غاز الخليج… قوة حاسمة في معادلة أمن الطاقة العالمي

استثمارات بالمليارات وتقنيات خفض الكربون تعزز موقع دول مجلس التعاون الاستراتيجي عالميا

المجلة
المجلة

غاز الخليج… قوة حاسمة في معادلة أمن الطاقة العالمي

يلعب الخليج العربي دورا محوريا في أسواق الطاقة العالمية، ليس بصفته مجرد مورّد مرن للنفط يستطيع التأثير في المعروض من هذه السلعة، بل بوصفه قوة كبرى في قطاع الغاز. ومع تحقق زيادات في الإنتاج، وعقد شراكات استراتيجية طويلة الأجل، وضخ استثمارات ضخمة في البنية التحتية الخاصة بالغاز الطبيعي المسال وتقنيات الحد من الانبعاثات الكربونية، تتهيأ دول الخليج، لتصبح حجر زاوية في أمن الطاقة وذلك في عالم يمر بمرحلة انتقالية.

تقترب منطقة الشرق الأوسط من أن تصير نقطة تحول استراتيجي حاسمة في قطاع الطاقة، ووفق أحدث تقديرات شركة "ريستاد إينرجي"، يُتوقَّع أن يتجاوز الشرق الأوسط قارة آسيا عام 2025 ليصبح ثاني أكثر مناطق العالم إنتاجا للغاز بعد أميركا الشمالية مباشرة. من المنتظر أن يبلغ إنتاج المنطقة نحو 70 مليار قدم مكعب يوميا، مقارنة بـ68,2 مليار قدم مكعب تنتجها آسيا.

لا يقتصر الأمر على حجم الإنتاج فحسب، بل هو أيضا انعكاس لتوجه أكثر وضوحا لدى المنتجين في الخليج العربي نحو تعزيز الاستفادة من مواردهم الهيدروكربونية إلى أقصى حد، بما يحدد مكانتهم ليس فقط كمورّدين مرنين للنفط، بل كذلك كأطراف فاعلة لا يمكن الاستغناء عنها على نحو متزايد في منظومة أمن الغاز العالمية.

الغاز ورهانات الخليج

تقود هذا التحول كل من المملكة العربية السعودية ودولتي قطر والإمارات العربية المتحدة، ولكل دولة منها مسارها الخاص لتعزيز قيمة احتياطيات الغاز إلى أقصى حد، وتوسيع قدراتها على صعيد الغاز الطبيعي المسال، وتأمين عقود تصدير بعيدة الأجل. ليست هذه الطموحات تجارية بحتة، بل هي أيضا جيوسياسية، ومدروسة في عالم مضطرب عادت فيه مسألة أمن الطاقة عنصرا رئيسا في العلاقات الدولية.

تتصدر قطر قائمة تصدير الغاز الطبيعي المسال عالميا، وتعزز طاقتها الإنتاجية بمشروع توسعة حقل الشمال بـ 126 ملايين طن سنويا في 2027

قطر، التي طالما تصدرت قائمة مصدّري الغاز الطبيعي المسال عالميا، تعزز الآن هيمنتها، إذ سيرفع مشروع توسعة حقل الشمال الطاقة الإنتاجية من 77 مليون طن سنويا إلى 126 ملايين طن سنويا في 2027.

وأبرمت الدوحة عقود توريد طويلة الأجل مع الصين وألمانيا وفرنسا، وهي اتفاقات لا تضمن إيرادات فحسب، بل تجعل قطر في صلب استراتيجيات أمن الطاقة لدى القوى الكبرى. ليست هذه الاتفاقات صفقات تجارية عابرة، بل شراكات استراتيجية تمنح قطر النفوذ والمرونة. وبالتوازي، توسّع قطر حضورها في سوق الغاز الطبيعي المسال عالميا من خلال استثمارات خارجية، أبرزها في الولايات المتحدة حيث تمتلك حصة تساوي 70 في المئة في محطة "غولدن باس" الواقعة في ولاية تكساس، بالشراكة مع شركة "إكسون موبيل".

أ.ف.ب.
مقر شركة أرامكو في مركز الملك عبد المالي، وسط الرياض 16 أبريل 2023

ومن المتوقع أن تبدأ المحطة الإنتاج في نهاية عام 2025، بما يعزز دور قطر في أمن الطاقة في الضفة الأخرى من المحيط الأطلسي.

