ما الذي يتعلمه أحمد الشرع من إخفاقات ليبيا والعراق

يتيح الرئيس السوري للجميع وقتا للتكيف مع الواقع بدلا من ردود الفعل المتسرعة

أ.ف.ب- المجلة
أ.ف.ب- المجلة

ما الذي يتعلمه أحمد الشرع من إخفاقات ليبيا والعراق

مرّ عام كامل على سقوط الأسد ولم تتحقق كثير من الكليشيهات التي هيمنت على خطاب السياسة في المشرق، مثل تفكك سوريا على أسس عرقية ودينية، وفق السيناريو الذي رسمه أصحاب نبوءات الخراب، أي مقولة "الأسد أو لا أحد".

وكنت واحدا من أولئك المتشائمين الذين تنبأوا بالخراب والظلام، وسعدت لأن الأحداث أثبتت خطأهم. وللتوضيح، ما زال الوقت مبكرا للحكم النهائي، غير أن إنجازات الحكومة التي يقودها الرئيس أحمد الشرع فاقت التوقعات وأدهشت الجميع من بكين حتى واشنطن. وبينما ما زال الجدل قائما حول مجازر الساحل والدروز، يتبدى الدرس الأوضح الذي استخلصه الشرع مستمدا من عراق ما بعد صدام، وليبيا ما بعد القذافي. فقد أنجز انتقالا سلسا للحكم في دولة مُفرغة من مؤسساتها أنهكتها حرب أهلية دامية امتدت أربعة عشر عاما، وسارع إلى تبني قدر كبير من الانفتاح والمرونة في السياسة الخارجية في قطيعة مع تشدد الدولة السورية البعثية السابقة ومع النهج الذي ساد أيضا بعد سقوط نظامي صدام والقذافي.

درس مستفاد من العراق

يتحدث كثيرون عن كيف أدت عملية اجتثاث "البعث" في العراق إلى ملايين الرجال العاطلين عن العمل المستعدين لحمل السلاح، ليس فقط في وجه القوات الأميركية والبريطانية، بل أيضا في مواجهة نمط الحكم الشيعي المتأثر بإيران الذي هيمن على عراق ما بعد صدام. وبعيدا عن تجريد الجيش والشرطة من سلاحهما، أبعدت الإدارة الأميركية بقيادة بول بريمر مئات آلاف العراقيين المتعلمين من أطباء ومحامين وموظفين مدنيين، ممن لم يكن لهم دور في الطبيعة الاستبدادية أو في قمع "دولة البعث". ويشكل هذا العامل الفارق الذي يميز الإدارة الحالية التي يقودها الشرع. إذن، ما أكبر درس استخلصه الشرع من تجربة العراق؟

أعاد الشرع بالفعل عددا من أكفأ الدبلوماسيين في وزارة الخارجية السورية ووزارة الداخلية إلى مناصبهم. ولمدة أشهر أبقى أيضا على السفراء المحسوبين على التعيينات السياسية في عهد الأسد

أعاد الشرع بالفعل عددا من أكفأ الدبلوماسيين في وزارة الخارجية السورية ووزارة الداخلية إلى مناصبهم. ولمدة أشهر أبقى أيضا على السفراء المحسوبين على التعيينات السياسية في عهد الأسد بينما كان يدير مفاوضات المرحلة الانتقالية في بدايتها. ولم يعزل أصحاب المناصب الحساسة في السعودية أو لدى الأمم المتحدة، وعندما أقدم في نهاية المطاف على تغيير السفراء جرت العملية بسلاسة مع تسليم منظم للصلاحيات. وفي الشرق الأوسط للصورة العامة وزن حاسم، خصوصا بعد حرب أهلية مدمرة. ويستعيد الجميع مشهد التسليم الهادئ لآخر رئيس وزراء في عهد الأسد، محمد غازي الجلالي، إذ لم يُسحل أو يُعتقل، بل طُلب منه فقط مغادرة مكتبه وإرشاد الهيئة الانتقالية الجديدة إلى الوثائق المهمة. كما صدرت تعليمات إلى شرطة المرور وسائر الهيئات المدنية، التي تقوم عليها حركة المدن الكبرى في سوريا، بالعودة إلى وظائفها مع استثناء كل من تورط في جرائم خلال الحرب الأهلية.

رويترز
إسقاط تمثال الرئيس العراقي صدام حسين في وسط بغداد في 9 أبريل 2003

واللافت أكثر، كما كشف فيلم وثائقي حديث لهيئة الإذاعة البريطانية، أنه حتى الجمعيات الخيرية العائدة للسيدة الأولى السابقة أسماء الأسد ما زالت تُدار على يد المسؤولين أنفسهم الذين عيّنتهم وزارة الشؤون الاجتماعية. وكان أول اختيار للشرع حاكمة لمصرف سوريا المركزي، ميساء صابرين، التي شغلت منصب نائبة الحاكم خلال حكم الأسد. وتواصلت وزارة المالية كذلك مع الدكتور محمد الحسين لطلب المشورة، وهو من تولى حقيبة المالية لما يقرب من عقد كامل قبل اندلاع الحرب في عام 2011، ثم انتقل إلى الإمارات العربية المتحدة بعد بدء أعمال العنف. وما زالت وزارة الداخلية تضم آلاف الموظفين الذين تسلموا مهامهم عن الدولة البعثية السابقة مع استبعاد كبار المسؤولين الذين ارتبطت أسماؤهم بسياسات القمع والإخفاء والقتل.

