بعد "أوبنهايمر"... "منطقة الاهتمام" يروي سيرة العمى الأخلاقي تجاه الإبادة

الفائز بأوسكار أفضل فيلم أجنبي

Alamy
Alamy
كريستيان فريدل في فيلم "منطقة الاهتمام"

بعد "أوبنهايمر"... "منطقة الاهتمام" يروي سيرة العمى الأخلاقي تجاه الإبادة

خلال جلسة 5 أبريل/نيسان 1945 من محاكمة القيادي النازي رودولف هاس، أطول من تولى قيادة معسكر أوشفيتز الذي نفذت فيه جرائم إبادة اليهود حرقا وخنقا بالغاز، في بولندا، وجّهت إليه تهمت قتل ثلاثة ملايين ونصف المليون يهودي في المعسكر، فانبرى قائلا: "لا، كانوا فقط مليونين ونصف المليون، البقية ماتوا بالأمراض والجوع".

لا نعرف إذا كانت وقائع هذه المحاكمة، وشهادة هاس خلالها، أو مذكراته التي كتبها قبيل إعدامه بفترة وجيزة، هي التي ألهمت الروائي البريطاني مارتن أميس روايته "منطقة الاهتمام" The Zone of Interest الصادرة عام 2014، التي اقتبست فيلما سينمائيا بالعنوان نفسه لعله أحد أفضل الأفلام عن الهولوكوست (ليس بالمعيار الهوليوودي طبعا وإلا فلا أحد ينافس سبيلبرغ في "قائمة شندلر")، إلا أنّ الدور الذي تولاه هذا الرجل بوصفه جلاد أوشفيتز، وحقيقة أنه كان يعيش مع عائلته المكونة إلى زوجته من خمسة أولاد، في جوار المعسكر تماما، كافية لتشعل رأس أي روائي أو فنان بالأسئلة الكبرى، ليس حول الرجل في حدّ ذاته، بل حول معضلة الشرّ نفسها.

"عملية هاس"

لم يكن رودولف هاس (الذي بنى عليه أميس شخصية بطل روايته بول دول) قائد معسكر أوشفيتز خلال سنوات الحرب العالمية الثانية فحسب، بل إن فترة العام التي أمضاها بعيدا من المعسكر، جاءت في سياق ترقيته للإشراف على جميع معسكرات الاعتقال والإبادة النازية، مما يجعل دوره ومسؤوليته مضاعفين، إن كان لكلمات مثل "دور" أو "مسؤولية" أي معنى أمام هذا الحجم الكوكبيّ من الشرّ، بل إن هاس هو من استنبط فكرة القتل بالغاز، وذلك كوسيلة لتعويض عجز المحارق عن استيعاب الأعداد الهائلة من اليهود (وسواهم) المطلوب التخلص منهم، إلى درجة أن يطلق اسمه على العملية الهادفة إلى القضاء على كل هذه الأعداد، "عملية هاس"، وهي العملية التي استأنف مباشرتها لدى عودته إلى معسكر أوشفيتز خلال العام الأخير من الحرب، والتي جرت فيها عمليات القتل بوتيرة متسارعة حدّا فاق قدرة المحارق على استيعابه، فصارت عمليات حرق من يموتون بالغاز تجري في الخارج للتخلص من الأعداد الهائلة من الجثث.

مقاربة جوناثان غليزر ليست سيرية تقليدية، بقدر ما تحفر في معنى الجريمة، وفي تجليات الشرّ

رودولف هاس، شأنه شأن جميع القادة النازيين والفاشيين وقائدهم أدولف هتلر، كما غيرهم من القتلة الجماعيين على مرّ التاريخ، لا يعود مجرد فرد تُروى سيرته، وليس هناك معنى على أيّ حال في سرد هذه السيرة على بعد ثمانية عقود من الإبادة، فهو يمثّل شيئا أكبر منه ومن رتبته العسكرية أو الدور المحدّد الذي قام به. مقاربة المخرج البريطاني جوناثان غليزر لتناول رواية أميس بهذا المعنى ليست سيرية تقليدية، ولا هي مخلصة حتى للرواية إلا جزئيا، بقدر ما تحفر في معنى الجريمة، وفي تجليات الشرّ (والخير الذي يظهر في لمحات دالّة)، وفي جوهر الإبادة، بوصفها نهجا وخيارا يتجاوزان الأفراد مهما علت رتبهم أو فدحت جرائمهم. هكذا، لا يختار غليزر كذلك أن يعرض الضحايا وما تعرّضوا له في المعسكر المشؤوم، بل أن يعرض الجانب الآخر من المعسكر، ذلك البيت الواسع، بيت الجلاد وأسرته، الذي يضجّ بالحياة، ليصبح – أي البيت - وحديقته وبركة السباحة فيه، استعارة عن العالم برمته. العالم الذي كان يواصل عيشه في جوار الإبادة وبالتزامن معها.

