احتفل اللبنانيون بذكرى مرور خمسين عاما على إحدى الحروب الأهلية، عام 1975، والتي كانت أعنف من سابقاتها ولاحقاتها، وما قد يندلع في المستقبل القريب والبعيد لتردّد كالعادة "تنذكر ما تنعاد". لكن قد تنسى لحظة من الزمن وترجع في سحن أخرى أو متشابهة، كالحرباء التي تغيّر هندامها... أو بالأحرى متقنّعة بأشكال تليق بالعنف والتدمير والتهجير، والقتل على الهوية أو الانتماء السياسي والأيديولوجي... لكننا، بتنا نسمع اليوم، وفي ظل الحروب المتهافتة، في عالمها العربي، أو الأجنبي أو الشرقي أو الغربي، في مناسبات اندلاع الحروب في أجزاء من العالم، أن الحرب العالمية الثالثة ستندلع أشد وأرهب من أخواتها وعائلاتها ودمارها.
فعبارة "ستتحول هذه الصراعات والاشتباكات إلى حرب ثالثة"، (نتذكر هول الحرب العالمية الثانية)، صارت ترجع وتذهب وتذيّل في كل تصريح، أو مقالة أو "تحليل" وها هو الرئيس الأميركي ترمب يصرّح إذا لم تتوقف الحرب بين أوكرانيا وروسيا، فستندلع حرب عالمية ثالثة؛ وهذا ما قيل أيضا في الحروب الاقتصادية بين الولايات المتحدة والصين وأوروبا وسواهم... فسهولة لفظ هذه الجمل بات أسهل من أي قول آخر: صار ترنيمة في أفواه المسؤولين وفي أقلام الصحافيين، وتاليا تخوّف الناس.
لو كان العالم اليوم يعيش في حالة من السلام، لأكثرنا من "إنشاد" هذه الجمل الرنانة؛ لكن عندما ننظر حولنا شرقا وغربا، وكيفما تلفّتنا نسمع أو نقرأ عن عشرات الحروب التي تحاصرنا اليوم: حروب بين روسيا، وأوكرانيا، حروب الصين وتايوان، حتى حروب أهلية في السودان، حروب بين الفلسطينيين وإسرائيل. وفي السنوات الماضية حروب بين "حزب الله" وإسرائيل، وأعقبت الحرب الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية انقلاب مسلّح في سوريا على نظام آل الأسد، تهديد بنزاع بين أميركا وإسرائيل ضدّ إيران، حرب بين الحوثيين وإسرائيل والولايات المتحدة، وبين كوريا الشمالية والجنوبية، بين الأكراد وتركيا، (نتمنى أن يضع المسؤولون نهاية لها)، تحاصرنا كل هذه الحروب التي تؤدي إلى نزوح ملايين الناس، وملايين الضحايا، والتدمير، والخراب، وهناك لا يزال من يقول "هذه الحرب أو تلك ستؤديان إلى حرب عالمية ثالثة. ربما للضغط على المتحاربين، أو تخويفهم أو جعلهم يلجأون إلى الحوار والتسوية..
لهذا نقول إن الحرب العالمية الثالثة موجودة بيننا، نراها بأمِّ العين أو على الشاشات التلفزيونية.. كل هذه الأشكال التصادمية بين البلدان، وننفي أنها في مجموعها حرب عالمية بكل المواصفات. وأكاد أقول ربما تغيّرت السبل والأدوات، كما نعرف من تاريخ الأمم والشعوب. الحرب أمّ كل شيء، قائمة في أعمالنا، ونفوسنا، كما في الساحات، ولكن هذا التسابق على إنتاج أسلحة أكثر تدميرا، وأذية، وبربرية، وبات يستخدم في الكثير من المعارك، ينذر بأن ما سيكون من هذه المواجهات، قد يدمّر الكرة الأرضية نفسها، خصوصا التهافت على اقتناء الأسلحة النووية، وآخر الابتكارات التكنولوجيا، وربما يغيّر كثيرا من مجاري المواجهات القائمة أو المضافة أو القادمة.