وتظهر دولة  الإمارات، كطرف فاعل مرن وأكثر جرأة في سوق الغاز. تستثمر شركة بترول أبو ظبي الوطنية (أدنوك) في محطة الرويس للغاز الطبيعي المسال، التي يُتوقَّع أن تضاعف طاقتها لتصل إلى 9,6 ملايين طن سنويا في عام 2028، وذلك من ضمن جهد أشمل لتحديد موقع الإمارات كمورّد موثوق به.

 كذلك توسّع أبو ظبي نشاطها في الغاز إلى نطاق عالمي من خلال عقود توريد واستثمارات في البنية التحتية الأميركية الشمالية والأوروبية والآسيوية. ومن أبرز خطواتها توقيع عقود بعيدة الأجل مع ألمانيا واليابان، وتعميق الروابط مع الصين من خلال مشاريع مشتركة محتملة في الصناعات التحويلية والخدمات اللوجستية الخاصة بالغاز المسال.

يشكل حقل الجافورة، أحد أكبر مشاريع الغاز غير التقليدية خارج الولايات المتحدة، محورا لطموح المملكة في أن تصبح مصدِّراً صافيا للغاز في نهاية العقد الحالي

و تعكس هذه التحركات ليس فقط رؤية تجارية بعيدة الأجل، بل أيضا حرصا على تثبيت مكانة الإمارات كشريك موثوق به في نظام الطاقة العالمي المتغير.

السعودية من النفط الى الغاز

أما السعودية، التي ارتبطت صورتها لعقود من الزمن بالنفط، فتخوض الآن بقوة غمار انتاج الغاز. يشكل حقل الجافورة، أحد أكبر مشاريع الغاز غير التقليدية خارج الولايات المتحدة، محورا لطموح المملكة في أن تصبح مصدِّراً صافيا للغاز في نهاية العقد الحالي.

ليس هذا التحول عرضيا، بل جزء من استراتيجيا لخفض الاعتماد المحلي على النفط مع الحفاظ على الدور القيادي في أسواق الطاقة العالمية. كذلك توسّع الرياض نشاطها في الغاز إلى الخارج، إذ وقعت "أرامكو السعودية" اتفاقية مدتها 20 سنة لشراء الغاز الطبيعي المسال من محطة "ريو غراندي" المخصصة للتصدير والواقعة في ولاية تكساس، وتدرس شراء حصة في مشروع الغاز المسال البالغة قيمته نحو 18 مليار دولار والتابع لشركة "وودسايد إنرجي" الواقعة في ولاية لويزيانا.

أ.ف.ب.
حقل غاز تابع لشركة أرامكو بالقرب من مدينة الجبيل الصناعية، شرق السعودية 12 مايو 2020

وإلى جانب ذلك، أبرمت "أرامكو السعودية" مذكرة تفاهم مع شركة "سيمبرا" لتأمين كميات إضافية، مما يعكس نية المملكة بناء محفظة عالمية في مجال الغاز المسال وترسيخ حضورها في أسواق تصدير رئيسة.

ما يجمع بين هذه الجهود هو إدراك مشترك بأن الغاز أصبح أصلا من الأصول الاستراتيجية. منذ غزو روسيا أوكرانيا، تجاهد أوروبا لكي تحل محل الغاز الروسي المنقول عبر الأنابيب غازا طبيعيا مسالا من مصادر أكثر تنوعا، فيما تواصل آسيا زيادة طلبها على الغاز مدفوعة بالنمو الصناعي والحاجة إلى التخلي عن الفحم. وهنا يبرز دور منتجي الخليج العربي في تقديم الإمدادات بالتوازي مع موثوقيتها، في مزيج نادر في بيئة الطاقة العالمية المعقدة.

 تقنيات منخفضة الانبعاثات في مشروع الجبيل السعودي لاحتجاز نحو 9 ملايين طن من ثاني أكسيد الكربون سنويا في 2027

تستند ميزة الخليج التنافسية إلى ثلاثة عناصر رئيسة: أولا، التكلفة، إذ يُعَد الغاز الخليجي من بين أصناف الغاز الأرخص إنتاجا عالميا، وهذا يمنحه تفوقا طبيعيا في سوق شديدة الحساسية للأسعار. ثانيا، البنية التحتية، حيث أن الاستثمارات الضخمة في مرافق التسييل والتخزين والنقل، تمكن المنطقة من زيادة صادراتها بسرعة. ثالثا، الصدقية، إذ يجعل سجل الخليج في الوفاء بالعقود والتسليم بحسب المواعيد منه شريكا مفضلا لدى المشترين الباحثين عن الموثوقية في نظام طاقة عالمي يزداد تفتتا.

