المملكة العربية السعودية... القيادة والريادة

في هذه المقالة، يكتب الخبير الاقتصادي حسين الشرع عن نهضة السعودية التي أقام فيها بين عامي 1979 و1988

لينا جرادات
لينا جرادات

المملكة العربية السعودية... القيادة والريادة

في هذه المقالة، نحاول أن نسلط الضوء على أدوار المملكة العربية السعودية تاريخا وحاضرا ومستقبلا، بشكل يعطي لهذا البلد العربي قليلا من تاريخه وحاضره ومستقبله، نلخصها في هذه الفسحة من الكتابة لمجلة وليس لموسوعة، تتناول آفاق وأدوار هذه القيادة وتلك الريادة ودورها الواضح في المسيرة سواء كانت على مستوى المملكة المتسعة المساحة والمتشعبة المناطق والممتدة على مساحة 2.15 مليون كيلومتر مربع، وشعب كان يعيش حياة البداوة والحضر، وقبائل ممتدة بين تسميات عديدة.

كانت هذه البلاد بقيادة الملك عبدالعزيز المؤسس، قد حققت أول وحدة لتجمعات عربية، وكانت متناثرة وسط الجزيرة العربية تدين بدين واحد، لم يدخلها المستعمر الذي حام حولها ولم يستعمرها. شذرات من التدخلات، فكان نداء الملك المؤسس أن هيا لنحقق وحدة هذه الجزيرة وسط هذه الرمال وتلك الواحات المنفردة في الصحراء، وفيها الماء والنخيل، وما وهبه الله لهذه البلاد من إمكانات للعيش.

وكان الفتح الذي قام به الملك المؤسس وجماعته الذين كان يراودهم شعور عروبي واضح لتأسيس دولة عربية، لها مقومات الدولة، بعد أن وحّد القبائل والعشائر، وزجها في مسيرة وحدوية، شعارها الإيمان بالله، والطريق الوحيد لتحقيق ذلك هو بالوحدة والعمل داخل هذه الجزيرة. وبدأت المسيرة وعلى مدار أعوام، كان ما أريد له أن يتحقق، دولة هي المملكة العربية السعودية تضم المنطقة الشرقية والرياض ونجد والقصيم. والشمال، حائل وعرعر وطريف وتبوك. والحجاز حيث مكة المكرمة قبلة المسلمين، والمدينة المنورة. وجنوبا إلى عسير ونجران وجازان وبيشة ووادي الدواسر. واستوت المعارك على تحقيق كل ذلك في عام 1932، وأُعلنت المملكة العربية السعودية، وعاصمتها السياسية الرياض، إلى جانب مكانة مدينتي مكة والمدينة في العالم الإسلامي. وجدة، العاصمة التجارية على البحر الأحمر.

استقدم الملك المؤسس الخبراء والمستشارين لتكوين الأطر الصحيحة لبناء الدولة مستعينا بأولاده الملك سعود، والملوك فيصل، وخالد، وفهد، وعبدالله، والآخرين

تلك كانت القيادة الأولى التي حققت هذا الإنجاز التاريخي بوحدة الجزيرة العربية بكافة مناطقها وقبائلها، وتوحيد شعبها وإداراتها بمنتهى الحكمة والموضوعية، والتشاركية بين الملك والشعب. وبدأت القيادة والريادة تتجذر في هذه البلاد، فكانت قرارات منح الامتيازات للشركات الأميركية التي كانت قد نقبت عن البترول وأنتجته في الولايات المتحدة الأميركية، وهي ذات خبرة، ولديها كل الإمكانيات لاكتشاف النفط في المملكة، فكان عقد الامتياز مع ثلاث شركات أميركية، وهي "ستاندرد أويل أوف كاليفورنيا"، و"موبيل أويل"، و"ستاندرد أويل أوف نيوجيرسي"، وتدفق النفط في المنطقة الشرقية من البر ومن البحر، فكانت "أرامكو" الأميركية وكانت العائدات المجزية لتمويل هذه الدولة المترامية الأطراف.

اللبنة الأولى

استقدم الملك المؤسس الخبراء والمستشارين لتكوين الأطر الصحيحة لبناء الدولة مستعينا بأولاده الملك سعود، والملوك فيصل، وخالد، وفهد، وعبدالله، والآخرين. وإذن لا بد أن نؤكد على اللبنة الأولى في بناء الدولة العربية السعودية وهي إنجازات لا يمكن اختزالها في مقالة في مجلة أو جريدة، ولكن نعددها دون الدخول في التفاصيل، وهي عديدة وتحتاج إلى زمن ومساحة لتغطية هذه الإنجازات.