الحروب نزعة إنسانية تكمن في النقاط المظلمة فينا، بل إنها سرّ من أسرار الإنسانية منذ هابيل وقابيل. إنه الإلغاء. القتل. المجازر. الإبادة.. فهل تماهى العالم بجرائمه؟
ونتذكر أنه بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية (خمسون مليون قتيل، وسقوط هتلر، وهيمنة الحلفاء على البلدان التي حرروها شرقا أو أوروبياً أو غربا)، نتذكر أن العالم ظنّ أنها الحرب الأخيرة، وكرّر ما يكرّره كثيرون "تنذكر ما تنعاد". وهكذا عمّ جوّ من السلام بين المتحاربين، واندلع في مرحلة "الحرب الباردة" بين أميركا والاتحاد السوفياتي. ونسترجع ركون الناس والعباد والأنظمة في أوروبا إلى الاستمتاع "بالسلم" الذي ظنوا أنه أبدي؛ حتى لجأ بعض هذه الدول إلى تسريح مئات الجنود لإيمانها بأن كل شيء يتحرك، الهدوء والسلم. يقول سارتر في هذا المجال: "كنا مرتاحي البال قبل الحرب العالمية الثانية كان العالم قد نسي تناقضاته، ونزوعه إلى المواجهات العسكرية... وهكذا كانت بعض الجيوش تعيش بلا حروب، فصارت الحروب تندلع اليوم بلا جنود. كأنّ التكنولوجيا التي قطعت أشواطا من التقدم، تحارب التكنولوجيا. فمن جيوش بلا حرب، إلى حرب بلا جيوش: وهل هذا يعني أن هذه التكنولوجيات العسكرية يمكن أن تقلّل من الحروب البربرية؟ أَم إنها بطبيعتها الفتاكة قد تكون أكثر بربرية مما عرفنا، القنبلتان الذريتان على اليابان في الحرب العالمية الثانية؟ والسؤال: هل يمكن أن تستغني الحروب الاقتصادية عن الحروب العسكرية؟ أم إن أسلحة الدمار الشامل التكنولوجية الفتاكة تلجم اندلاع الحروب؟ أَم على العكس، فالمصالح والتناقضات والأيديولوجيات الاستعمارية أو التوسعية والأهواء موجودة في كل الحروب، وهذا ما ينذر باحتمالات دائمة في التصادم.
فالحروب نزعة إنسانية تكمن في النقاط المظلمة فينا، بل إنها سرّ من أسرار الإنسانية منذ هابيل وقابيل. إنه الإلغاء. القتل. المجازر.. الإبادة، فهل تماهى العالم بجرائمه؟ هل يقدم المساواة بين الفرد والمجموعة والدول بالقوة البربرية. فالرحمة تغيب إلى قعر النفوس، والأخلاق عموما تموت في أول رصاصة قاتلة في معركة.. فالتدمير جنون، تماما كأي حالة من حالات البشر، جنون إلغاء الآخر، تدميره... ونظن أنه حتى الشجاعة في مثل هذه "المناسبات" كالأحلام التي تطلق الكوابيس على العدو والآخر المختلف. فالحرب جزء لا يتجزأ من العمق البشري، تماما كالسلام.. وهنا نقول ما هي الحرب؟ بل الصراع المسلّح بين أفرقاء منظّمين: مختلفين حول القضايا.. إنها مواجهة بين الإنسان والإنسان.. والفروسية في عمقها ليست سوى احترام القتل، والموت، وهي تعبّر عن نزعة العنف البشري الذي بحث عما يزين نزعته إلى إلغاء الآخر. نزعة عنف في قلب الإنسان، نزعة شيطنة "العدو"، تشييئه، الحطّ من هُويته الإنسانية، أي يعتبرون الآخر من غير البشر، مجرّد هدف يجب تدميره. وهذا ينطبق على بعض الذين مارسوا وآمنوا بهذا الشر، خصوصا عندما يرفضون أي اتفاق سلام معه، أو مداولات، معتبرين أن هذا الآخر هو المعتدي، ويشهرون للإنسانية، ولا وجود لأي ملمح فيه من البشر.. وما من حلّ سوى تدميره.. بل أكثر، يعتبر بعضهم أن حربهم هي للدفاع عن الإنسانية، والديمقراطية، أو الحقائق المعلبة..
