"مالكريداس" تسجيلي تشيلياني يروي قصة الأمومة خلف القضبان

فيلم يدخل إلى العالم المسكوت عنه

Al Majalla_Dana Gilbert_Square Eyes Films 1
Al Majalla_Dana Gilbert_Square Eyes Films 1

"مالكريداس" تسجيلي تشيلياني يروي قصة الأمومة خلف القضبان

في كتابها الشهير، "كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها"، الصادر في بروكسيل عام 2016، تصف الشاعرة إيمان مرسال تجربة الأمومة بأنها "عادة عطاء، تماهٍ بين ذاتين، حب لا محدود وغير مشروط"، وتعود وتؤكد في موضع آخر من كتابها: "ولكن يظل من الصعب أيضا أن تلدي وأن تكوني أما اليوم، ومع كل الامتيازات الطبقية والطبية الممكنة".

لكن ماذا عن اللواتي لم يحظين بهذه الامتيازات الطبقية، ولا استحققن من وجهة نظر مجتمعاتهن العناية "الطبية الممكنة"؟ ما الذي يمكن أن يُقال عن تجربة الأمومة بين حيطان السجن، وخلف قضبانه؟ وما ذنب أبناء هذه التجربة، الموصومين، كيف سيعيشون بدورهم مشاعر الارتباط والانفصال، التي ترتبط بتجربة البنوة، خارج المتن الثقافي المعتاد؟

تعترف مرسال في كتابها بأن "هناك ندرة في سرد خبرات الأمومة خارج المتن المتفق عليه"، وكانت بذلك تشير إلى موقع المشاعر التي يمكننا نعتها بالسلبية من تجربة الأمومة، كشعور الأم الدائم بالذنب تجاه أولادها، أو حين تتنازعها مشاعر الأنانية، تجاه هذا المخلوق الذي يتغذَّى عليها كي يكبر هو. ومع ذلك، فإن هناك ندرة أيضا في سرد خبرات الأمومة الأخرى، كالأمومة الحبيسة، أو الأمومة غير المرحب بها، ولا المعترف بها، نظرا إلى ما يمكن أن تكون قد ارتكبته هذه الأم من جرائم، في وجهة نظر القانون، إنها الأمومة غير المحبوبة، إن جاز التعبير.

غير المحبوبات

عبر مقاطع فيديو ملتقطة بالهواتف الذكية في غفلة من حراس السجن في تشيلي، وصور رقمية لا تتسم بالجودة المرتفعة، ولا بالتحديد الواضح لموضوعاتها، تصنع المخرجة التشيليانية تانا جيلبرت فيلمها التسجيلي الطويل الأول، "مالكريداس"، والترجمة المباشرة للكلمة من اللغة الإسبانية هي "غير المحبوبات". تؤسس صانعة الفيلم متنا حكائيا وبصريا جديدا لا يخلو من جمالية، ويحافظ على استقلاليته، أو ربما انفصاليته، عن المتن الكبير، ما دام انتبذه هذا المتن الكبير، واستبعده، كأنه لا يراه.

 هناك ندرة أيضا في سرد خبرات الأمومة الأخرى، كالأمومة الحبيسة، أو الأمومة غير المرحب بها

موضوعة الأمومة في السجن، لا تتعلق بسجون تشيلي فقط، على أي حال. وفقا لموقع ncbi التابع للحكومة الأميركية، فإن نحو 7 % من إجمالي المساجين في العالم هن من النساء، و61 % منهن أمهات لأطفال أعمارهم تقل عن 18 عاما، و71 % منهن يعشن مع أطفالهن داخل السجون. وحسب الدراسة التي أُجريت على السجينات في إيران، فإن النساء يختبرن نوعا من صراع الهويات في هذه التجربة، ويجدن صعوبة في التعامل مع هويتين منفصلتين؛ هوية الأم في طرف، وهوية السجينة في طرف آخر. تصرّ أولئك الأمهات، كما يذكر الموقع، على التفريق بين الهويتين، وعدم خلطهما بأي شكل. وتُرجِع الدراسة السبب في ذلك، إلى تناقض متطلبات كل هوية، فالسجينة تحتاج إلى صفات "كالمرونة والثبات"، بينما يلعب الوصم الاجتماعي والتمييز السلبي ضد أولئك السجينات دورا في عزلهن اجتماعيا كأمهات، مما يؤثر سلبا على قدرتهن على أداء دورهن الأمومي.