     1- عمل الملك المؤسس على توحيد القبائل والعشائر في خوض هذا التوجه نحو العمل الموحد تحت راية "لا إله إلا الله" من أجل إقامة دولة لها دور ولها إمكانيات وتوحيدها من الخليج العربي حتى البحر الأحمر، وهذه لم تتحقق بسنة أو سنتين أو ثلاث سنوات، وإنما تم اتباع النفس الطويل على محور زمني امتد إلى 1932. وكانت هناك صعوبات وعوائق ولكن القدرة على التصميم والوصول للأهداف كانت أقوى من كل ما اعترضه. وبالنتيجة، كانت النتائج جيدة بكل المقاييس، وتحققت وحدة قوية ومتماسكة تقودها قيادة قديرة ومشروعية ريادة.

لينا جرادات

  2- بناء الدولة، وهذه مهمة أصعب، إذ إن الحسم في المعارك وقد تحقق، فإن المهمة الأكبر، كيف تبني دولة على مساحة مترامية الأطراف والأنحاء، وتقود شعبا لم يكن موحدا، فكل زعيم عشيرة وقبيلة، كان يظن نفسه أنه هو المحرر، وبالتالي عليه أن يتصدر المشهد، وهنا برزت حنكة الملك المؤسس ورؤيته، وأشعر الجميع من أبناء شعبه وفي كل منطقة بأن له دورا ومكانا، وأن الاستئثار بالسلطة لا يقيم دولة، مع شدة في الانضباطية العالية، ورحمة لمن لم يستجب، فتم تشكيل مجلس وزراء ومستشارين للبدء في مرحلة تأسيس الدولة على أسس من التسامح والجدية في تحقيق الأهداف الكبرى لإقامة دولة ممتدة جغرافياً وعلى مساحات طويلة وعريضة، وخص قيام الوزراء والمستشارين بعدم التكلف في التعامل مع الناس، ومخاطبتهم باللين والشدة معا، من أجل أن تستقيم الأمور، وتبدأ الدولة بإمكانياتها البسيطة من النهوض، وعدم الوصاية على الناس، لأن سَوْس الأمة لا يأتي بالتكبر ولكن بالتواضع، وهذه سمة بارزة في الملك المؤسس وأبنائه من بعده، وهي متوارثة.

كانت لدى الملك المؤسس رؤية ذات بعد استراتيجي في قيادة الدولة السعودية ببعد عربي ودولة قوية تمتد لتساعد كل الدول العربية

والإخلاص في العمل وطاعة ولي الأمر لم تكن مفروضة، ولكنها تدريجيا نمت وتطورت وكانت سياسة وخطة طريق لسَوْس الأمة والاستجابة لمتطلبات كل مرحلة.

واللافت أن مجالس الملك المؤسس كانت مفتوحة لمن يريد مقابلته والحديث إليه وبث همومه وشكواه، وسياسة "الباب المفتوح" جعلت الجميع مقبلين وليسوا مدبرين، نظرا لاستماع الملك ووزرائه وأفراد من أسرته المسؤولين لهموم الناس، وإيجاد الحلول الممكنة، وعليه كانت العلاقة ليست بين حاكم ورعية، بقدر ما كانت علاقة بين أب وأبنائه وهم عموم الناس، وهذه استمرت طوال فترات طويلة.

وقد أولى الملك المؤسس الجانب الاقتصادي أهمية بالغة لتحقيق موارد للدولة الجديدة، وكان أمامه بنظرته الثاقبة ما تم العرض عليه من إمكانية استخراج البترول من هذه البلاد، فتقبلها، وكانت عقود الامتيازات التقليدية لستين سنة تبدأ في 1933، تقوم بذلك شركات أجنبية غربية لها خبرة واسعة داخل أوروبا والولايات المتحدة بالبحث والتنقيب عن البترول، فكانت أول شركة هي "شل" البريطانية، التي كانت قد حصلت على امتيازات في إيران والعراق والإمارات العربية المتصالحة (كما كانت تسمى)، لكن الملك وجد أن الشركات الأميركية أجدر وأقوى، فكانت الاتفاقية مع شركة "أرامكو" التي تم ذكرها، وتلك كانت خطوة موفقة من الملك المؤسس، أعطت نتائج ذات أهمية، ورفدت الخزينة السعودية بمبالغ لتصريف شؤون الدولة والبدايات الصعبة بدأت رويدا رويدا تحل.

