الوطن والدولة والعلاقة الجدلية بينهما

الدولة التي يستشري فيها الفساد تكون بالتأكيد فاشلة وغير قادرة على الوفاء بحاجات ومتطلبات المجتمع

أ.ف.ب/المجلة
أ.ف.ب/المجلة
علم سوري كبير يرفرف فوق حديقة تشرين في دمشق في 4 يونيو 2025.

الوطن والدولة والعلاقة الجدلية بينهما

الوطن هو الأرض والانتماء والحياة والانتساب، وهو حالة من تقاسيم الحياة وروحها، وهو المكان الذي يرتبط به الإنسان روحيا وثقافيا وجغرافياً. وهو ليس مجرد قطعة من الأرض، بل هو المكان الصغير والمتسع الذي يعيش وينشأ فيه الإنسان، ويشعر بالانتماء إليه، ويشمل قضايا مادية وأخرى معنوية، ومن هنا جاءت كلمة وطن.

وهو الهوية والانتماء الذي يربط الإنسان بأرضه، وبشعبه وتاريخه، ويتكلم بلغته، ويهتم دائما بالشعور والحنين له، لأن الإنسان هو نتاج بيئته ووطنه، وارتباطه بأرضه وشعبه وتاريخه وثقافته. والوطن ذلك المكان الذي ترعرع فيه الإنسان وتكاثر فوق أرضه وتزايدت أجياله جيلا بعد جيل، ونما الحب له مع تتابع هذه الأجيال، وهو الذي يشعر فيه أن له قيمة مادية ومعنوية وله ارتباط عضوي لكل ما فيه، فهو ينتمي لسكنه ولبيته وقريته، ولمدنه والبوادي التي فيه، ومناظره الخلابة من غابات وجبال شامخة، وصحرائه الواسعة ورماله وواحاته وبساتينه، وما تطرحه الأرض، وما تعطيه الحياة الفطرية من مزايا لهذه الأرض، وكلٌّ يهوى وطنه كما يحب ويشتهي، ولا مقياس محددا لمعرفة موجة الانتماء والحب والعشق لهذا الوطن من ذاك، فكل وطن له محبوه، وله عاشقوه، وله مريدوه، وله من يتحسس لشعور داخلي محبة ومودة ولا يريد غيره بديلا.

والأوطان هذه تحكمها علاقة غير مفهومة ولا يمكن حتى قياسها، ولكن يمكن التعبير عنها لأنها ذات خصوصية تختلف من شخص لآخر، ومن مجموعة لأخرى، ولكن حب الوطن هو إيمان داخلي، يحس به من لديه قابلية الانتماء ومحدداته متوارثة ومتعايشة، وليست ذات نسق واحد أو مدلولات واحدة، فلكل وطن شعبه، ولكل شعب وطن، وهو حالة واستمرارية، وتتعلق إما بالفطرة، أو مكتسبة، واستمرارية هذا تكون على الدوام، ولأن من الضرورة أن يشعر الإنسان والناس أن لهم أوطانا يحملون جيناتها الوراثية، ويزدادون تألقا بها وشعورا دائما بأنها هي، وهي تلك العلاقة الدائمة بين الإنسان وبيئته مهما امتد به الاغتراب، ولا يتم تقدير الوطن والحنين إليه إلا في حالة الاغتراب أو البعد أو الفقدان، ولكن ما أصعب أن يفقد الإنسان وطنه لأن قيمته تهتز، وشعوره ينكفئ، وحياته تكون غير مستقرة، لأن الوطن يعطي للإنسان حالة الاستقرار، ويشعره دائما بأنه في خاطره، وفي حياته أنّى اتجه أو سافر، أو تغرّب، لذلك يقول الشاعر: ولي وطن آليت أن لا أبيعه/ وأن لا أرى غيري له مالكا.

حب الوطن حاجة غريزية ممتدة ومتجذّرة، والدفاع عنه قضية تسبق كل القضايا، وهي الآمرة والناهية

نعم الوطن هو كذلك. نعم الوطن هو الذي يشعر أبناؤه الذين ينتمون إليه بأنه ملكهم هم، وهم كذلك إلى قيام الساعة، ولذلك قيل "حب الوطن من الإيمان".

