حضرموت... نذر حروب في اليمن ودعوات للتهدئة

مخاوف كبيرة من أن يقود النزاع في حضرموت إلى تفكك وحدة البلاد

أ ف ب
أ ف ب
جنود يمنيون يرفعون علامة النصر في عدن احتفالا بعيد الاستقلال في 30 نوفمبر

حضرموت... نذر حروب في اليمن ودعوات للتهدئة

ما بين ساعة وأخرى، تتغير عناوين التقارير والأخبار القادمة من محافظة حضرموت اليمنية كما تتبدل الرمال المتحركة في صحرائها المترامية، وذلك على وقع المواجهات الدامية التي شهدتها مدينة سيؤون عاصمة وادي محافظة حضرموت شرقي اليمن وعدد من المدن في شمال ووسط الوادي وامتدت حتى محافظة المَهَرة أقصى شرقي البلاد بمحاذاة سلطنة عمان المجاورة.

جاء ذلك بعد أن دفع "المجلس الانتقالي الجنوبي" أرتالا من قواته ومسلحيه من عدن إلى حضرموت لدعم ما يسمى "القوات الأمنية" المتمركزة في بعض مديريات الساحل على خليج عدن. لكن تلك القوات سرعان ما تقدمت نحو حقول نفط المَسِيلة الواقعة شمالا في قلب وادي حضرموت المتاخم للحدود السعودية وذلك بغية السيطرة عليه عقب انتشار مئات المسلحين من حلف قبائل حضرموت حول هذه الحقول في "خطوة استباقية" لحمايتها من زحف قوات "الانتقالي الجنوبي" نحوها، كما قال قادة الحلف.

ما اتضح لاحقا هو أن هدف "المجلس الانتقالي" لم يكن فقط نفط حضرموت بل إنهاء وجود قوات "المنطقة العسكرية الأولى" الموالية للحكومة الشرعية، التي كانت متمركزة شمال الوادي، والسعي نحو فرض أمر واقع يقوم على أساس إعادة رسم خارطة الدولة الجنوبية السابقة (جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية) بعد ما يزيد على ثلاثين عاما من اندماجها في الوحدة مع نظيرتها في شمال البلاد عام 1990.

تحت الضغط العسكري المباغت وواسع النطاق من عدة محاور، وربما بمقتضى توجيهات عليا كما تردد، اضطرت قوات المنطقة العسكرية الأولى إلى الانسحاب غير المنظم وإعادة نشر بعض وحداتها في مناطق بعيدة مختلفة تجنبا للمواجهة مع قوات "الانتقالي" وسفك المزيد من الدماء، مما سهَّل على قوات "الانتقالي" السيطرة على مواقعها دون مقاومة تذكر، إلى جانب الاستيلاء على مدينة سيؤون ومطارها الدولي.

لكن التقارير الواردة من هناك أفادت بقيام قوات "الانتقالي" بقتل وجرح وأسر العشرات من جنود تلك المنطقة، بالإضافة إلى نهب كميات كبيرة من الأسلحة الثقيلة والمتوسطة والخفيفة والعتاد والذخائر من مستودعات السلاح في معسكراتهم، ولا يزال مصير مئات من هؤلاء الجنود مجهولا حتى اللحظة، كما جرى تداول الكثير من مقاطع الفيديو التي تظهر حالة من الانفلات الأمني شهدت عمليات اعتداء وسرقات لمحال تجارية كان يملكها مواطنون من شمال البلاد، وتمت كذلك مداهمة بيوت منتسبي المنطقة الخاصة وترويع أسرهم وسرقة ممتلكاتهم.

أضرار عامة

وخلال ثلاثة أيام فقط أسفر النزاع في وادي حضرموت عن خروج منظومة الكهرباء من الخدمة تدريجيا ثم بشكل شبه كامل في معظم مناطق الوادي، وأثر انقطاع التيار الكهربائي على استمرار الخدمات اليومية العامة، بحسب ما أعلنته المؤسسة العامة للكهرباء في منطقة وادي حضرموت.