المستوى الدولي

على المستوى الدولي، أرسى الملك المؤسس تفاهمات كبرى مع الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية (1945-1939)، بعد انتهاء عقد مؤتمر يالطا الشهير للدول المنتصرة في الحرب وهي الولايات المتحدة الأميركية، وبريطانيا العظمى، والاتحاد السوفياتي. وهذا المؤتمر الذي حضره الرئيس روزفلت من الولايات المتحدة، وتشرشل رئيس الوزراء البريطاني، وجوزيف ستالين من الاتحاد السوفياتي، والذي بموجبه تم اقتسام العالم، وتبوأت الولايات المتحدة الأميركية الزعامة العالمية بعد انكفاء الاستعمارين الإنكليزي والفرنسي، وقبلهما البرتغالي والإسباني. وكان لانعقاد القمة بين الملك المؤسس والرئيس روزفلت في الباخرة الراسية في البحيرات المرة بجانب قناة السويس، حيث تم الاتفاق بين الملك المؤسس والرئيس روزفلت على التزام كلا الطرفين بالعمل على التحالف لخدمة أهداف كلتا الدولتين لا سيما مصالح أميركا بالنفط المنتج في الأراضي السعودية وشركاتها، وحفظ مصالح المملكة العربية السعودية في تحقيق الأمن والاستقرار، وحصول المملكة على عائدات مجزية من البترول المستخرج والمصدر، وتحسين العلاقة بين الدول المضيفة والشركات بما يخدم  المصالح المشتركة وإقامة علاقات خاصة بين المملكة والولايات المتحدة وضمان الاستقرار السياسي والاقتصادي بكل الضمانات الأميركية، في وضع صعب يمر به العالم بعد الحرب العالمية الثانية وما تمثله التقلبات السياسية وأطماع الدول الأخرى.

إنجاز واستقرار

هذا الإنجاز الذي حققته القيادة السعودية من خلال الملك المؤسس كان له أبرز الأثر في الاستقرار السياسي والاقتصادي للحكم في هذه البلاد التي تطل على العالم كدولة قوية، وما نتج عن تدفق البترول، وقد وضع هذا الاتفاق الحد لكل ما يمكن أن تحققه تطلعات تمس هذه البلاد التي لم تكن سابقا تدور في أحلاف أو اتفاقيات، وإنما تم ربطها بالدولة القوية في العالم وهي الولايات المتحدة الأميركية، واستمرت هذه العلاقة قوية لأنها مؤسسة من فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وهنا تكمن قوة القيادة ونفاذ بصيرتها وتحليلها لرؤية العالم لسنوات ممتدة.

على المستوى الإقليمي، كانت سياسة المملكة قائمة على حسن الجوار وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، وعدم السماح للدول الأخرى بالتدخل في الشؤون الداخلية للمملكة، وهذه السياسة كانت وما زالت مطبقة حتى تاريخه. لكن السعودية كانت سبّاقة للوقوف مع بلاد الشام لتحقيق الاستقلال والجلاء، وعلاقتها كانت ممتازة مع إيران وشاه إيران، ومع مصر والملك فاروق، ومع الهاشميين الذين كانوا قد تولوا حكم الأردن والعراق، ومع اليمن بعد الاتفاق مع الإمام يحيى حميد الدين حاكم اليمن آنذاك في بداية الثلاثينات.

كانت لدى الملك المؤسس رؤية ذات بعد استراتيجي في قيادة الدولة السعودية واسمها المملكة العربية السعودية ببعد عربي ودولة قوية تمتد لتساعد كل الدول العربية، وقد تجلى ذلك في مواقف كثيرة، لقد دارت سياسة الأحلاف حول المملكة فرفضها، وأعلن أن هذه البلاد ملجأ للوقوف مع البلاد العربية، كموقفه من فلسطين وشعب فلسطين، وموقفه من بلاد الشام والكتلة الوطنية والثورة السورية ضد الانتداب الفرنسي، وقد سار على هديه وخطاه كل ملوك السعودية، كلّ واحد بطريقته الخاصة لتغير الأزمات وتغير الظروف، وكان له دور مع مصر، لم يكنّ العداء لمصر، واعترف بقيام الثورة المصرية ضد الملكية، وساند ثورة الريف في المغرب العربي، وأيد ثوار الجزائر قبل أن تقوم الثورة الجزائرية في عام 1954.

