10 منها تتنافس على أوسكار 2024... لماذا نحبّ أفلام السيرة؟

بدأت مع فجر السينما وازدهرت خلال السنوات الأخيرة

Laura Salafia
Laura Salafia

10 منها تتنافس على أوسكار 2024... لماذا نحبّ أفلام السيرة؟

مؤلف موسيقي وقائد أوركسترا، وعالم فيزياء، وقائد نازي، ثلاث شخصيات تاريخية تتنافس سيرها السينمائية، بين أفلام أخرى، على مختلف جوائز الأكاديمية الأميركية (الأوسكار) 2024، من ضمنها جائزة أفضل فيلم. وإن لم يكن الفوز بهذه الجائزة الأخيرة من نصيب أحد هذه الأفلام الثلاثة، فالأرجح أن يكون من نصيب "قتلة زهور القمر" لمارتن سكورسيزي الذي لا يبتعد بدوره تماما عن جنس السينما السيرية Biopic، وإن كان لا يصنّف تقنيا ضمن هذه الفئة. فهو لا يروي سيرة شخص بعينه، بقدر ما يروي سيرة "أمة الأوساج" مع جرائم الرجل الأبيض في الولايات المتحدة الأميركية.

لطالما كانت السيرة، بفرعيها الذاتي والغيري، مثار اهتمام الكتاب والفنانين وجمهور القراء والمشاهدين على امتداد تاريخ الكتابة والفنون. فنجد أشكالا من السيرة في الكشوفات الآثارية (أوصاف ملوك وملكات الفراعنة المدونة على الأضرحة)، إلى الأساطير (غلغامش)، إلى ما حفل به التراث اليوناني والروماني من سير الأبطال والقادة والفلاسفة، مرورا بقصص الأنبياء والرسل في الأديان السماوية الثلاثة، وصولا إلى السيرة النبوية لابن هشام، ثم ما سمّي طويلا في التراث العربي القديم بالتراجم، بما في ذلك سير وتراجم بعض أبرز الشعراء العرب. بل إن السيرة بوصفها "الطريقة والحالة التي يكون عليها الإنسان"، كما جاء في "لسان العرب"، يمكن إرجاعها زمنيا إلى بداية وعي الإنسان بذاته وبفكرة نقل ذينك الطريقة والحالة إلى من يأتي بعده، وهو ما نراه متجسّدا بصورة أولية في رسوم الكهوف التي يعود أقدمها (في إسبانيا) إلى نحو 64 ألف سنة.

  لفن السيرة، بفرعيها الذاتي والغيري، عند العرب مكان ومكانة واضحان، سواء عبر كتب التراجم المعروفة التي تناولت سير مجموعات من الشخصيات، أو تلك التي تناولت شخصية بعينها

التراجم العربية

وإذا كانت "اعترافات" القديس أوغسطين التي كتبت في بدايات القرن الخامس الميلادي، تعدّ أول سيرة ذاتية غربية، وكتاب جيمس بوزويل، "حياة صموئيل جونسون" (1791)، يعدّ أول سيرة غيرية، فإننا نجد لفن السيرة، بفرعيها الذاتي والغيري، عند العرب، مكانا ومكانة واضحين، سواء عبر كتب التراجم المعروفة التي تناولت سير مجموعات من الشخصيات في عصور وحقب محددة، ومنها "طبقات الصحابة" و"طبقات فحول الشعراء" و"الأغاني" و"وفيات الأعيان" و"بغية الملتمس في تاريخ رجال الأندلس" و"الصلة" وغيرها الكثير، أو تلك التي تناولت شخصية بعينها، ومنها كما أسلفنا السيرة النبوية و"مناقب الإمام" و"التعريف بابن خلدون ورحلته غربا وشرقا" و"أخبار أبي نواس" و"طوق الحمام" لابن حزم الأندلسي، أو تلك السير الشعبية الأسطورية مثل سير عنترة والزير سالم والظاهر بيبرس، أو التي تضمنت سيرا ضمنية جزئية كالتي نراها في أدب الرحلة، امتدادا إلى القرن العشرين حيث تحول فنّ كتابة السيرة، كما في العالم أجمع، إلى فنّ شعبي يتمتع بجاذبية قرائية عالية وإلى نوع أدبي راسخ، سواء جاء على هيئة مذكرات أو شهادات تتنوع أسلوبيا بين الأسلوب الأدبي والروائي والأسلوب الصحافي، وبعض كتّابه الأشهر عربيا طه حسين وأحمد أمين والعقاد وزكي نجيب محمود وتوفيق الحكيم ونجيب الريحاني ولطيفة الزيات وعبد الرحمن بدوي وغازي القصيبي وإدوارد سعيد ومحمد شكري وغيرهم العشرات إن لم يكن المئات.

