تفصل ورقةٌ رقيقة بين التاريخ والحاضر. يقول اللورد رودريك بلفور، وهو يرفع نسخة مصوّرة من رسالة تعود إلى العام 1917 التي ساهمت في إعادة تشكيل الشرق الأوسط وما زالت تشعل المشاعر من غزة إلى عواصم ومدن عربية وغربية: "هذه هي الورقة التي بدأت كل شيء".
في ذكرى اعلان وزير خارجية بريطانيا آرثر بلفور "الوعد" في 2 نوفمبر/ تشرين الثاني 1917، يتنقل "حفيد بلفور" في حواره مع "المجلة" داخل منزله في لندن، من ذكريات العائلة إلى أكثر القضايا تعقيدا في الحاضر: الضفة الغربية وغزة، هجمات السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 التي مرت ذكراها الثانية، وموجة الاعترافات الدولية الأخيرة بدولة فلسطين و "حل الدولتين".
لا يدّعي أنه "مؤرخ أو محام"، لكنه يحمل إرثا لا يعرف عمقه إلا القليل من العائلات. فهو حفيد آرثر بلفور شقيق وزير الخارجية البريطاني في زمن الحرب، ويحمل اسما يعرفه العرب جيدا، وأحيانا أكثر مما يرغبون، إنه "وعد بلفور". يضاف الى ذلك، أن جده صديق "لورانس العرب". ولاشك ان بلفور ولورانس، لعبا قبل حوالى مئة عام، دورا في رسم خريطة الشرق الأوسط الراهنة.
من طفولته، حيث كانت نسخة من "إعلان بلفور" معلقة "على ظهر باب المرحاض"، إلى لقائه بالوثيقة الأصلية في المتحف البريطاني، ثم مشاركته في فعاليات مرور مئة عام على صدورها قبل ثماني سنوات، عاش اللورد بلفور طويلا في ظل هذا النص التاريخي. وهو يرى "الوعد" رسالة صاغتها ظروف الحرب العالمية الأولى، وضغوط جماعات الضغط اليهودية عبر الأطلسي واليهود الذين نزحوا من أوروبا الشرقية.
ومع ذلك، فهو يصرّ على بند منسي، وهو التعهد بعدم المساس بـ"الحقوق المدنية والدينية للجماعات غير اليهودية المقيمة في فلسطين". بالنسبة إليه، ذلك البند في الوعد ليس هامشيا بل أساسي، لكنه "أُهمل مرارا وتكرارا" وخصوصا جراء توسع المستوطنات في الضفة الغربية.
يتنقل الحديث في أكثر القضايا تعقيدا في الحاضر. يتحدث بلفور بحذر، لكن دون مراوغة. فهو يؤيد "حل الدولتين" كغايةٍ نهائية، لكنه يتساءل عن جدوى الاعتراف في غياب حدود متفق عليها، ومؤسسات فاعلة، وقيادة مسؤولة، مع اقراره ان الاعتراف "خطوة رمزية". وهو صريح في معارضته لتوسع المستوطنات في الضفة الغربية، واصفا إياه بأنه "يتناقض مع روح" الوعد الذي قدمه "عمه الأكبر". كما يؤكد أن "القراءة الدقيقة للنص تغيّر فهمنا للمسؤولية وضبط النفس، وللالتزامات تجاه الفلسطينيين كما تجاه اليهود".
وإلى صلة القرابة مع بلفور، هناك صلة مع شخص بريطاني آخر ساهم في تغيير خريطة الشرق الأوسط على أنقاض "الرجل المريض"، الإمبراطورية العثمانية قبل أكثر من مئة سنة. ويمتزج التاريخ الشخصي بالسياسة في حديثه. فيتذكر جده فرانسيس بلفور، الذي كان "عربيّ الهوى" وخدم في المنطقة، وتعرّف إلى شخصيات مثل توماس لورانس أو "لورانس العرب" الذي دعم العرب لـ "الثورة" ضد العثمانيين.
يتحدث بمحبة واضحة تجاه الثقافات العربية، وبإحباط من أن الوعد يُستشهد به كثيرا دون أن يُقرأ فعليا. يقول: "الناس يحتجون على الرسالة، لكنهم لا يقرؤونها". وبالنسبة إليه، الجدل الدائر حول اسم العائلة لا يمكن فصله عن نقاشٍ حول دقة الكلمات، والتحذيرات التي أُهملت، والعواقب التي تلت ذلك.
جلست مع اللورد رودريك بلفور في شقته في لندن في بداية اكتوبر/تشرين الاول، لاختبار قوة صفحة واحدة، وحدودها في هذه اللحظة المهمة في تاريخ الشرق الأوسط، على وقع خطة الرئيس دونالد ترمب لوقف حرب مجنونة في غزة وجهود لإحياء "حل الدولتين" واتساع مروحة الاعتراف بدولة فلسطين إلى 157 دولة.

هذه المقابلة لا تمجّد وثيقة، ولا تختزل قرنا من السياسة بين الخيبات والطعنات. والأسئلة والإجابات قد لا ترضي الجميع، لكن قد تساعدنا على إدراك ما إذا كانت أكثر الرسائل جدلا في التاريخ لا تزال قادرة على إضاءة طريق نحو "حل الدولتين" و"دولة فلسطينية" وسلام مستدام. وهنا نص الحوار:
* ما هذه الورقة التي تحملها؟
- إنها نسخة من الرسالة التي بعث بها مجلس الوزراء البريطاني، ممثلا في وزير الخارجية آنذاك آرثر بلفور، إلى اللورد (ليونيل دي) روتشيلد، الذي كان بطبيعة الحال من أبرز الشخصيات اليهودية في إنكلترا، وذلك عقب ضغوط كبيرة. لست مؤرخا ولا قانونيا، لذا أرجو أن لا تحاول دفعي إلى الإدلاء بتصريح قد لا يكون دقيقا تماما. ما أعلمه أن هناك ضغوطا عديدة مورست، وكان الموضوع مرتبطا بالولايات المتحدة وبالحرب العالمية الأولى. وبالطبع، تعود المسألة إلى قضية الهجرة، التي كانت، ولا تزال، معضلة كبرى.. الهجرة واللاجئون. العالم يتقدم، لكنه لا يتغير في جوهره كثيرا.