رغم تعرض الشرع لانتقادات بسبب عدم اعتقال المقربين من الأسد مثل فادي صقر ومحمد حمشو، فإنه يتيح للجميع وقتا للتكيف مع الواقع بدلا من ردود الفعل المتسرعة القائمة على القتل خارج القانون والانتقام

دروس من ليبيا

تخوض ليبيا اليوم صراع شد وجذب بين قائد الجيش خليفة حفتر والحكومة المعترف بها رسميا في طرابلس. وبالمثل، يزداد عدد الموالين السابقين للقذافي الذين أسسوا جيوبا صغيرة للنفوذ في وسط ليبيا وجنوبها. وبرغم غياب المشكلات الطائفية في ليبيا مع غالبية سكانية سنية تقارب المئة في المئة، تتسع الانقسامات القبلية واللغوية على أسس جغرافية إلى جانب التوتر بين الأمازيغ والعرب. وأفضت هذه العوامل كلها إلى عجز المجتمع الدولي عن تثبيت الاستقرار حتى بعد أسابيع قليلة على سقوط النظام، فيما استمر القتال العلني وتداخلت الحسابات الإقليمية والدولية في الصراع بين حفتر وسائر الأطراف. ويبرز عنصر رئيس آخر قاد إلى تفكك ليبيا، وهو الانتقام من مسؤولي نظام القذافي السابقين وأفراد عائلته الذين قُتلوا أو طُردوا بعنف شديد حتى إن أبناء القذافي الباقين، مثل سيف الإسلام، حازوا شعبية واسعة.

أ.ف.ب
قوات الأمن تقف خلال تجمع في مسيرة مؤيدة للحكومة، دعماً لحكومة الوحدة الوطنية التي تتخذ من طرابلس مقراً لها، برئاسة عبد الحميد دبيبة، في ساحة الشهداء بالعاصمة الليبية طرابلس في 24 مايو 2025

أحلاهما مُرّ

حافَظ الشرع، وقد ورث انقساما طائفيا وعرقيا أعقد بكثير في سوريا، على توازن بالغ الدقة، فتجنب فرض أي إملاء من دمشق على الأكراد في الشمال الشرقي أو الدروز في الجنوب أو العلويين على الساحل. وشهدت البلاد تحقيقات علنية وشفافة في تلك المجازر، وبرغم عدم وجود دليل على تورطه في أي قتل مباشر للعلويين والدروز، عاقب الذين اعتُبروا مسؤولين عنها. واستُخدم المسيحيون كورقة بيد الجماعات غير الحكومية المتحالفة مع الشرع والقوى الخارجية في آن واحد. وعقد الشرع لقاءات منتظمة مع جميع القادة المسيحيين وقدم لهم تطمينات واضحة بالدعم، وتجاوز في ذلك مواقف الأسد حين أكد أنّ المسيحيين ليسوا أقليات بل هم متساوون مع سائر السوريين.

أ.ف.ب
امرأة سورية تسير في سوق بمدينة القامشلي ذات الأغلبية الكردية، في محافظة الحسكة شمال شرق سوريا، في 29 أكتوبر 2019

وسعى الشرع إلى التخلص من مصطلح الأقليات، على الأقل في السياق الديني. وعلى الرغم من تدخل إسرائيل في شؤون قيادة الدروز، رفض الشرع إدانة هؤلاء القادة. وفي نهاية المطاف يدرك الشرع أن العالم يراقب، لذلك يوازن بين رغبات العناصر المتطرفة في قواته المقاتلة وبين الحفاظ على الوتيرة الحالية حتى لا تنفجر مجددا مذبحة شاملة على غرار ما حدث في العراق وليبيا.

وبرغم تعرض الشرع لانتقادات بسبب عدم اعتقال المقربين من الأسد مثل قائد "قوات الدفاع الوطني" فادي صقر ورجل الأعمال محمد حمشو، فإنه يتيح للجميع وقتا للتكيف مع الواقع بدلا من ردود الفعل المتسرعة القائمة على القتل خارج القانون والانتقام. ولم يطلق حملة مطاردة على الطريقة العراقية ضد رجال صدام، بل التقى كثيرين وعرض عفوا مقابل التعاون من أجل إصلاح سوريا. والطريقة التي سيخوض بها معركته للحفاظ على هذا التوازن وتهدئة عطش الانتقام لدى حلفائه الأكثر تطرفا سوف تحدد مستقبل سوريا.

font change