نعم حب الوطن حاجة غريزية ممتدة ومتجذّرة، والدفاع عنه قضية تسبق كل القضايا، وهي الآمرة والناهية، والتي يدفع الإنسان حياته وأغلى ما يملك في سبيلها. والوطن مهما قسى على الإنسان يظل عنده وفاء لوطنه، وتضحية من أجله، ولقد دافع الإنسان عن وطنه لأنه لا يريد أن يشعر بأنه يفقده، أو يرى القوى الأخرى هي التي تحكمه، ومن هنا كان الولاء للوطن أولا وأخيرا، ولذلك قال الشاعر:

بلادي وإن جارت عليّ عزيزة/وأهلي وإن ضنوا عليّ كرامُ

أ.ف.ب
طفل يحمل حوضا بلاستيكيا أثناء عودة النازحين الفلسطينيين إلى منازلهم في منطقة الزهراء، شمال مخيم النصيرات للاجئين في وسط قطاع غزة، في 14 أكتوبر 2025

نعم البلاد والأهل صنوان، لأن البلاد هي الوطن، والأهل هم الشعب. ومن هنا كانت الأوطان في ضمائر شعبها قوية وكبيرة، والشعب كمجموعة هو مالك الوطن، ويعيش فيه يمارس أعماله، ينهل من تاريخه ويستمد قوته من تطلع أبناء الوطن للعمل بوتائر عالية لكي ينتج هذا الوطن أو ذاك حبال المودة بين أفراده ومجموعته، وإذا كان الوطن عزيزا، فالشعب الذي يعيش فيه تراه عزيزا ومقدرا لوطنه وذا اعتزاز به.

أمام المواقف القوية للدول العربية والإسلامية، كانت خطة الرئيس دونالد ترمب ذات الـ20 نقطة، وتحقق وقف إطلاق النار مع بعض التجاوزات

وفي تاريخنا وحاضرنا، نجد أن هذا الوطن الصغير والكبير تعرض لأهوال وإلى احتلالات، وكانت بعضها قاسية ومؤلمة استهدفت الوطن بما فيه من حضارة والبشر والحجر والفكر، لكن بقي هذا الوطن عنوانا لمقاومة ممتدة منذ ألف عام، وجاء الغزاة خرّبوا ودنّسوا ووجدوا استحالة العيش في هذه الأوطان لأنها ببساطة ليست لهم، والغرباء دائما كانوا طارئين، والطارئون تلفظهم الأوطان، وأهله هم الباقون، وكانت بلادنا العربية مطمعا للغزاة عبر التاريخ، وأقاموا فيها ردحا طويلا من الزمن ولكنهم لم يستمروا، لأن للأوطان أصحابها، وإن كان هذا المحتل وذلك الغازي قد حقق الإقامة، وتربع على عرش الحكم، لكنه في النهاية زائل لا محالة، لأن أهل هذه الأوطان، سريعا ما يلمون شعبهم وتفرقهم، وسرعان ما يطردون هؤلاء الغزاة، ويبقى الوطن لأهله وناسه، والأمثلة كثيرة لا تعد ولا تحصى، لأن أمانة الأوطان معلقة في رقاب أهلها، فمن يتقاعس من جيل، ينطلق جيل آخر يحمل المسؤولية ويمضي، ولنا في أهل فلسطين خير مثال. هذا شعب استُلبت أرضه وجزء عزيز من وطنه، ولكنه منذ مئة سنة وهو يقاتل لم يستكن برغم حجم معسكر الأعداء، والملل الذي أصاب البعض، لكن كان قدره وقدر أجياله أن يستمروا، وبالطرق الكثيرة التي يعرفونها، لأن الوطن يحتاج لأهله وأهله هم من يزودون عنه.

ولعلنا نستطيع القول إن أهل غزة، واجهوا باللحم الحي صلف العدوان وعدوانيته التي تناولت الأرض والإنسان والأبنية والبنية التحتية والطرقات، وقامت بأبشع أنواع القتل والترحيل مرة جنوبا وأخرى شرقا وثالثة غربا وأتبعتها بسياسة التجويع التي كانت قاسية على الأطفال والنساء والرجال وشملت كل أهل غزة، ودمرت المشافي وبيوت العبادة، واستخدمت كل ما يخطر على بال البشر من وسائل التدمير والقتل، والهدف كان احتلال غزة وطمس القضية الفلسطينية، وإنهاء فلسطين ودولة لشعب فلسطين، والإمعان في التهجير القسري، وتقديم الإغراءات بجانب القتل، والضغط لإيجاد موطئ قدم لملايين الفلسطينيين في مصر أو خارجها، وفي الأردن وخارجها، حتى إنها اتصلت ببعض الدول الأفريقية لإقناعها بقبول أهل غزة، وربما الضفة الغربية، وبعض الدول الآسيوية.

أ.ف.ب
فلسطينيون يتجهون إلى مدينة غزة عبر "ممر نتساريم" من النصيرات وسط قطاع غزة في 11 أكتوبر 2025.