وقد سارت المملكة بقيادة أبناء الملك عبدالعزيز ضمن الخط الذي رسمه لهم المؤسس الأول، فكان أمراء السعودية سباقين لكل إنجاز عربي، ورغم كل المبادرات العربية، وقد تجلى ذلك بمساندة الثورة الجزائرية ومد يد العون لها ولمصر في العدوان الثلاثي عليها في عام 1956 والوقوف إلى جانبها تأييدا لتأميم مصر لقناة السويس.

انتقل الثقل السياسي والاقتصادي، ليكون للمملكة الدور الأهم فيه، وأصبحت الدول المنتجة للبترول والمصدرة تقف على قدم المساواة مع الدول الصناعية الكبرى المستهلكة له

إنجازات في الخارج والداخل

وأقام الملك سعود والملك فيصل تطورات هامة في حينها داخل المملكة، حيث سمح الملك سعود بتعليم الإناث وإنشاء مدارس خاصة وأدخل التلفزيون وقيادة السيارات في مدن المملكة، وحرص على إيجاد نوع من التعاون بين دول الخليج مع الكويت، وقطر، والبحرين. وقدمت المملكة مساعدات قيّمة لمصر والجزائر وسوريا والعراق، وبذلت جهودا في سبيل قيام التضامن العربي، وعندما حلت كارثة حرب الأيام الستة وقفت السعودية مع مصر ورغبت بالوقوف مع سوريا التي كان يحكمها شباب يدركون معنى التضامن العربي، وبرغم الخلاف الذي كان قائما بين مصر عبدالناصر والرياض، فإن السعودية كانت أول الحاضرين في القمة العربية في الإسكندرية التي جاءت بقرارات عربية ممتازة، منها تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية وتأسيس ألوية لجيش التحرير الفلسطيني وساهمت المملكة مساهمة قوية في تدعيم منظمة التحرير الفلسطينية وقد تم تعيين السيد أحمد الشقيري رئيسا لهذه المنظمة، وكان الشقيري يشغل مندوب المملكة العربية السعودية في الأمم المتحدة.

ولعل الكثير من المتابعين للأحداث التي كانت بعد النكسة لعام 1967 يدركون مساهمة المملكة بدعم المجهود الحربي لمصر والأردن بمبالغ هامة، وكان لانعقاد مؤتمر الخرطوم في أغسطس/آب  عام 1967، وما نتج عنه من اللاءات الثلاث (لا اعتراف بإسرائيل، ولا تفاوض، ولا صلح)، وكانت سياسة المملكة هي القوة الرافعة لطرح هذه الشعارات، وكان الملك فيصل مساندا قويا كما سائر الملوك الذين تعاقبوا بعده لمساندة الثورة الفلسطينية بعد عام 1967، وقدمت المملكة الدعم المالي الكبير لحركة "فتح" بقيادة ياسر عرفات ولم تبخل عليهم بشيء، وكانت هذه وقفة مجيدة من ملوك السعودية وكان ذلك في عهد الملك فيصل بن عبدالعزيز آل سعود، وتبرّع أمراء السعودية لدعم الثورة الفلسطينية.

وقد تجلى الموقف القوي للمملكة العربية السعودية والملك فيصل وإخوانه الأمراء في حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، إذ أرسلت المملكة وحدات من الجيش السعودي لسوريا والأردن، وقدمت الدعم المالي لهذه الدول بسخاء، وقد قام الملك فيصل بقطع إمدادات البترول عن الدول التي كانت تؤيد إسرائيل وهي الولايات المتحدة وهولندا، وعلى أثر ذلك تزايدت أسعار النفط من دولارين للبرميل إلى 12 دولارا للبرميل، وأكثر من ذلك امتلكت الدول المنتجة والمصدرة للنفط زمام المبادرة للتحكم في الإنتاج والتصدير والتسعير لأول مرة، وكان الرائد في ذلك الملك فيصل بن عبدالعزيز ملك المملكة العربية السعودية، وأصدر توجيها إلى وزير النفط المقتدر أحمد زكي يماني بالسفر إلى الكويت وتأسيس منظمة خاصة للدول العربية المنتجة والمصدّرة، وكان قراره هذا موجّها أساسا لتوحيد الجهود للدول العربية النفطية لخدمة أهداف الأمة العربية ووضع النفط العربي لخدمة التوجهات العروبية من أجل كبح العدوان الإسرائيلي، وكان لهذه الخطوة أكبر الأثر في امتلاك الدول المنتجة للنفط والمصدرة زمام المبادرة وتحديد الأسعار التي بدأت بالارتفاع، وخضوع الشركات النفطية لمشيئة الدول المنتجة للنفط، ومع تزايد أسعار النفط، بدأت مداخيل هذه الدول بالارتفاع سنة بعد أخرى.

