هالة غوراني في سيرتها: قصة النساء العربيات اللواتي يكسرن الحواجز

صدرت لها أخيرا "ولكنك لا تشبهين العرب"

FACEBOOK
FACEBOOK

هالة غوراني في سيرتها: قصة النساء العربيات اللواتي يكسرن الحواجز

كثيرا ما سمعت هالة غوراني، الصحافية العربية الأميركية المشهورة عالميا، هذه الجملة على مدى عقود: "ولكنك لا تشبهين العرب". وبعدما قررت أن تتنحى عن برنامجها الخاص، "هالة غوراني الليلة"، الذي يعنى بالشؤون العالمية على قناة "سي إن إن" العالمية، عملت على تحويل قصة حياتها إلى مذكرات صريحة على نحو منعش ومشوق، وأعطتها كعنوان هذه العبارة المتكررة ذاتها: "ولكنك لا تشبهين العرب". أكثر ما لفتني في هذا الكتاب هو استفاضته في الحديث عن التمثيل العربي في المجال الدولي العام، ولا سيما تمثيل المرأة العربية وما تواجهه من حواجز كثيرة بسبب عرقها وجنسها.

الكتاب سلسلة من المقالات القصيرة التي تنسج فيها غوراني رحلتها الشخصية مع قصص من الشرق الأوسط ومع عالم الصحافة الدولية. وهو يلقي الضوء على الجبهات الثلاث تلك. ففي قلب الكتاب يحتل بحث غوراني عن الهوية والانتماء مركزا متقدما. ولدت غوراني لأسرة عربية سورية مقيمة في الولايات المتحدة، ونشأت في المقام الأول في فرنسا، ثم عملت على المستوى الدولي، بما في ذلك في المملكة المتحدة، حيث يشكل بحثها عن الوطن إحدى القوى الدافعة لها في حياتها.

بين هويتين

كثر هم العرب الذين يعيشون في بلدان خارج العالم العربي ويشعرون بالاندماج الكامل فيها، ولا يؤرقهم سؤال من هم أو من أين ينحدرون. وكثر أيضا من لا يعيشون هذه التجربة. تتحدث غوراني في الكتاب عن مدى انزعاجها من أقاربها في سوريا الذين دأبوا على مناداتها بـ"هالة الأميركية" كلما زارتهم وهي طفلة صغيرة. كانت تشعر في سوريا بأنها "آخر"، تماما كما كانت تشعر في الولايات المتحدة وفرنسا. على الرغم من أن غوراني لا تدعي الحديث باسم أحد غير نفسها، إلا أن بحثها عن وطن يتردّد فيه صدى ما يشعر به عرب الشتات بأنهم ليسوا من هنا ولا من هناك.

غوراني لا تقدم الغرب في كتابها كمكان واحد، بل تسلط الضوء على الفرق مثلا بين الولايات المتحدة وفرنسا بوصفه فرقا بين عالمين

اضطرت غوراني في البداية إلى إخفاء أصلها حتى تتمكن من متابعة عملها الصحافي في فرنسا. وتصف أنها عندما بحثت عن عمل هناك في وقت مبكر من حياتها المهنية، لم تكن تذكر إتقانها العربية كمهارة لغوية ضمن سيرتها الذاتية وكيف كانت تحرص على إرفاق صورة شخصية لها – التي لا تبدو فيها أنها عربية – كي تخفي أصلها وتتجنب بالتالي أن تقع ضحية للتمييز. كما أنها غيرت كنيتها من إبراهيم باشا إلى غوراني – وهي كنية والدتها قبل الزواج - لأن لفظ كلمة Gorani لها جرس أوروبي أكثر. ونجح هذا التكتيك وانطلقت مسيرتها الصحافية.

من الملاحظ أن غوراني لا تقدم الغرب في كتابها كمكان واحد، بل تسلط الضوء على الفرق مثلا بين الولايات المتحدة وفرنسا بوصفه فرقا بين عالمين. ولكن على الرغم من ذلك، فإن  شعورها بأنها مضطرة إلى إخفاء عروبتها يوضح ما يواجه العرب من تحديات في الغرب عموما.

التصالح مع الذات

استغرقت غوراني سنوات حتى توصلت في النهاية إلى شعور بالقبول والتصالح مع أصلها وإرثها، تتذكر في كتابها بسعادة فترة تقديمها برنامج "من داخل الشرق الأوسط" على قناة "سي إن إن"، فسافرت إلى جميع الدول العربية لتعد تقاريرها عن غنى هذه الدول الاجتماعي والثقافي. وتعتقد أنها شعرت بأن عليها أن تستخدم الصورة النمطية التي يبدو عليها العربي حتى تتمكن من تحدي التحيز الغربي وأحكامه المسبقة. غير أنها تقول أيضا إن الغربيين ليسوا وحدهم، بل إن العرب أنفسهم أيضا، أخبروها في بعض الأحيان أنها لا تبدو عربية.