لكن كل هذه الأهداف المتوخاة من هذه الحرب، مدانة من قبل محكمة العدل الدولية ومن مجموعات الدول في العالم، ومواقف الدول العربية كما في المملكة العربية السعودية وقطر والإمارات ومصر والأردن. وكان الصبر العظيم لأهل غزة، الذين هم تحت النيران، وكانت المفاجآت الكبرى للعدو هي تتابع الدول للاعتراف بالدولة الفلسطينية التي وصلت إلى 160 دولة، وكان للدور السعودي الهام بالتعاون مع فرنسا، وتتابع الدول الأوروبية كإسبانيا وأيرلندا والمملكة المتحدة وبلجيكا والبرتغال وأستراليا وكندا وغيرها، والحشود الجماهيرية في الولايات المتحدة الأميركية التي تنادى فيها جيل الشباب للقيام بأوسع المظاهرات في الجامعات وفي المدن الرئيسة، وكذا الأمر في باريس ولندن وبرشلونة ومدريد وأيرلندا والبرازيل والمكسيك والإكوادور، وقيام البرلمانات ورجال الفكر في أوروبا وأميركا الشمالية والجنوبية لدعم أهل غزة، وموقف المملكة العربية السعودية والدول العربية لنصرة الحق الفلسطيني الذي طال عليه الأمد، واستمر العدوان يمارس أقسى أنواع الحروب ضد الشعب الذي يتمسك بحقه في الحياة داخل وطنه فلسطين (غزة الصابرة، والضفة التي كاد يأكلها الاستيطان).

وأمام المواقف القوية للدول العربية والإسلامية، كانت خطة الرئيس دونالد ترمب ذات الـ20 نقطة، وتحقق وقف إطلاق النار مع بعض التجاوزات، والخطوة التالية تبادل الأسرى، ولكن إسرائيل، كما يعلم الجميع، تمارس المناورة هنا وهناك، غير أنه بالضغط الأميركي المدعوم عربيا وإسلاميا، سوف تتحقق بقية بنود المبادرة، ولعلنا نرى أن أهل غزة متمسكون بوطنهم، رغم كل ما حل بهم، فقد جاء صبرهم ليعطي قيمة ومعنى لشعب يتمسك بوطنه، ويعليه على كل شيء. فالأوطان مقدسة، والحفاظ عليها قيمة معنوية لها علاقة بالانتماء والقداسة.

فلسطين كلها لأهلها، وغزة هذه لأهلها، ولو طال المسير. نعم الأوطان غالية، والانتماء إليها عزيز

وحب الوطن هذا نابع من أن الناس لا يريدون عن أوطانهم بديلا، لأن هذه صفة ملازمة لكل الناس، فحيث كان لهم وطن، أرض وسماء، يشعرون دائما بالانتماء، وأن عملية الانتماء هذه لا تفسير لها، إلا أنها ملازمة لتعلّق الشعوب بأوطانها، ولنا في غزة بعد وقف إطلاق النار والانسحاب الجزئي هذا، وفتح طريق الرشيد الساحلي وطريق صلاح الدين الجزئي، يعطينا ملخصا مفاده أن هذا الفلسطيني يشد الرحال مشيا على الأقدام حيث كانت هجرته الإجبارية من قبل الاحتلال نحو جنوب الجنوب من غزة، إلا أن أهل غزة من مدينة غزة وخان يونس ومن المدن الأخرى أتيح لهم أن يرحلوا إليها وباشروا الرحيل، شعثا غبرا حفاةً، يحملون بعضا من أسمالهم ومتاعهم بعد أن قاسوا الأمرّين خلال سنتين وفقدوا أحباءهم، وعائلات بكاملها تم قتلها، ويقف الغزاوي بكل حماسة ليقول، ها أنا ذا أعود إلى الدار التي وجدها مهدمة، وكومة ركام، ولكنه يحنّ لأرضها، وما حولها. ويعود من فقد من أبناء وإخوة وأخوات، ويعلن أنه سينصب خيمة على أطلال منزله، وتحت شقته التي كانت، ليشعر أنه هنا في مكانه الصحيح بعد رحلة التشرد والمعاناة التي عاشوها خلال سنتين من منطقة لأخرى مع الجوع والعطش، ونقص في الأنفس والأموال والثمرات وبشّر الصابرين. نعم هذا هو الوطن الذي يحتوي هؤلاء ويضمهم إلى صدره، كما الأم الحنون تضم أبناءها وتربّت على أكتافهم. إنه الوطن الأرض والمياه وساحل البحر والمقابر والأشجار والحياة الكاملة والدفء فيها برغم ما حل من دمار لأكثر من 90 في المئة من المباني التي كانت تعج بسكانها، بيوت أنيقة وشقق فاخرة بناها أهل العزة، وكانت تزخر بالحياة، مفعمة بالأمل. وها هم يعودون إلى أرض يباب وكومات من البلوك والحديد، وتختفي معظم البيوت هذه، ومعالمها تغيرت، صب عليها المحتل أكثر من 200 ألف طن من المتفجرات في محاولةٍ لطمس معالم مدن ومناطق كانت حيوية وذات مجالات للسكن والتقارب والتزاور. نعم كانت. وهذا المواطن يثق ثقة مطلقة أنه سيعيدها، لأنه لا يرى غيرها بديلا، ذلك هو الوطن، البيت الصغير، والشقة الصغيرة التي كانت. والأرض التي تكومت عليها الأبراج السكنية، والشقق. هذا الفلسطيني يعشق وطنه، وها هو يعود.