وكان لاغتيال الملك فيصل أثره الكبير حيث أصيبت الأمة كلها بهذا المصاب الجلل، لكن المسيرة تابعها الملك خالد بن عبدالعزيز الذي قاد أدوارا مهمة في نهضة المملكة وازدياد دورها في المحافل الدولية يعاونه ولي عهده الأمير فهد بن عبدالعزيز الذي كان له دور هام جدا في نهضة المملكة وتقدمها.  وقد خلف الملك خالد بعد أن توفاه الله، وأصبح الملك فهد بن عبدالعزيز ملك المملكة العربية السعودية.

النفط والتنمية

وقد تحلى الملك فهد بن عبدالعزيز بالحكمة والسعي لزيادة الدخل القومي السعودي وتوظيف عائدات النفط في التوسع في كل القطاعات الاقتصادية، وكان له دور بارز في تنمية الزراعة والصناعة والكهرباء والطرق والسكن للمواطنين، وتطور الحياة في جميع المجالات، وزيادة المدخولات من قطاع النفط الذي كان غريبا في معظم الدول العربية والاقتصاد الوطني لتحكم الشركات المستثمرة له. فبُنيت الجامعات والمطارات والأبنية، وبرز دور المملكة قويا ومؤثرا في الاقتصاد العالمي لأنها من أكبر الدول المصدرة للبترول في العالم، ونشطت منظمة "أوبك"، و"أوابك" العربية، بقيادة المملكة العربية السعودية، وانتقل الثقل السياسي والاقتصادي، ليكون للمملكة الدور الأهم فيه، وأصبحت الدول المنتجة للبترول والمصدرة تقف على قدم المساواة مع الدول الصناعية الكبرى المستهلكة له، وتدعم الدور العملي للمملكة كقائدة لتجمع الدول في "أوبك"، و"أوابك" العربية، وكانت أمينة على الاقتصاد العالمي الذي بدأ يشهد هزات عنيفة بسبب تضاعف فاتورة استيراد النفط، الأمر الذي كان يهدد الاقتصاد الدولي، فكانت المملكة مستجيبة لعدم وقوع ذلك لإحساسها ودورها المعروف، فكان قرار منظمة "أوبك" بقيادة المملكة زيادة أو تقليص الإنتاج من البترول وفقا لاستيعاب السوق البترولية العالمية من عدمه، ولاحظنا ذلك في أثناء الحرب الإيرانية-العراقية التي انقطعت أو كادت، القدرة التصديرية لهاتين الدولتين المتحاربتين واللتين كانتا تصدران نحو 5 ملايين برميل يوميا، وهذا الانقطاع من السوق الدولية أحدث ارتباكا وأدى لارتفاع أسعار النفط، وبالتالي الخلل في الموازين التجارية وميزان المدفوعات للدول الصناعية، فكان للمملكة دورها في الحد من تأثير ذلك  على الأسواق، فرفعت مستويات الإنتاج من النفط الخام لتعويض النقص الحاصل بسبب الحرب الإيرانية-العراقية، مع حرصها على عدم المبالغة برفع الأسعار وعبر مؤتمر لندن الذي عُقد عام 1986 أو 1987، اقترحت المملكة سعرا محددا حفاظا على الاقتصاد العالمي، وقد أقر في هذا المؤتمر أن خام برنت البريطاني النرويجي من بحر الشمال هو المعادل العام للنفط العالمي بدلا من الزيت العربي الخفيف الذي كان المعادل العام، علما أن إنتاج بحر الشمال من هذا الخام لا يرقى إلى ذات الانتاج، وكثافته مشابهة للزيت العربي الخفيف.