Tana Gilbert_Square Eyes Film

في ختام الدراسة السابقة، يطالب الباحثون بالمزيد من الاستكشاف لهذه التجربة المركَّبة، التي تحدث غالب الوقت، في معزل عن المجتمع. من هنا ربما تأتي الأهمية المزدوجة للشريط التسجيلي الناطق بالإسبانية، "مالكريداس" Malqueridas، وهو إنتاج تشيلياني ألماني مشترك، وقد حصد الجائزة الثانية في فئة الأفلام التسجيلية الطويلة، في الدورة الأخيرة من مهرجان الإسماعيلية للأفلام التسجيلية والروائية القصيرة.

شهادات حية

إنه أولا فيلم ينهض على شهادات حيّة وحقيقية لتلك النساء، بل يتخذ مادته مما سجلنه بمحض إرادتهن، وفي لحظات غفلة من إدارات هذه السجون، ومن الزمن الذي نسيهن. لقد كن، يلتقطن صورا لأنفسهن، يحاولن بعثها لصغارهن في العالم المفتوح. أو كن يلتقطن صورا تذكارية لهن مع الصغار الذين ما زالوا يعيشون معهن. يسجلن لحظات أعياد الميلاد، خطوات الأطفال الأولى، والأغاني والهدهدات. لأن هذه الصور والمقاطع هي كل ما سيتبقى بين أيديهن لأعوام تطول أو تقصر، حين يُرحَّل الأطفال خارج السجن، بعد تجاوز سنهم العامين، حسب القانون في تشيلي، وفي دول أخرى عدة، بينما تبقى الأم سجينة.

إضافة إلى أهمية الموضوع وجِدته، ثمة أهمية ثانية تتعلق بالمستوى السينمائي المميز للفيلم نفسه، وتجنُّب صانعته تانا جيلبرت التوجهات المطروقة في هذا النوع من الأفلام التسجيلية الذي يقوم على نوع من البحث الاجتماعي. على سبيل المثل، لم تذهب تانا إلى سجون النساء، بناء على تصاريح رسمية، ولا مدَّت يدها بالميكروفون إلى السجينات، تسألهن ما يمكنها سؤاله لتسمع منهن ما يصلح للقول. بل اتخذت طرقا ملتوية، لعلّها الوحيدة التي كان ستأخذها وتأخذنا إلى الحقيقة.

وثَّقت السجينات هذه المقاطع والصور، لا بغرض استخدامها وتضمينها في فيلم، إنما لأسباب أبسط وأكثر شخصانية ربما: كأن يُسمعِن أصواتهن المكتومة، أو في محاولة لمقاومة النسيان والعزل وفوات الزمن. ولعلّ من أهم الأسباب كما نحدس، هو ببساطة، الرغبة في التسلي، والمشاركة، واللعب، مثلهن مثل الصغار أنفسهم.

صوت المتكلِمة

تستقبلنا في هذا الفيلم المؤثر صورة يحدث تظهيرها تدريجيا لهذه السجينة التي تضم صغيرها، وكأنها إشارة مبكرة إلى ما سنراه لاحقا، إن قررنا استكمال المشاهدة. فالصورة غير التقليدية في السينما، تحافظ على نزق عملية التصوير نفسها، واندفاعيتها. وتعلن عن رخص ثمن وسيط التسجيل، بما يتماشى مع الحالة الاقتصادية للموثِّقات، ومن هذا التقشف الشديد، يصنع الفيلم جماليته. حين يقع مرة تفتيش مفاجئ للسجن، فإن ما ستحافظ عليه السجينات أكثر من أي شيء آخر، هو هواتفهن الذكية، بعيدا من الأيدي المتعسفة للضباط، إنها وسيلة الاتصال الوحيدة بالعالم الخارجي، لكنها أيضا سجل شخصي وذاكرة. يستقبلنا في الفيلم صوت مبحوح ملتاع لمتكلِمة، راوية، تحكي قصّة ما، هي قصة الفيلم نفسها التي تتركَّب من تلك الشهادات.

ما يهم هو أننا مع السجينات بصفتهن الإنسانية جدا، مجردات من الأفعال والاجتراحات، من معنى الخطأ والصواب

إلى هذا، فإن عملية المونتاج أو التوليف، تلعب دور البطولة في "مالكريداس". لا فقط توليف هذه الشهادات وما تضمّه من لقطات ومقاطع، بمعنى ترتيبها في نسق يؤدي إلى معنى. إنما أيضا في بناء حكاية، رواية سينمائية، تقول الحقيقة مع ذلك، حقيقة كل تلك النساء المجتمعات، لكن أيضا حقيقة كلٍ منهن الشديدة الفردية.