أ.ف.ب
ناشطون ومؤيدون لفلسطين يلوحون بالأعلام ويحملون لافتات أثناء مسيرتهم في لندن، خلال اليوم الوطني للعمل من أجل فلسطين في 7 سبتمبر 2024

وما يشدُّ من أزر هذا الوطني الفلسطيني، الموقف الجماهيري الكبير في كل عواصم الدنيا، لأن هذه المظاهرات العظمى في لندن، في برلين، في باريس، في روما، وأماكن أخرى، ما كانت لتكون لولا هذا الفلسطيني الذي يمشي على أقدامه المتعبة مسافة 20 ميلا ليصل إلى حيث كان قبل هذه المأساة، ولو لم يشاهد هؤلاء الأطفال يحملون على ظهورهم الغضة بعضا من متاع لنقلها إلى حيث ولدوا هناك وترعرعوا وعاشوا، ويرى هذه المرأة الفلسطينية تحمل أطفالها وخيمتها البالية لتنصبها في أي بقعة قريبة من بيتها الذي كان. وهذا الشيخ الكبير الطاعن في السن يعلن للعالم كله أن الأوطان عزيزة وهي شرف وعزة، وأن الطريق إلى الأماكن المعتادة له دليل حيوية ودليل انتماء. ففلسطين كلها لأهلها، وغزة هذه لأهلها، ولو طال المسير. نعم الأوطان غالية، والانتماء إليها عزيز، وأن الوطن هو مكان الإنسان ومحله، وهو المكان الذي يرتبط به الإنسان، وتولدُ فيه هويته الوطنية، ولذلك قيل إن الوطن هو أغلى ما يعتزّ به الإنسان، لأنه مهد صباه، ومدرج خطاه، ومرتع طفولته، ومأوى كهولته، ومنبع ذكرياته، ونبراس حياته، موطن أبنائه وأجداده، وملاذ أبنائه وأحفاده (فالإنسان بلا وطن إنسان بلا هوية ولا ماضٍ أو مستقبل. وحب الوطن ليس عنه بديل، أرض الأجداد والآباء أرض الخير والبركة والعطاء.

ولذلك قال شوقي: وطني لو شغلت بالخلد عنه/نازعتني إليه في الخلد نفسي

وذلك لأن الوطن هو المكان الوحيد الذي يستشعر فيه الإنسان عزته وحريته. وفي "الهويات القاتلة" للكاتب اللبناني الفرنسي أمين معلوف نجد أنه دائما ما يحن إلى لبنان لأنه وطنه الأول رغم أنه تركه أثناء الحرب الأهلية، وهو كتب كثيرا من الأدب والفلسفة في باريس وغيرها، لكنه دائما ما يفضل وطنه الأول. ولذلك قيل إن الوطن هو المكان الذي نحبه، وهو المكان الذي تغادره أقدامنا، لكن قلوبنا تبقى به (أوليفر ونيل هولمز). ويقول جيفارا: "لا يهمني أين ومتى سأموت بقدر ما يهمني أن يبقى الوطن". وقيل إن الوطن شجرة طيبة لا تنمو إلا في تربة التضحيات وتسقى بالعرق والدم.

ولذلك قال غمكين كردستاني: "خيانة الوطن هي من أقبح الصور فظاعة وبشاعة لا يقوم بها إلا المنحطون والساقطون والسفلة".

الدولة هي البناء الفوقي الذي تقرره حاجات المجتمع، وبالتالي الوطن لتنظيم الحياة العامة، والسير في طريق الانضباطية في كل المجالات

ولذلك طرح سؤال: ما هو الوطن؟ ولكن هذا ليس سؤالا تجيب عنه وتمضي، إنه حياتك وقضيتك معا، كما قال محمود درويش. هذا عن الوطن، الذي كلٌّ منا يحب وطنه ولا يرضى عنه بديلا، سواء كان في بلاد الصقيع أو في بلاد الحرارة العالية، أو كان بين هذا وذاك. نعم إنه الوطن الذي نحب والوطن الذي ننتمي إليه والوطن الذي نحارب من أجله والوطن الذي يعذبنا الحنين إليه. ولذلك يقول أحد المغنين من العرب: "إذا ضيعت الذهب تلاقاه، ولكن إذا ضاع منك الوطن وين تلقاه". (اللي مضيّع ذهب بسوق الذهب يلقاه، واللي مفارق محب يمكن سنة وينساه، بس اللي مضيّع وطن وين الوطن يلقاه؟). هذا الوطن الذي يعشعش في ضمائرنا وفي كبريائنا، وفي صميم حياتنا.

