

 تنتقل فكرة الأمومة عند هدى بركات إلى فكرة الوطن، فالأم تحب الوطن وتسعى إلى أن تبث ذلك الحب في ذهن ابنتها، ولهذا ربما تعود البنت بعد سنوات من الغربة والشتات في فرنسا، إلى ذلك الوطن لتجده ممزقا بالحرب والانفلات الأمني وتهديد الحياة كلها، وتبدو حياتها أيضا على شفا هاوية إذ يزداد مرضها ويضعف بصرها، وفي كل خطوة تخطوها البطلة في رحلتها تحضر قيود الماضي وحكايات أمها المؤلمة التي تشعرها بفقدان معنى الحياة أكثر، وهكذا تبدو الأم في الرواية ليست مجرد سجانة في الماضي ولكن أثرها يمتد بعد موتها ويبقى مؤثرا في ابنتها حتى النهاية.

"بيت الجاز "... إجهاض الأمومة

تدور رواية "بيت الجاز" للمصرية نورا ناجي (دار الشروق، مصر) حول ثلاث شخصيات نسائية مختلفة، كل واحدة منهن من عالم مختلف، ولكن يجمع بينهن ما يتعرضن له من قسوة المجتمع من جهة، وشعورهن بثقل الأمومة وقسوتها من جهة أخرى، في مجتمع شرقي، لا يزال يحمل المرأة الكثير من الأعباء ويضع عليها المزيد من القيود والعراقيل.

غلاف رواية "بيت الجاز"

تبدأ الرواية بحكاية "رضوى" الكاتبة التي تطاردها فكرة الكتابة عن جريمة مؤلمة قرأت عنها في الصحف وهي "إلقاء طفل حديث الولادة من شباك المستشفى"، فنتعرف من خلالها على تلك الكاتبة الروائية وعالمها وذلك الصراع الذي تخوضه طوال الوقت سواء في الكتابة أو الحياة، ثم نتعرف على الشاهدة الحقيقية لذلك المشهد الأليم، من خلال شخصية الطبيبة "يمنى" التي يصادف أنها تعرف الأم وملابسات تلك الحادثة، وتنتقل بعد ذلك إلى أكثر حكايات الرواية مأساوية وهي حكاية الفتاة "مرمر" وما جرى لها حتى وصلت إلى تلك اللحظة التي جعلت أمها تدفع بها إلى ذلك المصير القاسي.

ثلاث روايات بثلاث حكايات يظهر فيها جميعا أثر المجتمع على المرأة، ومحاولاتها المستمرة للحفاظ على وجودها كزوجة مثالية تحافظ على صورة الأم

ثلاث روايات بثلاث حكايات وثلاث عائلات مختلفة، يظهر فيها جميعا أثر المجتمع على المرأة، ومحاولاتها المستمرة للحفاظ على وجودها كزوجة مثالية تحافظ على صورة الأم كما يفترض أن تكون، ولكن كل امرأة منهن، وكل أم، تواجه الكثير من العقبات والتحديات التي تجهض فكرة الأمومة تلك، بوعي أو من غير وعي، فقد تغيرت وتنقلت الحالات بين المتعلمة المثقفة الطبيبة "يمنى" وبين الوجه الآخر لها المختلف، والتي لم يتح لها أن تتلقى تعليما ولا حياة كريمة، وإنما تم تجاهل كل رغباتها وعاشت حياتها وفق ما أتيح لها، ولكننا نفاجأ بأنهها تتعرض للاغتصاب، وتتفق أمها وعمتها لكي تتخلص من ذلك الجنين/العار لا سيما أن السبب فيه كان أحد أفراد أسرتها وهو عمها.