لكن الأهم من ذلك هو التوتر الأمني في مختلف مديريات الوادي وخشية السكان من صدام مسلح أوسع نطاقا قد يؤدي إلى إزهاق مئات بل آلاف الأرواح من المدنيين والتسبب في حالات نزوح واسعة، وانقطاع الطرق، وتقطع السبل بالمسافرين الذين يتخذون من مطار سيؤون منفذا ونقطة عبور من وإلى محافظات حضرموت والمهرة ومأرب وغيرهما من محافظات شرقي البلاد.

مبادرة سعودية

فور اندلاع تلك الأحداث أرسلت المملكة العربية السعودية- بوصفها قائد التحالف العسكري الداعم للحكومة الشرعية في اليمن- وفدا أمنيا رفيع المستوى إلى المكلا مركز محافظة حضرموت بقيادة رئيس "اللجنة الخاصة" المعنية بشؤون اليمن، اللواء محمد بن عبيد القحطاني، الذي التقى بمحافظ حضرموت وبوجهاء وأعيان المحافظة وقياداتها السياسية والشخصيات القبلية المؤثرة.

وخلال اللقاء، جدد اللواء القحطاني موقف السعودية الرافض لأي "عمليات عسكرية تقودها قوات من خارج المحافظة" تسببت بإدخالها في دوامة صراع، داعيا بوضوح "كل تلك القوات للعودة إلى معسكراتها التي قدمت منها، وتسليم المواقع التي ستخرج منها إلى قوات درع الوطن".

أ ف ب
مسلح يمني تابع "للمجلس الانتقالي" في منطقة الفيوش الجنوبية في صورة تعود الى 30 اغسطس 2019

وشدد اللواء القحطاني وفق ما نقلته وسائل إعلامية، على أهمية وضرورة "استمرار العمل لمنع أي احتكاكات أو اشتباكات، وإعادة الأمور إلى وضعها الطبيعي، وضمان عمل المؤسسات وتقديم الخدمات للمجتمع الحضرمي، والحفاظ على الممتلكات الخاصة والعامة".

غير أن ما حدث هو أنه رغم التزام حلف قبائل حضرموت بهذه الدعوة وانسحاب مسلحيها من محيط حقول النفط فإنها تعرضت لهجمات من قبل قوات "الانتقالي" الجنوبي التي واصلت تقدمها، وتجاوزت حدود حضرموت إلى محافظة المهرة المجاورة لسلطنة عمان، وقامت بإنزال الأعلام اليمنية ورفع الأعلام السابقة لليمن الجنوبي على الجانب اليمني من المعابر الحدودية مع عمان.

توتر سياسي

وقد أجبرت الضغوط السياسية والمضايقات الأمنية التي تعرض لها رئيس مجلس القيادة الرئاسي، رشاد العليمي، على مغادرة عدن (العاصمة المؤقتة) بعد إفراغ وإتلاف وثائق ومحتويات مكتبه وتسليم مقره في منتجع "معاشيق" الرئاسي لوحدة من قوات "العاصفة" التابعة لـ"المجلس الانتقالي"، وذلك قبل سويعات من توجهه نحو العاصمة السعودية، الرياض، لبحث هذه التطورات.

بشكل أساسي يتنازع حلف قبائل حضرموت من جهة وقوات "المجلس الانتقالي الجنوبي" من جهة أخرى حول السيطرة والنفوذ على مناطق إنتاج وتصدير النفط

قرار العليمي بمغادرة عدن جاء بعد انتقادات لتصريحات وصف فيها ما قام به "الانتقالي" بـ"إجراءات أحادية الجانب" في محافظة حضرموت تقوض أمنها واستقرارها. وكان واضحا منذ البداية أن العليمي غير قادر على ضبط إيقاع الأداء بين المكونات المتنافسة وغير المتجانسة داخل مجلس القيادة الرئاسي الذي يقوده بحيث أصبحت تجربة الرجل ومجلسه مخيبة لآمال كثيرين في اليمن وحتى لدى الرعاة الإقليميين والدوليين للملف اليمني، وفي الأيام القليلة الماضية ووجه العليمي بانتقادات حادة بلغت حد اتهامه بـ"الخيانة العظمى" والمطالبة بمحاكمته لتسببه في "تمزيق وحدة البلاد" وتدهور مجمل أوضاعها السياسية والاقتصادية.