وقد سئل أحد السوريين الذي كان مترجما مهماً في وزارة الخارجية الأميركية في حقبة السبعينات، وكان المترجم المرافق للرئيس نيكسون ووزير خارجيته هنري كيسنجر، وكان لديه مرتب ضخم وعيشة هنية في واشنطن، سؤال: إلى ماذا تحن؟ قال وفي نفسه لوعة "إلى دق طاولة في مقهى الهافانا في دمشق، أحنّ إليه، وأشعر أنه أهم مما أنا فيه".

نعم، وقد يقسو الوطن، لكنه يسامح، وكم من طريد عاش طريدا وعندما عاد لوطنه نسي كل ما كان، وتقبيل الأرض في هذه الأوطان شكرا لله ومحبة لوطن لم يكن من السهل الابتعاد عنه أو نسيانه لأنه حاضر الإنسان وماضيه ومستقبله.

الدولة... السلطات والعلاقة بينها

هذا بحث راودني، للعلاقة الجدلية بين الوطن والدولة، وطبعا الوطن أوسع ولكن الأوطان بحاجة لدولة.

رويترز
مطرقة رئيس المجلس التشريعي الفلسطيني عزيز دويك في البرلمان بمدينة رام الله بالضفة الغربية في 18 سبتمبر 2006.

إذن ما الدولة؟ الدولة هي البناء الفوقي الذي تقرره حاجات المجتمع، وبالتالي الوطن لتنظيم الحياة العامة، والسير في طريق الانضباطية في كل المجالات، والدولة تحكم من طرق شتى، وتتسم بالبناء البيروقراطي الذي يتحكم بكامل مفاصل الحياة العامة، ويديرها، وقد ظهرت الدولة كنظام سياسي واقتصادي واجتماعي في القرن السابع عشر، ومثلها كانت سلطة الكنيسة مع الأشراف هي التي تتحكم بالمجتمع، وأول ظهور لها كان في ثورة "الماكنا كارتا" (1688-1689)، وسمّيت الثورة المجيدة (Glorious revolution) وقد تبعتها الثورة الصناعية التي امتدت بين عامي (1250-1900)، وقد أحدثت تحولات جذرية في بريطانيا وشهدت البلاد تطورات تكنولوجية هائلة وتزامنت هذه التطورات مع نمو الإمبراطورية البريطانية، وقد نشأت الديمقراطية فيها بفعل ثورة "الماكنا كارتا" حيث أعطت الحكم للبرلمان بعد الإطاحة بالملك جيمس الثاني، وتولى ميليام أوماري العرش، وقرروا أن الملك لا يحكم، والحكم للبرلمان المنتخب الذي تنتج منه الحكومة، الأداة التنفيذية لسير المجتمع وتنفيذ خطط الدولة.

ثم كانت الثورة الفرنسية (1789) التي أطاحت بالملك لويس السادس عشر وزوجته واستبدالهما بالجمهورية، والتي كانت قد أحدثت ثورة هامة في أوروبا والعالم.

وتعريف الدولة أنها كيان سياسي يتكون من مجموعة أفراد يقيمون على إقليم جغرافي محدود، ويخضعون لسلطة مركزية، وبالتالي قوانين تتولى شؤون الدولة كافة، وشؤون المواطنين، وتشرف الدول على جميع الأنشطة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وتهدف إلى إحراز تقدم وازدهار وتحسين مستوى حياة الشعب. ولكل دولة في العالم برامجها حيث ينقسم العالم إلى مجموعات كبيرة من الدول لها أنظمتها وإن اختلفت أشكالها (المصدر: دولة- ويكيبيديا).

وعناصر الدولة هي: الشعب، الإقليم، السلطة السياسية. وأشكال الدولة هي: الدولة البسيطة أو الموحدة، والدولة المركبة أو الاتحادية.

تخضع السلطة التنفيذية لما ورد من نصوص دستورية أو قانونية أقرتها السلطة التشريعية، وعليه نجد هذا التناغم القائم بين مهام السلطتين التشريعية والتنفيذية

وتعريف الدولة، أن كل مجتمع سياسي يعتبر (دولة ما) ما دام يقوم على أساس من التفرقة بين الحكام والمحكومين، ويرى آخرون أن الدولة لا توجد إلا بظهور التعرفة بين شخصية الدولة كموجود مستقل وبين أشخاص حكامها.