 لعل المختلف في رواية نورا ناجي أنها تمزج بين المشكلات الاجتماعية التي تتعرض لها بطلات الرواية وبين محاولة الكاتبة للنجاة من خلال الكتابة، وكيف يتعامل الكاتب مع هذا النمط من المشكلات القاهرة وكيف يتأثر بها ويتمكن من التعبير عنها. تخصص ناجي فصلا لبطلتها رضوى تبث فيه كل شجون الكاتبة وعلاقاتها سواء بالقراء أو النقاد أو الجوائز وغير ذلك، وتربط من جهة أخرى بين حياة بطلتها الشخصية وعلاقتها بوالديها وكيف أثر ذلك على كتابتها وحياتها، فتعود للماضي لتتذكر كلمة بقيت مؤثرة في حياتها حتى بعد وفاة أمها بسنوات، حينما قالت لها: "لست ابنتي لم تخرجي من هذه البطن".

غلاف رواية "دار خولة"

"دار خولة"... الأمومة الضائعة

استطاعت الروائية الكويتية  بثينة العيسى في "دار خولة" (تكوين للنشر، الكويت)، وعلى الرغم من كونها نوفيلا صغيرة لا تتجاوز الـ 120 صفحة، تقديم عالم بطلتها "خولة" وصراعها بين أفكارها وثقافتها وما نشأت وتربت عليه، وبين ما أصبح عليه أبناؤها بمرور الزمن، وكيف سعت إلى أن تجمعهم في النهاية في عشاء خاص فإذا به يفتح عليها وعليهم كل جروح الماضي وآلامه وشجونه ليتحول إلى العشاء الأخير.

هكذا صورت بثينة العيسى حال خولة وتقلباتها بين رغبتها كأم في جمع أبنائها حولها وبين صراعتها الخاصة المتعلقة بالأفكار الكبرى

تدور الرواية حول الدكتورة خولة التي تجمع بوضوح بين دورين داخل مجتمعها، دورها كأم مسؤولة عن زوج و ثلاثة أبناء، ودورها كأستاذة جامعية تربي الشباب وتوجههم إلى الأفكار التي تراها صحيحة، بل وتمنح فرصة إضافية في التأثير على المجتمع عبر برنامج تلفزيوني تعلن فيه أفكارها، ولكن كل ذلك يتهاوى أمامها في لحظة، فتشعر أنها تحرث في بحر وتمسك الهواء.

لا تبدو فكرة الأمومة في ظاهرها شغلا شاغلا عند الدكتورة خولة، حيث تتجاوز الخاص في حياتها إلى العام في الناس والمجتمع بل والعالم العربي كله، فتتحدث عن مواجهة الأمركة والعولمة وضرورة تمسك الناس بتراثهم وتقاليدهم، ولكن الرواية بين هذا وذاك ترسم صورة واقعية شديدة التأثير لتلك الأم التي حملت على عاتقها كل شيئ لا سيما بعد غياب ازوجها، لتدرك فجأة أنها في مجتمع لا يلتفت إليها ولا يسمعها مهما علت في منصبها ومهما حازت من مكانة. وهكذا تشهد خولة تمرد ابنها الأكبر "ناصر" الذي لم يتمكن من التأقلم مع توجهات الأم الصارمة وقوانينها، فيما يمتثل "يوسف" لأوامرها بشكل ظاهري ويفرض عليها طريقة تعامله بشكل خاص، في حين يبقى الثالث الأصغر "حمد" غير مبال لكل ما يحدث حوله يعيش بطريقته ويراقب في صمت.

هكذا صورت بثينة العيسى حال خولة وتقلباتها بين رغبتها كأم في جمع أبنائها حولها وبين صراعتها الخاصة المتعلقة بالأفكار الكبرى التي طالما تحدثت عنها ونادت بها أمام الطلبة أو في أبحاثها الخاصة وبرنامجها التلفزيوني الذي ظهرت فيه مرة واحدة ولكنه كان كافيا لأن يخلق حالة من الشقاق بينها وبين أبنائها، يشعر القارئ بنوع من التعاطف مع تلك الأم المكلومة في أواخر حياتها، بينما يتفهم في الوقت نفسه مشاعر الأبناء وشعور كل واحد منهم برغبته في الخروج أو التمرد على تلك الأم.