مع ظهور فنّ السينما، كان بديهيا أن تكون السيرة جزءا لا يتجزأ من عالمها وسردياتها، فمثلما جذبت سير العظماء والشخصيات التاريخية وقصص العشاق والأبطال جلساء المجالس والمقاهي طوال قرون، جاءت السينما (ومن بعدها الإذاعة والتلفزيون واليوم مقاطع الفيديو القصيرة عبر "يوتيوب")، لتتخذ باكرا من تلك السير مصدرا أساسيا من حكاياتها. وعلى الرغم من أن كلمة biopic نفسها لم تشهد رواجا حتى نهايات القرن العشرين، فإن نحتها يعود إلى 1945 بحسب قاموس أوكسفورد، ككلمة تجمع بين السيرة biography والفيلم picture. ويرجع المؤرخون الفنيون أول إرهاص لسينما السيرة إلى فيلم ألفرد كلارك، "إعدام ماري ستيورات ملكة اسكتلندا" (1895)، الذي أنتجه توماس إديسون، والبالغة مدته 18 ثانية فقط، لتكرّ من بعده سبحة الأفلام السيرية: "جان دارك" (1900)، "حياة موسى" (1909)، "الملكة إليزابيث" (1912)، "حياة وأعمال ريتشارد فاغنر" (1913)، "كليوباترا" (1917)، "آل روزفلت المقاتلون" (1919)، "نابليون الصغير" (1923) إلخ، وقد بلغ عدد الأفلام السيرية المنتجة هوليووديا فحسب بين 1927 و1960 أكثر من 300 فيلم، مع زهاء عشرة أفلام تنتج في العام الواحد أحيانا.

توظيف

أما عربيا، فلا يبدو أن السيرة الذاتية احتلت الأهمية ذاتها التي رأيناها في الغرب، ولعلّ أحد أسباب ذلك يعود إلى صعوبة إنتاج هذا النوع من الأفلام. ففي حين رأينا أن كثيرا من أفلام السيرة الذاتية الغربية (الأميركية والأوروبية) يستند إلى مؤلفات، سواء خيالية (روائية) أو تأريخية أو صحافية تلقى رواجا واسعا، فإن هذا المنتج ظلّ محدودا على مساحة النشر العربية، والسبب الآخر الأهم هو الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي العربي، الذي يجعل من الصعب فتح النقاش حول الشخصيات التاريخية أو "الإجماع" حول شخصية من الشخصيات. لكننا مع ذلك رأينا عددا من المحاولات، تركز معظمها في مصر، مع أفلام مثل "خالد بن الوليد" (1958) و"جميلة" (1958) و"الناصر صلاح الدين" (1963) و"سيد درويش" (1966)  (جميعها تبدو نتاجا للمرحلة العروبية الناصرية)، ولعل مخرج اثنين منهما (جميلة والناصر صلاح الدين)، أي يوسف شاهين، بإنجازه سلسلة أفلام السيرة الذاتية بداية من "اسكندرية ليه" (1978) وصولا إلى "المهاجر" (1994) الذي استلهم سيرة النبي يوسف، و"المصير" (سيرة ابن رشد، 1997)، كان جزئيا يقوم بمراجعة ذاتية للحقبة الناصرية نفسها وللواقع السياسي المصري والعربي بعد مرحلة الثورات وما عرف بـ"الناصرية".

في هذا السياق يبدو لافتا الجهد الذي بذله المخرج حسن الإمام بإنجازه أفلاما تناولت سير فنانات في الرقص الشرقي والطرب، "شفيقة القبطية" (1963) و"بديعة مصابني" (1975)، و"سلطانة الطرب" (سيرة المطربة منيرة المهدية، 1979)، وهو شبيه بالاتجاه الذي حاول الممثل أحمد زكي في مرحلة لاحقة تكريسه عبر أفلام سيرية مع عدد من المخرجين تناولت سير جمال عبد النصر وعبد الحليم حافظ وأنور السادات وكان يبدو أنه يعتزم مواصلته بفيلم رابع على الأقل عن الرئيس الراحل محمد حسني مبارك، لكن وفاته المبكرة حالت دون ذلك.