وأبرز الوظائف الأساسية للدولة:

- وضع السياسة النقدية العامة.

- صك النقود.

- تنظيم المؤسسات والتعاملات المالية.

- تحقيق الرفاه الاقتصادي للمواطنين.

- تنظيم الأنشطة الاقتصادية.

- مسؤوليتها عبر إنشاء الكثير من المؤسسات المالية والاقتصادية المسؤولة.

والدولة بناء هرمي متكامل الأركان، حيث المؤسسات الأساسية الهامة فيها، وهي المؤسسة الدستورية التشريعية المستمدة قوتها ونفوذها من الشعب أولا ومن النصوص الدستورية التي تحدد مهامها، وهي التشريع، وإصدار القوانين، ومراقبة السلطة التنفيذية، وتصحيح أعمالها. وكل ذلك يرد بوضوح ضمن اللائحة التنفيذية التي تعمل على هداها السلطة التشريعية أو البرلمان، ونظامها الداخلي الذي يحدد الكيفية التي تعمل بها هذه السلطة، وواجباتها الملحوظة أصلا في نصوص الدستور الذي هو أبو القوانين، وهي مستمدة وغير متعارضة معه وإلا حدث التجاوز بين القانون والدستور، وتحدد مدى دستورية هذه القوانين المحكمة العليا في البلاد، إذ هي تقوم بدراسة هذا القانون، وهل هي متّسقة مع النصوص الدستورية أم متعارضة معها. وفي حال حدوث ذلك تعاد هذه القوانين أو القانون للمصدر الذي أصدره لإعادة النظر فيه أو إلغائه. وهذه الرقابة سواء من داخل البرلمان أم من المحكمة العليا، فيها البعد عن التجاوز وعدم استسهال صدور القانون أو القوانين لأن القوانين في التحليل الأخير يجب أن تتناغم ولائحتها التنفيذية مع روح الدستور وتطبيق مواده، وهذا يخدم الاتجاهات الهامة لبناء دولة القانون وللصالح العام، وهذا الأخير هو الشعب الذي هو مصدر كل السلطات وما ينتج من قوانين ومراسيم تصب في إطار الخدمة العامة للشعب، لأنه ممثل بالسلطة التشريعية التي هي أهم سلطة في البلاد، وعليه فالدول التي قامت ونجحت لأنها ركزت على هذه السلطة ترشيحا وانتخابا، وعدم التجاوز أو الشللية أو سيطرة جهة ما على هذا.

 رويترز
مقر جامعة الدول العربية في القاهرة، مصر، 27 يوليو 2017

والسلطة الثانية، هي التنفيذية، وهي تنبثق من السلطة التشريعية، سواء كان ذلك في النظام البرلماني تحديدا، بمعنى أن الكتلة الفائزة في الانتخابات البرلمانية هي التي يتم تكليفها بالوزارة أو الحكومة، ويتم توزيع الحقائب الوزارية وفقا للنظام المعمول به. ولكن هذه الوزارة، أو تلك الحكومة، تظل دائما تحت عين السلطة التشريعية، والمعارضة هي التي تتحرك ضد الحكومة عندما ترى بعض الثغرات في سير السلطة التنفيذية، وبهذا تكون المسؤولية الملقاة على عاتق السلطة التنفيذية هي حسن إدارة الدولة من جميع النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ومن خلالها الوزارات المختصة في كل النواحي التي تشمل جميع النشاطات الموكلة لهذه الحكومة، وصلاحياتها تلك أيضا مرصودة في الدستور وفي جملة القوانين الاشتراعية التي تصدرها السلطة التشريعية ولوائحها التنفيذية، وبالتالي تخضع السلطة التنفيذية هذه لما ورد من نصوص دستورية أو قانونية أقرتها السلطة التشريعية، وعليه نجد هذا التناغم القائم بين مهام السلطتين التشريعية والتنفيذية قائما ومستمرا طوال سنوات الحكومة، وخلال الدورة البرلمانية، وأي تجاوز يحدث يكون للمحكمة العليا الدور الأهم في حسم الجدال أو التجاوز.

وعندما نقول ذلك، فهذا يتم في دول ذات عراقة في إنشاء وتمكين السلطتين، ولا أحد يستطيع أن يتجاوز أو يخالف لأن ذلك وارد في وثيقة العقد الاجتماعي التي تواضع الناس أو الشعب في البلاد على ذلك، ومن هنا لا نجد هزات عنيفة تحدث في تلك البلاد لأن الأمور مقوننة وواضحة ومتساوقة.