في عام 2002 طرحت المملكة العربية السعودية في مؤتمر القمة العربية التي عُقدت في بيروت المبادرة العربية، ووضعت الخطوط العريضة لها من أجل إحلال السلام في المنطقة

على أن تأسيس وكالة الطاقة الدولية في باريس 1974 بإشراف وزير الخارجية الأميركية هنري كيسنجر قد سحب البساط من تحت أقدام الدول المنتجة والمصدرة للبترول، وحدث انهيار كبير في أسعار النفط في عام 1990، وبالتالي بدأت عائدات البترول بالانخفاض، تبعا  لإجراءات رسمتها وكالة الطاقة الدولية التي زادت مخزوناتها من النفط خلال الفترة بين 1974 و1985، والتعاون المتفق عليه بين الدول الصناعية المستوردة للنفط لتبادل النقص لدى بعض دولها، وتناقص سعر البترول من النفط الخفيف إلى (18 دولارا) وأقل. وهذا قد أحدث نوعا من الارتباك إزاء الانفاق الكبير على التنمية في الدول النفطية لتراجع مدخولاتها الدولارية، كما أن الدول الصناعية بدأت حربا اقتصادية ضد الدول المنتجة للنفط والمصدرة، برفع أسعار السلع المصنعة ونصف المصنعة للعالم الذي يحتاج إليها، ومن هنا بدأت سياسة تدوير دولار البترول لصالح الدول الصناعية، لكن المملكة ومنظمة "أوبك" بدأت تخفض معدلات الإنتاج وفقا لحجم الإنتاج الممكن لأية دولة، وحجم الناتج المحلي، والقدرة التصديرية. ووضعت "أوبك" جدولا للكميات المسموح بإنتاجها لكل دولة والقدرة التصديرية لإصلاح الخلل في تدني أسعار النفط، وعدم الوصول إلى النقص في العائدات الذي رافق الفترة من 1993-1988، ونجحت المملكة عبر قيادة منظمة "أوبك" في تجاوز هذه المرحلة، وكان ذلك عبر سياسة منهجية قادتها المملكة بروية وحسن تدبير، وبدأ تصحيح مشاركة "أوبك" في حجم الصادرات للدول الصناعية، وفشل الأخيرة في إيجاد بدائل ملموسة للنفط من الطاقات المتجددة التي كانت تلوح بها أمام "أوبك".

على أن النهضة في المملكة لم تتأثر، ولكنها أفادت في ترشيد الإنفاق العام الذي كان بلا حدود، والترشيد في الاستهلاك الذي كان قائما كمجتمع استهلاكي، والتوجه لتطوير وتعزيز دور القطاع الخاص لإيجاد سلع بديلة عن المستوردات، وهذا قد ظهر جليا في الإنتاج الزراعي الوطني، وإنتاج اللحوم البيضاء داخليا والبيض وبعض الصناعات البديلة للمستوردات، وانحياز المملكة لبناء المجمعات الصناعية في الجبيل وينبع، وخاصة الصناعات البتروكيميائية (الأثيلين، البولي أثيلين، والبوليمرات واللدائن والأسمدة، وبناء المصافي العملاقة) وخط أنابيب شرق غرب على البحر الأحمر بين منطقة إنتاج النفط والتصدير.

وتتالت هذه الإنجازات في عهد الملك فهد والملك عبدالله. وكان دور المملكة الهام في تعزيز صمود الدول العربية بعد حرب 1973 مشهودا حيث دعمت سوريا ومصر والأردن، ووقفت ضد الحرب الأهلية اللبنانية (1990-1975) وكانت على مسافة واحدة من كل اللبنانيين، ودعمت القضية الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية، وكانت المملكة العربية السعودية راعية لـ"مؤتمر الطائف" الذي أنتج ميثاق الطائف بين اللبنانيين، وتم انتخاب الرئيس اللبناني وتشكيل حكومة لبنانية جامعة، وتم وضع لبنان على خارطة الخروج من الحرب الأهلية وتحقيق مقولة اللبنانيين التي اتفقوا عليها وهي أن "لبنان وطن سيد حر مستقل، وطن نهائي لجميع أبنائه". وبدأ لبنان مرحلة التعافي والبناء والتخلص من آثار الحرب التي استمرت خمسة عشر عاما، وكادت تطير بلبنان وتقسمه وفق المخطط الذي اعتمده بن غوريون منذ عام 1948، لإحداث كانتونات في الدول المجاورة لفلسطين من أجل تدعيم المخطط الاستعماري.

لينا جرادات

وقد كانت المملكة العربية السعودية رائدة في تماسك اللبنانيين والالتقاء حول وحدة لبنان بمختلف مذاهبه وطوائفه على قاعدة العيش المشترك وتطبيق ما تم الاتفاق عليه بين الرئيس بشارة الخوري والرئيس رياض الصلح في عام 1943، وما انبثق عن "مؤتمر الطائف"  الذي رعته المملكة سياسيا واقتصاديا، وجمعت حوله معظم الدول العربية وخاصة سوريا التي كان لها جيش في لبنان، وتم وضع خطة لإعادة انتشار الجيش السوري وانسحابه من المدن وخاصة بيروت، وإعادة بناء الجيش اللبناني الذي مزقته الحرب الأهلية على أساس الولاء للبنان وليس للطوائف.