غلاف رواية "بالحبر الطائر"

"بالحبر  الطائر"... أمهات في المنفى

لا تقتصر حكايات الأمومة في رواية المصرية عزة رشاد "بالحبر الطائر" (الكتب خان، القاهرة) على حكاية أم واحدة، بل تضع القارئ أمام حكايات أربع سيدات/أمهات، لكل واحدة منهن تجربتها الخاصة ومأساتها الخاصة. تبدأ الرواية من خلال نعيمة/نعومي التي تسعى إلى جمع صديقاتها من خلال مجموعة "واتساب"، ومن خلالها نتعرف على مأساتها الخاصة، حيث تعاني الوحدة ولاتجد لها منفذا ولا خلاصا إلا بكتابة حكايات صديقاتها في ملفات على الكمبيوتر، يكتشفها ابنها ناجي بعد وفاتها.

لعل أبرز ما تطرحه رواية عزة رشاد وحكاية بطلاتها أن مفهوم الأمومة واحد شرقا وغربا، وأنه لا فرار كذلك من تلك المفاهيم والأطر الاجتماعية الشرقية

ثمة صراع خفي تتبين لنا فصوله في مذكرات تلك الأم وحكايتها عن دور أمها في حياتها، وكيف كانت تمارس معها دورا سلبيا بتفضيل "نوجا" صديقتها وتقديمها عليها، حتى أنها تعترف بعد مرور السنين أن ذلك ما جعلها تحاول استرضاءها لكي تكون هي بطلتها، فيما نسيت أن يكون لها حلمها  الحقيقي الخاص، كما تحضر حكاية صديقتهما "نادين" أيضا، التي تركت أحلامها الخاصة بالغناء بمجرد عثورها على الحب، وانتقالها إلى فرنسا على أمل أن تجد هناك الحياة المثالية التي تحلم بها، وتسعى جاهدة لكي تطبق كل أفكار المجتمع حول الزوجة والأم المثالية، فأخلصت لحياتها الأسرية ومنحت الزوج والأبناء كل طاقتها، ولكنها تفاجأ بعد سنوات أن ذلك كله لم يلق أي تقدير، بل إن ابنها يعبر بكل بساطة عن اعتباره كل هذا الاهتمام والرعاية طوال السنوات سجنا عاش فيه الأبناء فترة طويلة.

وإذا كانت مشكلات نادين ونعيمة على هذا القدر من الوضوح إلا أن حضور الأمهات وتأثيرهن يبدو واضحا على الأخريات، فها هي نجوى بعد كل التجارب التي خاضتها من الإسكندرية إلى مانهاتن لاتزال تحت تأثير مقولات جدتها "سندس" وأفكارها حول ما يجب أن تكون عليه الفتاة/ الأنثى، فيما نفاجأ بغياب ابنتها وشعورها المرير بالتقصير نحوها مما أدى إلى اختفائها، ونتعرف في حكايتها على تلك العلاقة الملتبسة التي جمعتها بابنتها، وكيف حرصت على حمايتها من شرقية أبيها وخطر الغرب في الوقت نفسه، فباتت مهددة بين الهويتين.

من جهة أخرى يأتي حضور أم نسمة في غيابها، بعد أن أصابها داء الخرف، الأم المثقفة المتعلمة تنسى كل تعليمها وتلقي بابنتها فريسة للمشعوذين والدجالين، كل ذلك بعد اكتشاف إصابتها بمرض نادر تعرف فيما بعد أنه "متلازمة تيرنر"، يقودها كل ذلك للموافقة على الزواج "أي زواج" لكي لا توصم "بالعنوسة"، حتى تقرر السفر للنجاة من سيطرة تلك الأم وقهر ذلك المجتمع.

ولعل أبرز ما تطرحه رواية عزة رشاد  وحكاية بطلاتها أن مفهوم الأمومة واحد شرقا وغربا، وأنه لا فرار كذلك من تلك المفاهيم والأطر الاجتماعية الشرقية، حتى لو عاشت المرأة حياة مختلفة وسعت إلى أن تكون أكثر تحررا ورغبة في تحقيق ذاتها هناك في الغرب المتقدم، تبقى الأفكار والهواجس مسيطرة على بطلاتها وعلى ذلك الوعي بالدور الذي عليها القيام به، يؤكد ذلك المجتمع هنا وهناك على السواء.

font change