الجدير ذكره في هذا السياق أيضا أنه، وفي حين لم تتحول أفلام السيرة إلى أن تكون خطا إنتاجيا مستداما في السينما العربية، فقد وجدت ولا تزال تجد حيزا واسعا جدا في الدراما التلفزيونية، ومن المفارقات أن إحدى أبرز الشخصيات التي وجدت طريقها إلى الشاشة الصغيرة هي سيرة طه حسين في مسلسل "الأيام" (1979)، وقد تلقى هذا النوع دفعة كبرى عبر المسلسلات الدينية والتاريخية في شهر رمضان، بداية من مسلسل "محمد رسول الله" (1980) ثم عبر المسلسل السيري الأشهر "رأفت الهجان" (1988)، لتتوالى بعد ذلك مسلسلات السيرة حتى باتت جزءا راسخا في الدراما الرمضانية السنوية. ولعل من أسباب الميل إلى إنتاج هذه المسلسلات هو شعبيتها وضخامة إنتاجها غالبا، ناهيك بتناسبها مع الأجواء الدينية والروحانية، خصوصا عندما تعالج قصص شخصيات دينية معروفة.

أورسون ويلز وتغيير الاتجاه

على الرغم من أن فيلم أورسون ويلز الأيقوني، "المواطن كين" (1941)، ليس فيلما سيريا بصورة مباشرة، لكن من المعروف منذ صدوره، أنه يروي قصة حياة قطب الإعلام والمال وليام راندولف هيرست الذي توفي بعد عشر سنوات من صدور الفيلم، ولعلّ كونه كان لا يزال على قيد الحياة عند إنجاز الفيلم هو السبب، لأسباب محض قانونية، وراء هذه التورية. لم يكن "المواطن كين" أول فيلم يتناول شخصية خلافية أو "شريرة"، فلطالما جذب هذا النوع من الشخصيات مخيلة السينمائيين، ومنهم تشارلي شابلن الذي أنجز في الفترة نفسها تقريبا "الديكتاتور العظيم" (1940) مستلهما شخصية أخرى كانت لا تزال حية وهي الديكتاتور النازي أدولف هتلر، وقبل ذلك بثماني سنوات كان هوارد هوكس استلهم قصة حياة الخارج على القانون آل كابون في فيلم "ذو الندبة" (1932)، الذي يحظى بحصة الأسد بين الشخصيات الإجرامية التي أنجزت أفلام عنها (أكثر من ستة أفلام).

مثلما جذبت سير العظماء والشخصيات التاريخية وقصص العشاق والأبطال جلساء المجالس والمقاهي طوال قرون، جاءت السينما لتتخذ من تلك السير مصدرا أساسيا من حكاياتها

FlixPix_Netflix_Alamy
فيلم "مايسترو" (تمثيل وإخراج برادلي كوبر)

لعل أهمية "المواطن كين" تكمن في كونه أبرز فيلم يحوّل السيرة إلى فن رفيع، يتضمن، إلى دراسة الشخصية وتطورها، الطبقات المتعددة التي تحفّ بتلك الشخصية والسمات التي تحولها إلى شخصية تراجيدية تؤدي معالجتها إلى طرح أسئلة وقضايا اجتماعية وسياسية ووجودية كبرى، ولا تقف عند حدود تفاصيل حياة الشخصية أو تقف موقفا محايدا منها. وقد فتح هذا الباب واسعا بعد ذلك على معالجة كل أنواع الشخصيات من زاوية نظر مختلفة، لا تهمل الجانب النفسي على وجه الخصوص. كما أسّس فكرة أنه يمكن لأفلام السيرة معالجة حياة (أو جزء من حياة) أي شخصية، بصرف النظر عن تاريخيتها أو "عظمتها"، وسواء كانت نبيلة أم لا، فالمهم هو مدى تركيب الشخصية والجوانب المظلمة فيها، والصراعات التي تعيشها أو تجعل الآخرين يعيشونها، ولا ريب في أن ويلز استفاد من تربيته الفنية الشكسبيرية وولعه بتلك الشخصيات المسرحية التراجيدية، ليقدم نسخة معاصرة من تلك الشخصيات التي تبدو محكومة بقدر مأسوي.