تأسيس الأحزاب لا يكون اعتباطيا، وإنما لا بد من قانون ينظم عملية تأسيس الأحزاب، لأن الأحزاب جزء أصيل من مكونات الدولة الحديثة

أما السلطة الثالثة، فهي سلطة القضاء ذات الاستقلالية الكاملة، وهي محكومة بالنصوص الدستورية، والنصوص القانونية، وفي كل مجالات اختصاصاتها. وهذه السلطة لا تتبع للسلطة التنفيذية ولا تخضع لها. وكذلك لا تتبع للسلطة التشريعية وتنفذ أوامرها إلا في إصدار صياغة القوانين، لأنها سلطة ذات استقلالية كاملة، ويحدد مهامها الدستور الذي ينص صراحة على ذلك، ويمنع التدخل في شؤونها لأنها تحكم وترسم بموجب القوانين التي صاغتها سلطة الشعب، وينتهي دورها هنا. والسلطة القضائية وفقا لصلاحية القاضي ومدى تقيده بالأنظمة والقوانين لا سُلطة عليه، ولا يخشى عقوبة من هذه الجهة أو تلك، لأن مسألة وضوح القانون أولا وإعداد وكيفية تعيين القاضي تحرره من كل شيء عدا ضميره الذي لا يتدخل تعاطفا، سلبا أو إيجابا، مع هذا الطرف أو ذاك، وهنا يأتي دور الجهات الرقابية في القضاء التي تنظر في الأحكام ومدى ملاءمتها مع نصوص الدستور والقانون واجتهادات رجال القانون الكبار في المسائل التي لم يرد فيها نص، وهذه في الدول التي لها عراقة غالبا لا تحدث لأن الاجتهاد يضعف من سلطة القانون الذي مبدأه هو الحكم في كافة المسائل المطروحة لصالح المجتمع ومن أجله. وهذا الطرح ليس ابتداعا أو مثاليا كما يبدو للوهلة الأولى، لكنه مطبق في كثير من الديمقراطيات التي نسعى لأن نكون مثلها.

والدولة ليست فقط في تكوين هذه السلطات الثلاث، لكنها الأهم وهي الأساس الذي تقوم عليه مسيرة الدولة وانتظامها. لكن للدولة امتدادات أخرى في الشأن العسكري والمدني معا. وفي الشأن السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والحقوقي، لأن الدولة هي البناء القوي لكل ذلك وغيره. وعليه فالدول تسعى لإحداث تناغم شامل بين هذه الأجهزة وتضعها في مسارات الخدمة العامة ومن أجل المجتمع والناس أجمعين.

رويترز
مقر جامعة الدول العربية في القاهرة، مصر 30 أبريل 2023

إذن ما هي خصائص الدولة:

- وجود دستور سليم يراعي مصالح الشعب ويؤطر السلطات والخدمة العامة ومسألتي النهوض السياسي والاقتصادي والاجتماعي ويراعي وجود قوانين ناظمة لذلك.

- تدرج القواعد القانونية بحيث لا تكون جامدة وتنظر للتطبيق والعقوبات والجزاءات فقط، بل إن للعقوبة والجزاء سبيلا إصلاحيا يخدم في النهاية تطويع المجتمع لصالح الأمة كلها وليس منحازا لفئة ضد أخرى.

- سيادة القانون وتطبيقه يكون على الجميع وعلى من يصدر القانون أن يلتزم بتطبيقه أولا. لذلك السلطة يجب أن تكون الراعية والمطبقة لهذه القوانين، ولا تطبق القوانين على المهمشين الضعفاء، وظاهرة الاستقواء بالقانون شكلت عبئا على الدولة وعدم مصداقيتها لفترات طويلة.

- إن الحكومة القانونية هي التي تحكم الناس ونفسها بمثل ما يصدر أولا ضد النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي والخدمي، وتعتمد معيارا واحدا وليس معايير مزدوجة.

- توزيع السلطات يكون مقرونا بالعدل والتناغم ولا تطغى سلطة على أخرى.

- تنظيم الرقابة البرلمانية والقضائية على الهيئات العامة للدولة، بمعنى أن الأجهزة الرقابية، كما في الجهازين المتعارف عليهما، الرقابة المالية كهيئة والهيئة المركزية للتفتيش، يجب أن تكون تابعيتهما للبرلمان وليس للسلطة التنفيذية وفي التعيين أولا وفي التوزيع وفي الرواتب والتعويضات وفي نهاية الخدمة.

- وعليه فإن كل ذلك يتحتم أن يكون تحت رقابة السلطة الرابعة، وهي الإعلام المرئي والمسموع والمقروء، وأن تكون حرية الرأي منصوصا عليها في الدستور، وتنظيم هذه العملية وفقا لقانون الإعلام والمطبوعات والشرف الإعلامي ووثيقته الملزمة، وأن لا سلطة على الرأي في حدود القانون في الكتابة والتأليف والترجمة، وفي المقابلات وفي الحوارات والمنتديات.