من يعرف سوريا جيدا يعرف أن نسبة ليست قليلة من شعبها هم من ذوي البشرة الفاتحة والشعر الأشقر والعيون الزرق مثل الغوراني. ولعل الغربيين يقيمون الغوراني استنادا إلى الصورة النمطية التي يحملونها عن العرب بوصفهم داكني البشرة ومحافظين. لكن ما يوحد الغربيين والعرب في هذا التعليق، هو الشعور المضلل بأن غوراني تشكل انحرافا عن القاعدة المتصورة. وهنا تتجاوز المسألة المظهر الجسدي البسيط. لأن القاعدة النمطية في هذه الحالة أن صوت المرأة العربية غائب عن مجال الإعلام الدولي. "أنت لا تشبهين العرب"، تعني أيضا "أنت شخصية بارزة في مجال الإعلام الدولي، لذا لا يمكن أن تكوني عربية لأن العرب، وعلى الأخص نساءهم، غير مرحب بهم هناك". وهذا التصور ليس دقيقا.

ينبغي عدم الاستهانة بإنجازات غوراني. فهي واحدة من أبرز النساء من أصل عربي بظهروها كمذيعة في قناة إخبارية دولية في الولايات المتحدة ولا تزال تعمل في شبكة إخبارية كبرى (إن بي سي) حتى اليوم. وقد تألقت في مسيرتها المهنية بفضل تغطيتها الشجاعة للانتفاضة المصرية عام 2011 ومن ثم تغطيتها للصراع السوري، وهو ما أهلها للفوز بجائزة "إيمي" عام 2012.

لكن غوراني تدرك أنها ليست وحيدة في هذا المجال. ولحسن الحظ، كان تميز المرأة في وسائل الإعلام العربية سمة من سمات هذا المشهد طوال عقود من الزمن، بينما يوجد اليوم العديد من النساء العربيات البارزات في وسائل الإعلام الغربية الدولية اللاتي يشغلن مناصب مديرات ومحررات ومراسلات. ويساعد تقدير إنجازاتهن والاحتفاء به في التغلب على الصورة النمطية الخاطئة أن العرب لا مكان لهم في البيئة الإعلامية الدولية.

شجاعة شخصية

ما يكشفه الكتاب عن المستوى الذي بلغه تفكيرها الشخصي هو أحد جوانبه الفريدة: فليس من الشائع أن تكتب امرأة عربية تعمل في وسائل الإعلام الدولية مذكرات منفتحة كهذه. وهي لا تزعم في هذه المذكرات أن رحلتها الفردية تمثل تجارب العرب في الشتات، لا في مجال الإعلام الدولي ولا في غيره. فهي تركز بشجاعة على قصصها الشخصية - قصص التحدي والنجاح، وأيضا قصص ضعفها وهشاشتها في مواقف معينة واتخاذها قرارات مشؤومة، كاشفة بذلك نموها الشخصي أثناء التعلم ومضيها قدما. هذا تواضع مفعم بالقوة. كما لا تدعي أنها بطلة عربية. إنما أرادت أن يلهم كتابها الجيل الجديد من الصحافيين، وعلى الأخص النساء العربيات، عندما تشاركهم رحلتها الشخصية بصدق.

ما يتسم به الكتاب من انفتاح أمر هائل، لأن البيئة السائدة للأسف تظل بيئة ينبغي للمرأة العربية أن تخطو فيها بحذر في ما تكشفه علنا خشية أن يُؤخذ ضدها. الأمر ليس متعلقا بالعروبة فحسب، بل بالجنس أيضا، حيث تظل كلمات المرأة وسلوكها ومظهرها خاضعة لتدقيق أكبر بكثير مما يخضع له الرجل.

  قرار المرء بأن يكشف روحه بشجاعة يعني كسر المزيد من الحواجز. وهذا يتوافق مع السلوك المهني الذي اشتهرت غوراني به

سألت غوراني عن ذلك في حفل توقيع كتابها في لندن، فردّت بتواضع مازحة قائلة: "بعد الخمسين، كفي عن الاهتمام بذلك". ولكن من الواضح أن قرار المرء أن يكشف روحه بشجاعة يعني كسر المزيد من الحواجز. وهذا يتوافق مع السلوك المهني الذي اشتهرت غوراني به. وتؤكد في كتابها أهمية تأكيد الذات، فتكتب في نهايته: "منهجي في المقابلات التلفزيونية هو عدم التردد مطلقا وعدم إخبار نفسي أبدا أن من هو أمامي أذكى مني، حتى لو كان أكثر كفاءة. فأنا لست في موقع دوني مطلقا".

لذا، لعل التحدي التالي الذي يواجه التمثيل العربي ــ وخاصة تمثيل المرأة العربية ــ لا يقتصر على مجرد الحضور على نحو بارز في المجال الدولي العام، بل التعرف الفاعل الى من هم حاضرون أو كانوا حاضرين، وعدم الوقوع في فخ رؤية الغياب المتصور بوصفه القاعدة، ومساعدة الحاضرين على كسر الحواجز أمام ما يستطيع الصوت العربي والأنثوي منه على الأخص، أن يقوله علنا عن رحلته الشخصية، حيث لا تعد مشاركة أحد منهم إنسانيته مؤشرا الى ضعفه، بل إلى قوته.

font change

مقالات ذات صلة