لا ريب في أن ظلال "المواطن كين" ظلت حاضرة في كلّ  فيلم كبير تناول شخصية تاريخية منذ أربعينات القرن الماضي، من "إيفان الرهيب" بجزءيه الأول (1944) والثاني (1958)، إلى "ثعلب الصحراء" (1951)، إلى "شهوة الحياة" (قصة الرسام فان غوغ، 1956)، إلى "لورنس العرب" (1962) وصولا إلى "كل هذا الجاز" (1979) و"غاندي" (1982) و"أماديوس" (1984)، وعشرات الشخصيات الأخرى من مناحي الحياة كافة، من قادة عسكريين وسياسييين وجواسيس ورجال أعمال وعلماء وكتاب وفنانين ورياضيين وصولا إلى المجرمين وحتى القتلة المتسلسلين.

انتعاش النوع

 يرى الباحث السينمائي وليام كوهلر، أن الطفرة التي شهدتها أفلام السيرة الذاتية في الألفية الجديدة، عائدة إلى أسباب محض إنتاجية، فهذه الأفلام تحقق في الغالب مشاهدات عالية شبه مضمونة، نظرا إلى اهتمام الجمهور المستمر بحكايات المشاهير وتفاصيل حيواتهم، وربما الفضائح المرتبطة بهم، أو نموذج القدوة أو مصدر الإلهام الذي يشكلونه لكثيرين، أو حتى دروس الحياة (ثنائية الفشل والنجاح)، وغير ذلك من الأسباب.

A24_Landmark Media_Alamy
مشهد من فيلم "منطقة اهتمام"

وإذ تراجع خلال العقود الأخيرة إقبال الناس، في أميركا والعالم، على دور السينما، وهو ما رأيناه في صورته القصوى خلال فترة جائحة كوفيد19، فقد وجد المنتجون، السينمائيون والتلفزيونيون، مجددا ضالتهم في أفلام السيرة لإعادة جذب الجمهور من خلال أفلام متوسطة التكلفة الإنتاجية، ربما لا تحقق أرقاما قياسية على شباك التذاكر، لكنها تضمن قدرا معقولا من الربحية، كما أن مجرد وجود شخصية مشهورة في محور أيّ  فيلم، من شأنه توفير دافعية تسويقية تغني عن الإنفاق المسرف على الحملات الترويجية.

الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي العربي، يجعل من الصعب فتح النقاش حول الشخصيات التاريخية أو "الإجماع" حول شخصية من الشخصيات

أحد العوامل الذي ساهمت في انتعاش هذا النوع السينمائي، هو ولادة نمط جديد من المشاهير، منهم من يتمتع بجاذبية شبابية لافتة، ومن هؤلاء على سبيل الأمثلة لا الحصر مؤسس "فيسبوك" مارك زوكربيرغ ("الشبكة الاجتماعية"، ديفيد فينشر، 2010)  ومؤسس "أبل" ستيف جوبز ("ستيف جوبز"، 2015، داني بويل)، ومنهم شخصيات مثيرة للجدال مثل النصّاب والمزور فرانك أباغنال ("أمسك بي إن استطعت"، 2002، ستيفن سبيلبرغ)، والمضارب في البورصة جوردان بيلفورت ("ذئب وول ستريت"، 2013، مارتن سكورسيزي) أو شخصيات ملهمة مثل العالم جون ناش ("عقل مثالي"، 2001، رون هاورد)، أو الرسامة فريدا كالو ("فريدا"، 2001، جولي تايمور)، أو الملاكم جيمس برادوك ("رجل السندريلا"، 2005، رون هوارد)، أو رجل الأعمال كريستوفر غاردنر ("مسعى السعادة" 2006، غبريال موتشينو). ومنهم شخصيات برزت واشتهرت ما بعد منتصف القرن العشرين، ولا سيما في سبعينات وثمانينات القرن العشرين ومنهم المغني راي تشارلز ("راي"، 2004، تايلور هاكفورد) والمغني جوني كاش ("امشِ الخط"، 2005، جيمس مانغولد) ورجل الفضاء نيل أرمسترونغ ("الرجل الأول"، 2018، داميان شازل)، والممثلة ماريلين مونرو ("شقراء"، 2022، أندرو دومينيك).