أطراف النزاع


بشكل أساسي يتنازع حلف قبائل حضرموت من جهة وقوات "المجلس الانتقالي الجنوبي" من جهة أخرى حول السيطرة والنفوذ على مناطق إنتاج وتصدير النفط. وكلاهما- الحلف والمجلس- كانا ينشطان داخل المنطقتين العسكرية الأولى والثانية اللتين كانتا تقفان على الحياد بينهما بنسب متفاوتة، فالمنطقة العسكرية الثانية تنتشر في جنوب محافظة حضرموت وفي محافظتي المهرة وأرخبيل سقطرى، ويقع مركز قيادتها في مدينة المكلا عاصمة الساحل، وتتكون هذه المنطقة من تسع قوات قتالية، لكن البعض يعتقد أن الكثير من قادتها الذين ينتمون إلى مناطق في جنوب البلاد مثل أبيَن وشبوة أصبح أقل التزاما بتوجهات مجلس القيادة الرئاسي الذي يترأسه رشاد العليمي المنتمي إلى محافظة تعز، وأكثر ميلا، ولو بصمت، إلى "المجلس الانتقالي الجنوبي".
أما المنطقة العسكرية الأولى فكانت تتخذ من سيؤون، عاصمة الوادي، مركزا لها، وتضم 7 مناطق قتالية، وينتمي معظم منتسبيها إلى ما تبقى من قوات الجيش اليمني السابق بعد إعادة هيكلته بقرار من الرئيس السابق، عبد ربه منصور هادي عقب تنحي سلفه الراحل علي عبدالله صالح.
إلى جانب تلك الأطراف توجد "قوات درع الوطن" وهي تشكيل عسكري مسلح يسعى الى إيجاد نوع من التوازن بين القوات والنخب الموالية لـ"المجلس الانتقالي الجنوبي" أو القبلية المعارضة له في محافظة حضرموت، واستلام وتأمين المناطق التي تنسحب منها القوى المتنازعة كافة.

كيف يجري توصيف النزاع


كان متحدث باسم "المجلس الانتقالي"، منصور صالح، قال إن قوات "الانتقالي" تتقدم نحو مدينة سيؤون "بشكل منظم ومدروس وتحت إشراف التحالف"، حسب قوله. كما ردد قادة ومسؤولون ومناصرون آخرون لـ"الانتقالي" تأكيدات على أن ما يسمى "قوات النخبة الحضرمية" المساندة لـ"الانتقالي" تتكون من أبناء حضرموت أنفسهم وليس من خارج المحافظة، وأن هدفهم هو "تطهير" حضرموت من "الإخوان المسلمين" و"القاعدة"، حسب قولهم.

موقف قبائل حضرموت


لكن رئيس حلف القبائل في حضرموت عمرو بن حبريش العليي قال في تصريحات تلفزيونية: "إن حضرموت تتعرض لغزو قبلي خارجي بآلاف المقاتلين القادمين من الضالع ويافع- الواقعتين على الجنوب الغربي للبلاد- مع تعزيزات عسكرية، واحتلال لعدة معسكرات ومواقع نفطية"، مؤكدا  كذلك أن "مجاميع قبلية مسلحة كانت سيطرت على منطقة ميناء الضبة النفطي المطل على البحر العربي، وكثير من المواقع على الساحل".

بن حبريش برر ما قام به الحلف القبلي الذي يقوده بأنه كان "خطوة استباقية لحماية النفط في منطقة بترومسيلة". وأضاف: "نحن في أرضنا وندافع عن بلدنا تجاه الحشود المسلحة المدعومة من الخارج التي تجتاح أرضنا بقوة السلاح". وأوضح أن "الانتقالي" يريد السيطرة والهيمنة على النفط، وفرض القوة باسم المشروع الجنوبي الذي لا يحظى بقبول في حضرموت، وفق تعبيره.