السلام

في عام 2002 طرحت المملكة العربية السعودية في مؤتمر القمة العربية التي عُقدت في بيروت المبادرة العربية، ووضعت الخطوط العريضة لها من أجل إحلال السلام في المنطقة، والاعتراف العربي والإسلامي بإسرائيل مقابل الانسحاب الكامل من جميع الأراضي المحتلة في 5 يونيو 1967، وتأسيس دولة فلسطين المستقلة فوق الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، وأن تكون القدس عاصمة للدولة الفلسطينية، ويعم السلام الكامل والانتهاء من حالة الحروب المستمرة منذ عام 1948.

وبقيت هذه المبادرة معلنة وقائمة حتى تاريخه لسبب بسيط أن العدو الإسرائيلي ومن يقفون معه لا يريدون السلام، ويمارسون الاحتلال بأبشع صوره، وسرقة الأراضي الفلسطينية والتوسع في بناء المستوطنات، وقد رفضت إسرائيل هذه المبادرة وسعت لإقامة أنواع من الاتفاق بشكل منفرد مع بعض الدول العربية تملصا من الحل الشامل، وإحقاق الحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني، ولا زالت المملكة تمارس دورها العربي وتقف عصية على ما تريده إسرائيل مع عدم تحقيق أي شرط من شروط المبادرة العربية في قمة بيروت عام 2002.

هناك دور مشهود تقوده السعودية والذي يؤتي أكله في رفع العقوبات التي كانت جاثمة على سوريا منذ عام 1979، بتدخّل وتبنّي الأمير محمد بن سلمان وعلاقاته الدولية

استقرار وتجديد

وعندما تسلّم الملك سلمان بن عبدالعزيز الحكم بعد وفاة أخيه الملك عبدالله بن عبدالعزيز، بدأت المملكة عهدا جديدا واستمرارية لما بدأه الملوك السعوديون السابقون، وكان في اختياره لولاية العهد تجديدا لشباب المملكة وقيادتها، فكان الأمير محمد بن سلمان، صاحب الرؤية، وفق منطلقات التنمية المتصاعدة، وتجديد الخطط الاستراتيجية لبلورة شكل متطور من الحكم من منظور وطني سعودي لصالح الشعب السعودي، وعربي وخليجي للدفع باتجاه بلورة مواقف قوية على المستوى الخليجي للدول المشكّلة لمجلس التعاون الخليجي الست الذي تم تأسيسه في عام 1981، والهدف منه رؤية سعودية لتجميع القوة الاقتصادية والعسكرية والسكانية لهذه الدول في سبيل إقامة تجمع سياسي واقتصادي وعسكري للدفاع وتنمية الاقتصادات الخليجية المتشابهة، ووضع حد للتدخلات الإقليمية والأجنبية والاستفراد بهذه المنطقة، تطلعا لإقامة تعاون عربي من خلال جامعة الدول العربية وقد حقق هذا المجلس أهدافا جيدة، ولكنها لم تكن متكاملة كما خطط لها.

على أن العهد الجديد للملك سلمان بن عبدالعزيز، وولي عهده الأمير محمد بن سلمان لديه رؤية لإنماء المنطقة العربية بكاملها، والسير في طريق توحيد المسارات الاقتصادية والسياسية، وكان لرؤية ولي العهد (2030-2020) مسار جديد، على المستوى الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، من خلال توطين بعض الصناعات داخل المملكة، وإيجاد الكوادر السعودية ذات الكفاءة لقيادة ذلك، وتدعيم مسيرة البناء في كل المجالات، وتكوين الثروة المادية لتمويل خطط البناء السياسي والاقتصادي والاجتماعي والعمل على الدعوة لإيجاد المنطقة العربية الفاعلة اقتصاديا وسياسيا في تناغم شامل لإظهار أن هذه المنطقة ستكون مستقبل العالم بما تمثله من مكامن القوة الاقتصادية والموارد البشرية والموارد المتعددة، وفي جميع القطاعات، الزراعة والصناعة والخدمات والتطوير التقاني نحو تحقيق الأرضية للانطلاق بلا جمود أو تراجع.