أوسكار 2024

تشمل الأفلام السيرية جزئيا أو كليا المرشحة لنيل جوائز أوسكار 2024، في جميع الفئات، عناصر أو اتجاهات من كلّ ما سبق ذكره من أنواع الشخصيات. فنجد شخصية الفنان الموسيقي لينارد برنستين في "مايسترو" (تمثيل وإخراج برادلي كوبر)، والناشط السياسي الأسود بايارد راستن في "راستن" (إخراج جورج سي سكوت) والعالم روبرت أوبنهايمر في "أوبنهايمر" (كريستوفر نولان) والسباحة الأولمبية ديانا نياد في الفيلم الملهم "نياد" (جيمي تشين وإليزابيث تشاي فيرسهيلي)، والقائد العسكري نابليون بونابرت في "نابليون" (ريدلي سكوت)، والقيادي النازي رودولف هاس في "منطقة الاهتمام" (جوناثان غليزر) والناشط السياسي والموسيقي الأوغندي بوبي واين ("بوبي واين: رئيس الشعب" لموسى بوايو وكريستوفر شارب)، والناشط والصحافي التشيلياني أوغوستو غونغورا وزوجته باولينا أوروتيا في التسجيلي الشعري، "الذاكرة الأبدية" (مايتي ألبيردي)، والأم التونسية ألفة حمروني في "أربع بنات" (كوثر بن هنية)، ورئيسة الوزراء الإسرائيلية غولدا مائير في أحد أسوأ أفلام السيرة، "غولدا" (غاي ناتيف).

بين هذه الأفلام العشرة (إذا ما استثنينا الفيلمين الوثائقيين)، فإن الأفضل فنيا هي بالفعل تلك المرشحة لجائزة أفضل فيلم و/ أو إخراج، أي "مايسترو" و"منطقة الاهتمام" و"وأوبنهايمر". كلّ من هذه الأفلام هو المفضل لديّ شخصيا، لأسباب مختلفة. ففي قصة الموسيقي الأميركي لينارد برنستين نرى طبقات عدة من الشخصيات والخطوط الدرامية، فهناك إشكاليات المثلية الجنسية، والهوية الجنسية عموما، والعملية الإبداعية وتعقيداتها ووطأتها، والزواج والعائلة، والأسئلة حول معنى الوجود نفسه، جميعها ينسجها برادلي كوبر ممثلا ومخرجا باقتدار واضح وتفكير متمهّل، وإذا ما تجاوزنا الربع الأول من الفيلم حيث الإيقاع اللاهث والأجواء التي تذكر بفيلم "لالا لاند"، فإن الفيلم يقدّم مشهديات سينمائية وبناء شخصيات ولحظات شعرية قلما نراها في موجة الأفلام الأخيرة.

بين هذه الأفلام فإن الأفضل فنيا هي بالفعل تلك المرشحة لجائزة أفضل فيلم و/ أو إخراج، أي "مايسترو" و"منطقة الاهتمام" و"وأوبنهايمر"

أما "أوبنهايمر" و"منطقة الاهتمام" فكأنهما – على اختلاف النطاق والأسلوب السردي والفني – وجهان من حكاية واحدة. حكاية الشرّ الكوني الذي أمسك بلباب البشرية خلال الحرب العالمية الثانية، فرأينا في "أوبنهايمر" جحيم القنبلة النووية، والألعاب السياسية القذرة التي سبقت ورافقت وتلت اختراعها واستخدامها، كما رأينا في "منطقة الاهتمام" شخصية القاتل الإباديّ المتجرّد من كلّ شعور إنساني، الذي يشكّل القتل بالنسبة إليه عملا بيروقراطيا وارتقاء في السلم الوظيفي، وفي الوقت نفسه يعكس الفيلم بصورة استعارية صادمة مناخ اللامبالاة الشامل في أثناء وقوع الهولوكوست، وهو ما يذكّر إلى حدّ كبير بما يجري اليوم في غزة، وفكرة أن يقف العالم شاهدا على الإبادة، عاجزا عن فعل شيء أو غير راغب في فعل شيء.

فيلم سكورسيزي، "قتلة زهور القمر"، الذي كما أسلفنا لا يندرج تقنيا ضمن أفلام السيرة، يأتي كأنه صورة خلفية لمنطق التفكير الإبادي أو أصله ومنشئه، وكأن سكورسيزي في هذا الفيلم يستخلص كلّ العبر والدروس من الشخصيات الكثيرة، الحقيقية والمتخيلة، التي عالجها على امتداد مسيرته المهنية، ليصل إلى الجوهر الذي وصل إليه أورسون ويلز في "المواطن كين"، وهو أن الشرّ المؤدّي إلى الإبادة ليس في نهاية المطاف فرديا، ولا يمكن أن يتجسد في شخص واحد مهما بلغ جنونه أو عنفه، بل هو نتاج منظومة وتاريخ ونمط أفكار وتصوّرات وتحيّزات تتحوّل في لحظة عمياء إلى "طريقة أو حالة يكون عليها الإنسان" كما جاء في تعريف السيرة، لغةً.

font change

مقالات ذات صلة