تغافل العالم

في أحد فصول الفيلم المهمة، تزور والدة الزوجة (هدويغ، تؤدي دورها باقتدار لافت ساندرا هولر) ابنتها لتقيم بضعة أيام. وإذ يتبيّن لنا أنها لا تختلف من حيث تحيّزاتها وعنصريتها تجاه اليهود الذين منهم من كنّ جارات وربما رفيقات لها قبل الحرب، عن ابنتها وصهرها وبقية النازيين، إلا أنها تجد نفسها غير قادرة على احتمال شيء هي نفسها لا تفهمه. لا تحتمل الرائحة المنبعثة من المحارق، ولا الدخان، والأهم ذلك الهدير الدائم للمحرقة وهي تضطرم بجثث الضحايا، فتقرّر فجأة مغادرة بيت ابنتها والعودة إلى مدينتها، دون حتى أن تخطر أهل البيت بهذا الرحيل. ما لم تحتمله الأم ليس معرفة ما يحدث من أعمال الإبادة، فهي تعرف به أو على الأقلّ تخمّن حدوثه من الأقاويل والشائعات، بل أن تكون، جسديا، على هذه المقربة منه، وهو ما يحرمها النوم في بيتٍ كل شيء فيه مريح يوحي بالطمأنينة والهناء. لا تعلّق الأم، ولا تحتج، بل تهرب فحسب. والهرب هو أيضا جزء من سلبية وتغافل كانا من سمات العالم (أوروبا) زمن المحرقة.

Alamy
عائلة هاس في حديقتهم المجاورة لمعسكر أوشفيتز في "منطقة الاهتمام"

لم تكن حرب غزة قد وقعت، حين أنجز غليزر فيلمه وعرضه، ولا كانت تهمة الإبادة وجهت إلى إسرائيل بعد مقتل وإصابة وتهجير عشرات آلاف الفلسطينيين، معظمهم من المدنيين والأطفال، إلا أن هذه الحرب وما ألقته وتلقيه جرائمها من عبث ثقيل على ضمير العالم، هو مما لا يمكن التغاضي عنه عند مشاهدة "منطقة الاهتمام"، مع المفارقة المؤلمة، وهي أن أحفاد ضحايا محرقة الأمس، هم من يرتكبون (وفي الحدّ الأدنى يحتفلون أو يغضون الطرف) ما يحصل لبشر مثلهم على الجانب الآخر من السور (جاءت كلمة مخرج الفيلم غليزر خلال تسلمه جائزة أوسكار أفضل فيلم أجنبي الإثنين لتعبّر تماما عن هذا المعنى) . ولعلّ حادثة حرق الطيار الأميركي آرون بوشنيل نفسه أمام السفارة الإسرائيلية في واشنطن العاصمة، احتجاجا على هذه الحرب، ورسالته التي يشرح فيها سبب قيامه بذلك، خير تعبير عما يحاول "منطقة الاهتمام" قوله، وليس من قبيل العبث أن يستدعي بوشنيل أمثلة التاريخ ليدين الصمت بوصفه نوعا من أنواع التواطؤ. ماذا لو كنا نعيش في ذلك الزمن؟ ماذا كنا سنفعل؟

فردوس وجحيم متجاوران

حين يصدر قرار نقل الزوج (يؤدي دوره كريستيان فريدل) إلى برلين، ترفض الزوجة المغادرة معه. فقد أمضت أربع سنوات في بناء هذا الفردوس الذي تعيش فيه حاليا، وأولادها سعداء وأصحّاء، كما أنها تحفظ اسم كل شجيرة ونبتة في حديقتها، فكيف تفارق هذا البيت، الذي من المرجح أن يكون في الأصل ملك عائلة بولندية، ربما تكون يهودية أيضا؟ تدافع عن البقاء في البيت ويكون لها ذلك، وتأتي مسألة البيت برمتها في تباين صارخ مع مئات آلاف الحيوات التي تباد على بعد عشرات الأمتار فحسب. إلا أن الفكرة هنا لا تقف عند حدود الإدانة أو تعيين المفارقات والتباينات، بقدر السعي إلى رسم حدود ملموسة – في أمل الفهم – للإنكار. إنكار من هذا النوع وبهذا الحجم المروّع لا يحتاج إلى تحايل على الضمير، واحتجاج ربما بالظروف وضيق ذات اليد، على نحو ما نفعل اليوم مثلا أمام واقع الفقر المدقع الذي تعيشه بعض البلدان أو تشرد مئات آلاف البشر واضطرارهم إلى العيش في الشوارع، أو عمالة الأطفال أو الإساءة الى النساء إلخ، وغيرها من ويلات يحفل بها عصرنا. فإنكار إنسان لمذبحة تجري وقائعها أمام ناظريه يحتاج ببساطة إلى أن يتخلى عن إنسانيته في المقام الأول.