في هذا السياق، ما من جدوى في البحث عن جرائم أولئك السجينات التي قادتهن إلى هنا. قد تتعلق بالمخدرات، أو بغيرها. ما يهم هو أننا مع السجينات بصفتهن الإنسانية جدا، مجردات من الأفعال والاجتراحات، من معنى الخطأ والصواب. إنهن سجينات وحيدات أيضا، للعالم الخارجي ثأر معهن، غير محبوبات غالب الوقت على صعيد العائلة. في وسع أي امرأة أن تكون أما، هذه مسألة تضمنها الطبيعة للنساء، لكن التجربة تبقى صعبة. فكما قالت إيمان مرسال في كتابها: "أن تكوني أما يعني أن تؤمني بقوة عليا أو تكوني أنتِ نفسك إلهة. ليس هناك مكان وسط". مع ذلك، فإن السجينات هن الأبعد، عن مسألة الألوهة، هن المغضوب عليهن، والمسلوبة منهن أسلحة الأمومة كلها مرّتين.

Tana Gilbert_Square Eyes Film
مشهد من فيلم "مالكريداس"

قد نفهم تماما حاجة الصغار إلى أمهاتهن، وهنا نشهد نصيب الصغار من عسف السجن وصدمته وقهره، بعضهم كان يميز صوت الأقفال، ويتفاعل معه بالجسد الصغير. لكن ما يضيئه "مالكريداس" أيضا هو حاجة النساء إلى الصغار. في الأخص، ونحن نتحدث عن بيئة السجن، بكل ما تتضمن من عنف وانتهاك، بصور مختلفة، والعنف مبرر ومستحَق من وجهة نظر منفذيه، طالما أنه يطاول محكومات. تمرّ الراوية في الفيلم على الكثير من المناطق المظلمة. التسجيلات نفسها، تسودها الظلمة، وألوانها مشوَّهة. تتحدث عن الزنازين الانفرادية، عن قسوة البرد، وبطش الحارسة التي بللت السجينات في عز الشتاء، كي تزيد عذاباتهن الليلية. إحداهن سمعت أخرى تنادي، طلبا مساعدة، ثم سكت صوتها، وفي الصباح تبيّن أنها انتحرت. هكذا عادت الراوية تتذكر أولادها، في الخارج، وهي التي كانت قد وعدتهن بأن "تعيش معهن إلى الأبد" حال خروجها من السجن، إنه وضع طبيعي خارج السجن، لكن هنا أمل مشكوك في حدوثه.

أمومة مزدوجة

الأمومة الثانية التي تكشفها تلك التسجيلات والصور في الفيلم، هي أمومة السجينات، بعضهن لبعض. رابطة تتشكل بين المحكومات، تعاضد يمارَس بلا تنظير، نسوية صافية وخام، تقدِّم لهن ما يسد الرمق، من أمومة وأختية، وحتى من حب، داخل هذه الأسوار.

Tana Gilbert_Square Eyes Film
مشهد من فيلم "مالكريداس"

في بعض الأحيان، ينقذ هذا النوع من الأمومة سجينة ما كانت على وشك الانتحار، وقد يعوض أخرى عن انتزاع أطفالها منها، بأن يمنحها فرصة تحرير تلك العاطفة مع السجينات الأصغر سنا. وفي أحيان أخرى، يقدم درجة من درجات المؤانسة، أو اللذة. على الحياة أن تستمر، والسجينات وراء القضبان يُعدن اختراع العالم نفسه، إن لزم الأمر.

 أولئك النساء قد يكن مجرمات، غير محبوبات، لكنهن بلا شك أمهات، ولأمومتهن طعم مختلف

يحدث أن يتدخل القدر بمساعدة من أحد الجيران، في سبيل أن تتواصل أم مع صغارها. لكنه قد يتدخل أيضا بأكثر الطرق صدما، كأن يختطف طفلا بالموت، وكانت السجينة تنتظر زيارته، هذا عدا صعوبة الخروج من السجن نفسه، حتى إن قضت المحكومة ما عليها من أعوام. فقد تُلفق لها تهمة أخرى، تعيدها إلى نقطة الصفر، وقد يقودها سلوكها التكراري القهري إلى ارتكاب جنح أخرى، لتظل تدور في دوائر مفرغة.

وصحيح أن الراوية التي تتولى الحكي السينمائي، لا وجه محددا لها، ولا اسم، كي تشمل كل وجه واسم، غير أن "ريدوس"، في مستواه النضالي، وفي فصله الأخير يكشف عن أسماء الضحايا / السجينات/ الموثقات وأصحاب الشهادات، في سلسلة طويلة من الأسماء. كما يحرر الوجوه أيضا، عبر صور الهواتف غير الفائقة الجودة مجددا. أولئك النساء، قد يكن مجرمات، غير محبوبات، لكنهن بلا شك أمهات، ولأمومتهن طعم مختلف.   

font change

مقالات ذات صلة