تحدي المناخ والكربون النظيف

هذه الفرصة لا تخلو من الأخطار. تمثّل التقلبات السعرية تحديا دائما، ولا سيما مع ازدياد تأرجح أسواق الغاز المسال العالمية وانكشافها على سياسة التسعير الفوري المتذبذبة. كذلك قد تؤدي التوترات الجيوسياسية، سواء في مضيق هرمز أو البحر الأحمر أو في مناطق أبعد، إلى تعطيل سلاسل الإمداد وصد الاستثمارات. إلى جانب ذلك، يبقى مسار التحوّل العالمي للطاقة غير واضح المعالم، إذ إن الغاز، على الرغم من كونه أقل تلويثا من الفحم، يظل وقودا أحفوريا ولا يزال دوره في الأجل البعيد، في عالم يستهدف الوصول إلى صافي انبعاثات صفري، غير مضمون.

أ.ف.ب.
منشأة لإنتاج الغاز المسال في مدينة رأس لفان الصناعية، على بعد 50 كيلومترا من العاصمة الدوحة 18 يوليو 2012

يتخذ منتجو الخليج بالفعل خطوات ملموسة لخفض كثافة الكربون في إنتاجهم من الغاز. تدمج شركة "قطر للطاقة" تقنيات احتجاز الكربون وتخزينه في مشروع توسعة حقل الشمال الشرقي، بالشراكة مع شركة "توتال إنرجيز"، كما تطور منشأة في رأس لفان لاحتجاز 4,3 ملايين طن من ثاني أكسيد الكربون سنويا.

 أما "أدنوك"، فتوسع مشروع "الريادة" المخصص لاحتجاز الكربون، وهو من أوائل المشاريع التجارية في المنطقة، وتعمل على زيادة طاقته من ضمن استراتيجيتها الشاملة لخفض الانبعاثات.

لطالما كان الخليج العربي جزءا أساسيا في منظومة الطاقة العالمية، لكن دوره آخذ في التطور. اليوم، لا يقتصر نفوذه على النفط، بل يمتد ليشمل الغاز، ولأن يكون مؤثرا في مستقبل الإمدادات والتسعير وديبلوماسية الطاقة

وتمضي "أرامكو السعودية" قدما في مشروع الجبيل لاحتجاز الكربون مع دمج تقنيات منخفضة الانبعاثات، وتلتزم احتجاز ما يصل إلى تسعة ملايين طن من ثاني أكسيد الكربون سنويا في عام 2027، والمساهمة في تحقيق هدف المملكة الوطني باحتجاز ما يصل إلى 44 مليون طن سنويا واستخدامها في عام 2035.

أ.ف.ب.
مقر شركة أدنوك للطاقة الإمارتية، في دبي 27 يوليو 2022

كذلك انضمت الشركات الثلاث إلى المرحلة الثانية من مبادرة "شراكة النفط والغاز لخفض الميثان 2.0" (أو جي. إم. بي. 2.0)، لمواءمة أهداف خفض الميثان مع المعايير الدولية.

الدور الحاسم للخليج العربي

تعكس هذه الجهود إدراكا متزايدا بأن التنافسية في أسواق الغاز العالمية باتت تعتمد على الأداء البيئي. يزداد التدقيق الدولي حدة، ولكي يحافظ منتجو الخليج على تفوقهم ويضمنوا النفاذ المستمر إلى الأسواق المهتمة بمسألة المناخ، سيتعين عليهم توسيع هذه المبادرات والريادة في الشفافية في شأن الانبعاثات والحوكمة البيئية.

لطالما كان الخليج العربي جزءا أساسيا في منظومة الطاقة العالمية، لكن دوره آخذ في التطور. اليوم، لا يقتصر نفوذه على النفط، بل يمتد ليشمل الغاز، ولأن يكون مؤثرا في مستقبل الإمدادات والتسعير وديبلوماسية الطاقة. ومع استمرار تغير النظام العالمي للطاقة، يستحق بروز الخليج العربي كمنتج رئيس للغاز اهتماما عميقا.

font change

مقالات ذات صلة