المفارقة المؤلمة هي أن أحفاد ضحايا محرقة الأمس، هم من يرتكبون ما يحصل لبشر مثلهم على الجانب الآخر من السور

السردية الخفية في "منطقة الاهتمام" (هنا تحديدا تتقاطع الرواية مع الفيلم) هي تلك المتعلقة بمن دفعتهم أفكار التفوق العرقي إلى أن يعيشوا بالفعل وهم أنهم أكثر تفوقا من سواهم، بل الأكثر تفوقا من الجميع. ولعلنا نجد صدى هذا الإدراك (الآتي مباشرة من مأساة الهولوكوست) في المخاوف التي أعرب عنها مفكّر إسرائيلي بشهرة يوفال هراري، في مقابلة قبل أيام مع "سكاي نيوز" عن خشيته من أن "من يحكمون إسرائيل اليوم ليسوا من أتباع الصهيونية العلمانية التي أسست إسرائيل، بل من يتبنون أفكار التفوّق اليهودي"، وهذا بحسبه مصدر الخطر الحقيقي على وجود إسرائيل نفسها. غرويغ، زوجة الضابط النازي، تستمتع بالملابس والحلى وحتى أدوات الزينة، التي نهبت من نساء يهوديات، بل وتوزّع بعضا منها على خادماتها "لسن يهوديات لكنهن من البنات المحلّيات"، كما تطمئن أمها. لا حاجة إلى القول بماذا تذكر أعمال النهب هذه في أيامنا هذه.

بالتالي، فإن ما يرويه "منطقة الاهتمام" هو كيف يتحوّل البشر جزءا من الآلة التي بنوها بأنفسهم إن لم يكونوا عبيدا لها. في أحد المشاهد نرى الضابط النازي هوس، مجتمعا بضباط آخرين، بينهم مهندس يشرح له أمام خريطة توضيحية طريقة عمل المحرقة الجديدة التي ستبنى في أوشفيتز. يبدو الجمع أقرب إلى جمع من العلماء الذين يتحدثون في مسائل عملية، بناء جسر مثلا، دون أن يكون لغرض استعمال هذه المحرقة، أيّ وطأة عليهم. في مشهد آخر، يجتمع معظم قادة معسكرات الاعتقال إلى طاولة واحدة، ويوضع أمام كلّ واحد منهم، ملف يشرح المهمة، التي هي بكلّ  بساطة زيادة وتيرة أعمال الإبادة. لا مكان هنا إلا للمسائل العملية، أما موضوع النقاش نفسه، فيبدو منتهيا قبل أن يبدأ. وإذ يشرف الضابط هوس من الأعلى على قاعة حفل استقبال للضباط النازيين في برلين، فإن كلّ ما يستطيع التفكير فيه، كما يقول لزوجته هاتفيا تلك الليلة، هو ماذا لو كانت تلك القاعة غرفة غاز. حتى الزوجة (والأم) تصبح خاضعة لآلة الإبادة هذه سعيدة بـ"الثمار" التي تعود بها عليها وعلى أطفالها.

سيرة الفظاعة

يخرج غليزر، مؤلفا ومخرجا، من نطاق رواية أميس وخطوطها السردية وشخصياتها المختلفة، ليمضي إلى قلبها مباشرة. القضية لا تعود قضية زوجين وخيانة وشهوة وجريمة قتل كما في الرواية. القضية هي محاولة تجسيد الفظاعة التي تتجمّع عندها كلّ المرويات الأسطورية والدينية والحكايات الشعبية المخيفة، والوقائع الإنسانية المرعبة، وصولا إلى لحظة الهولوكوست.

 كأن الصوت، النغمات الرتيبة المهدّدة وهسيس النار وهي تطحن الأجساد، هو الراوي الحقيقي في الفيلم

كان كريستوفر نولان في "أوبنهايمر" الذي فاز بنصيب الأسد من جوائز الأوسكار بما فيها جائزتي أفضل إخراج وأفضل فيلم وأفضل ممثل، قد اختار المنحى نفسه، فلم يسع إلى إنجاز سيرة صاحب القنبلة إلا لسرد سيرة القنبلة نفسها، ولتجسيد لحظة الفظاعة عينها، في فصل آخر من فصول الحرب نفسها. وليس من قبيل المصادفة أن الصوت – موسيقى ومؤثرات – يؤديان دورا جوهريا واحدا في هذين الفيلمين (من إنجاز المؤلف الموسيقي لودفيغ غورانسن ومصمم الصوت ريتشارد كينغ في "أوبنهايمر" والمؤلف ميكا ليفي ومصمم الصوت جوني بيرن في "منطقة الاهتمام"). فكأن الصوت، النغمات الرتيبة المهدّدة وهسيس النار وهي تطحن الأجساد، هو الراوي الحقيقي أو ما يسمى في لغة الرواية "الراوي العليم"، إنه الذي ينذرنا بأن ثمة شيئا رهيبا يقع أو على وشك أن يقع، وهو الذي تتجسد من خلاله الأجواء الجحيمية في الفيلمين.

font change

مقالات ذات صلة