الأهمية الجيوسياسية لحضرموت


قبل كل هذا وذاك، هناك مخاوف كبيرة من أن يقود هذا النزاع في حضرموت إلى تفكك وحدة البلاد، شمالا وجنوبا وشرقا وغربا، بالنظر إلى الأهمية الجيوسياسية والاستراتيجية لحضرموت، الغنية بالنفط والغاز وبقية الثروات الطبيعية والمعدنية التي تؤمّن مصدر الدخل الأكبر للبلاد، وتستمد المنطقة النفطية في المسيلة، أهميتها من وقوعها في القلب من محافظة حضرموت ذات الأهمية الجيوسياسية والاستراتيجية، وتفصل بين شرق اليمن وغربه وجنوبه، ولطالما مثلت صمام أمان لوحدة واستقرار البلاد.

أ ب
مؤيدان للحوثي يهتفان احتفالا بعيد الاستقلال في 30 نوفمبر في صنعاء

وتشكل حقول نفط المسيلة، في حضرموت أو ما يسمى "القطاع 14" المركز الأول بين القطاعات المنتجة للنفط والغاز والاستكشاف في اليمن البالغ عددها 38 قطاعا، إذ وصلت طاقتها الإنتاجية السنوية إلى نحو 51.7 مليون برميل عام 2006 ما يمثل نسبة 39 في المئة من إجمالي إنتاج اليمن من النفط، بحسب المصادر الرسمية اليمنية حينذاك.

مخاوف أمنية


ويخشى كثيرون من أن يؤدي تفاقم الأزمة في حضرموت إلى عودة حتمية لتنظيم "القاعدة" الذي كان سيطر قبل سنوات سابقة على مناطق واسعة من المحافظة قبل أن يتم دحره بتكاليف باهظة، بشرية ومادية، ولا يزال شبح وجوده قائما برغم كل أشكال التعاون الحالية بين الحكومة اليمنية والمجتمع الدولي لمحاربته.
وليس من الصواب أو الموضوعي في ذروة التنازع والادعاءات والحملات الإعلامية المكثفة، المتبادلة بين طرفي النزاع تبني رواية هذا الطرف أو ذاك، لكن من الضروري أن نعرض لوجهات نظر الأطراف المتنازعة المنسوبة لمصادرها كي تتسنى رؤية الصورة الكاملة لهذه الأزمة بأبعادها المختلفة.

يبقى الرهان، في نظر كثيرين، على دور سعودي فعال ومباشر لخفض هذا التصعيد وإيقاف التدهور في حضرموت ودرء الخطر المحدق بمأرب

تبدو إيران وجماعة الحوثيين هما المستفيدتان الوحيدتان مما يجري في حضرموت من خلط للحسابات وصراع إرادات، محلية وإقليمية، مفتوح على المجهول، ومخاوف من استغلال الحوثيين لهذه الانقسامات للتمدد والتقدم نحو مركز محافظة مأرب الاستراتيجية والغنية بالنفط والغاز أيضا، ويقطنها نحو ثلاثة ملايين من سكانها والنازحين إليها، وتتمركز على جبهاتها قوات "المنطقة العسكرية الثالثة" ومسلحو "مطارح" القبائل في مأرب.
الأرجح هو أن لا نرى تهورا حوثيا في هذا الاتجاه وإن كانت الجماعة لا تعبأ بكلفته، وتقوم بتحركات واستحداثات عسكرية واسعة على كل الجبهات وخطوط التماس بينها ومحافظات تعز ولحج والبيضاء ومأرب.
يبقى الرهان إذن، في نظر كثيرين، على دور سعودي فعال ومباشر لخفض هذا التصعيد وإيقاف التدهور في حضرموت ودرء الخطر المحدق بمأرب، فالجارة السعودية، في رأي عديدين هي الرهان، وتدخلها هو الخيار الوحيد المتاح لتطويق الأزمة بحكم ما يربطها بمحافظتي حضرموت ومأرب، تحديدا، من تداخل قبلي واجتماعي، وهي المعنية أكثر بمستقبل هاتين المحافظتين واليمن والمنطقة بصفة عامة.

font change