- الأحزاب وتأسيسها لا يكون اعتباطيا، وإنما لا بد من قانون ينظم عملية تأسيس الأحزاب، لأن الأحزاب جزء أصيل من مكونات الدولة الحديثة، وأن تكون حركة الأحزاب وتشكيلها منظمة ضمن القانون، ولا تجوز مصادرة الصحف الحزبية أو الاعتداء عليها إلا ضمن ضوابط قانونية، وملحقاتها التنفيذية.

إن ما تقدم ليس تمنيات لتكوين الدولة الحديثة وخصائصها ونصوصها، ولكنها حقيقة واقعة ينبغي الالتزام بها، ليس لمزاج الحاكم ومن يدور في فلكه، وإنما عملية تنظيمية لها شروطها ومواصفاتها.

الدولة التي يستشري فيها الفساد تكون بالتأكيد فاشلة وغير قادرة على الوفاء بحاجات ومتطلبات المجتمع

والدولة في العالم الثالث، والدول العربية، حاولت أن تكون كما هو الحال في الدول التي كانت منتدبة عليها أو مستعمرة لها، ولكنها فشلت تقريبا، إلا أنها وضعت الهياكل الأولى للدولة الحديثة، كما حدث في مصر وسوريا والعراق والأردن وفي بقية الدول العربية، ولكنها أُخضعت للمراحل الاقتصادية والاجتماعية السائدة، لأن بنية مجتمعات هذه الدول اتسمت بالتخلف والرجوع. وتشمل ذات الاقتصادات الفقيرة والمتخلفة التي لا زالت تواجه تحديات اقتصادية كبيرة جراء التخبط الذي حدث خلال الخمسين سنة الماضية أو قبلها وعدم وجود كوادر أو البحث عنها، فإن العملية التراكمية أبقت التوجهات محدودة، وقد حكمت هذه الفترة من الاستقلال حتى الآن جملة تحديات وتحديدات ذات مستوى معيشي منخفض بالمقارنة مع الدول المتقدمة، وعدم اتساق التوازن بين تزايد النمو السكاني ومستوى التقدم الذي ينعكس في مستويات الناتج القومي. وأن هذه الدول لم تستفد من نتائج الثورة الصناعية لأسباب احتكار الدول الصناعية لهذه النهضة الصناعية، وازدياد فاتورة الاستيراد، وزيادة أسعار السلع الوسيطة، وعدم القدرة في الدخول لهذا العالم بسبب الظروف الذاتية والموضوعية، وأهمها عدم  وجود القيادات الاقتصادية والفنية المؤهلة، وهروب رؤوس الأموال، وطريقة إدارة الدولة في هذه البلاد عبر إدارات متخلفة ومترهلة، والديون المترتبة على هذه الدول مع فوائدها، والتي تذهب التقديرات أنها بالتريليونات، وأن الفوائد عليها تستنزف أية إمكانية لإحداث النمو الاقتصادي المطلوب، والأسباب عديدة وتختلف من دولة لأخرى، وأهمها الإنفاق الكبير الذي تمارسه أطراف من الدولة، والتمويل بالتضخم، وتراجع الإنتاج، وتراجع الصادرات، والاختلالات المزمنة في الموازين التجارية، وبالتالي ميزان المدفوعات. أضف لكل ما تقدم، عدم وجود إدارات ذات كفاءة على مستوى الدولة وفي سائر القطاعات، وعدم وجود رقابة مستمرة من المجالس النيابية التي لطالما تخضع لإرادة الحاكم، حيث إن معظم هؤلاء ينتمون بشكل أو بآخر للسلطة، وبالتالي فكيف تتابع سلطة غير مستوعبة لطبيعة المرحلة أن تقوم بواجباتها في الرقابة والمساءلة.

أضف لكل ما تقدم شيوع الفساد في أركان الدولة، واعتبار الدولة مزرعة للنافذين وأصحاب الحظوة والنفوذ، وأن الدولة التي يستشري فيها الفساد تكون بالتأكيد فاشلة وغير قادرة على الوفاء بحاجات ومتطلبات المجتمع. ولكل الأسباب إياها وغيرها، لا زلنا نرى أن الكثير من هذه الدول لا زالت غير قادرة على إطعام شعبها رغم وجود الأراضي والمياه واليد العاملة، وغير قادرة على إيجاد صناعات الدفعة القوية التي تدفع بالاقتصاد الوطني نحو تحقيق نهضة زراعية وصناعية وخدمية معقولة. وفي تقديرنا المتواضع، ينتج كل ذلك عن فساد الإدارة وتخلفها وعدم تطورها.

font change

مقالات ذات صلة