وقوف مع سوريا الجديدة

لعلنا نشهد هذه التحولات الكبرى في رؤية القيادة السعودية والريادة لتحقيق ذلك داخل المملكة، ومد يد العون بلا تكلف ولا مزايدة للدول العربية، ورأينا الجهد السعودي كقيادة والمشهود لها بوقوف المملكة مع الجمهورية العربية السورية الجديدة، من احتضان بإخلاص للدفع نحو إقامة أوسع العلاقات والدفع بهذه العلاقات لتحقيق تطلعات الشعب السوري لبناء بلده، ومد يد المساعدة السخية والمدروسة من مختلف القطاعات في المملكة لتثبيت الاستقرار والبداية بتحقيق التوجهات نحو بناء بلد أنهكته الحروب والظلم والطغيان، ومزقته سياسات كانت غريبة عن المنطقة العربية وهو يحتاج لكل يد تساعد، وكل فكر يصحح، وكل ما يمكن على صعيد ذلك.

نعم إنها قوة المملكة وتقدير قيادتها وطموحها نحو رؤية سوريا وكل البلاد العربية تنطلق من أجل مستقبل أفضل لشعوب هذه الأمة، التي تم تمزيقها، ووضع الحواجز والحدود العالية بين كل قطر منها، وانفراد القوى الأخرى بها عبر سياسة قديمة جديدة، وهي "فرّق تسد"، تلك نبضات جديدة ودماء جديدة ووعي أكبر لإنعاش هذه المنطقة وسيادتها فوق أراضيها.

والدور المشهود الذي تقوده المملكة العربية السعودية والذي يؤتي أكله في رفع العقوبات التي كانت جاثمة على سوريا منذ عام 1979، بتدخّل وتبنّي الأمير محمد بن سلمان وعلاقاته الدولية، وتأثيرها الهام في السياسة الدولية، فكانت النتائج المبهرة في جمع الرئيس أحمد الشرع، رئيس الجمهورية العربية السورية، إلى الرئيس الأميركي دونالد ترمب رئيس الولايات المتحدة الأميركية كأكبر قوة مؤثرة في السياسة الدولية، وتبنّي دعم مسيرة الدولة الجديدة وحماية أراضيها ووحدة شعبها ومدها بأسباب القوة المادية والمعنوية، وهذه كانت من أبرز المواقف الكبيرة للأمير محمد بن سلمان التي لاقت ترحيبا من الشعب السوري والعربي والإسلامي.

نرى النجاح الدبلوماسي الذي وجه به الأمير محمد بن سلمان لعقد مؤتمر نيويورك من أجل إقامة الدولة الفلسطينية على حدود 4 يونيو 1967

أيضا نرى النجاح الدبلوماسي الذي وجه به الأمير محمد بن سلمان لعقد مؤتمر نيويورك من أجل إقامة الدولة الفلسطينية على حدود 4 يونيو 1967، والدفع والاقتدار الذي تمارسه السعودية لمزيد من الاعتراف بدولة فلسطين وفق قرارات الأمم المتحدة والمبادرة العربية لعام 2002 من دول أساسية في العالم مثل بريطانيا وكندا وألمانيا والبرتغال، وقد سبقتها فرنسا لذلك.

كل ذلك يتم وفق مبدأ القيادة والريادة لحكومة المملكة التي ظهرت بشكل كبير وفاعل على المسرح الدولي. وبفضل السياسة المعتدلة التي تقوم على العقلانية، تعاملت المملكة مع دول العالم بالمبادئ المنطلقة من سياسة يمكن وصفها بـ"دعنا نعمل بصمت، ونحقق بلا ادعاء أو صخب".

ولعلنا نرصد بكثير من التحري والصدق ما تقوم به المملكة من قيادة بلا وصاية ولا مصادرة لحق أي دولة عربية، ليشغلها هم كبير وهو كيف تصل بدول هذه المنطقة العربية إلى وحدة في السياسة، والاقتصاد، والدفاع. وفق رؤية صادقة، نرجو لها كل التوفيق والنجاح، وهذا هو ما صرح به الأمير محمد بن سلمان في أكثر من مناسبة بأن أوروبا الجديدة هنا، أي في المنطقة العربية، وتلك نبوءة صادقة بعون الله وتوفيقه، وعندما عنونت مقالتي هذه "القيادة والريادة"، فكنت أقصد بذلك تاريخا وحاضرا ومستقبلا، ولكل منا أمة تدعو للخير، ولا نشك بما سيتحقق... إنه خير معين.

font change