من هنا يضع هؤلاء أنفسهم في مقام الأبطال والمدافعين عن حقوق الإنسان. إنه هذا الإحساس بالفخر، عند المحارب الذي يقتل عدوّه، إنها شريعة القتل الأبدية بالحرب.
لكن فلاسفة وكتابا دانوا هذه الحالات. فبالنسبة لأرسطو: "لا تكون الحرب شرعية إلا إذا كانت ذات رؤيا للسلام".
أما مكيافيلي فيرى أنها "عادلة عندما تكون ضرورية"، وسبق أن قيل "الإنسان ذئب للإنسان".
ويرى جان جاك روسو أن "الحرب ليست علاقة إنسان بإنسان بل علاقة دولة بدولة".
أما آينشتاين فيرى أن "في عمق الإنسان حاجة إلى الكراهية والتدمير".
بتنا نعيش تواريخ مهددة، وحضارات هشّة، تغيب فيها قيم العالم، وأشكال التقدم والتطور... وذلك عبر خضوعنا، لمثل هذه الأهداف الحربية أو تصنيفها، وتدويلها، والإتجار بها
ويرى أورويل بعد انخراطه في حرب إسبانيا أن "كل واحد يقتنع بوحشية الأعداء ولا يعترف بوحشية محوره".
من هنا نقول إن الحرب موجودة في كل ثقافة، وفكر وفلسفة ومكان، إنها ظاهرة شعبية وكأنّ ما من إنسان يريد أن ينظر إلى الموت وحده؛ بل هي احتفالية التدمير كأنها احتفالية الأعياد. فمعلنو الحروب يتهمون الآخرين باندلاعها، والغزاة يكتسحون البلدان تحت هُويات معلنة وغير معلنة، "بشروطهم" وأشكال تدميرهم البشر والحجر، وبوقوعهم في "شرّ البلية"... لتصبح في بعض وجوهها، حربا حضارية، لكنها بديلة من حضارة الآخر، وتاريخه، ومستقبله... إنه الغزو والفتوحات المشرّعة، من الأقوى على الأضعف؛ وهكذا تسير الأمور، حتى اليوم، وتحديدا بين من يمتلكون أسلحة متطورة، وجيوشا جرّارة، إما لاستعادة إمبراطوريات قديمة، أو لتأسيس احتلالات جديدة.
إنها الحرب التي لم تغادرنا سواء محدّدة أو غير محددة، سواء أهلية أو عمومية، سواء أيديولوجيا فكرية أو دينية أو طائفية أو حزبية.
وهناك من يقول، إن الحرب هي التي صنعت التوازنات الإنسانية والأدبية والفكرية، والاقتصادية، والعمرانية... فكأنما يقال إن الحضارات لا تتطور وإن مسارات التاريخ تبقى أمامنا لتضخّ وقائع جديدة، وهُويات مضرّجة، ومصائر مجهولة..
اليوم أكثر من أي وقت مضى، كأنما الحضارات باتت مرتبطة ارتباطا لازبا بالتطور التكنولوجي الذي يبتكر بجدارة مجتمعات تتعطش، تنساق إلى لغة التدمير والتهجير والإبادة الجماعية، في عصر الظواهر الذرية والنووية، التي لا تميّز بين الإنسان والحجارة، بين الموت والحياة، بين الجريمة والعقاب..
بتنا نعيش تواريخ مهددة، وحضارات هشّة، تغيب فيها قيم العالم، وأشكال التقدم والتطور... وذلك عبر خضوعنا، لمثل هذه الأهداف الحربية أو تصنيفها وتدويلها والإتجار بها! ووسط تهاليل الانتصارات والاكتساحات، والجرائم الموصوفة...
كأننا بتنا نقول أهي الحرب التي تصنع البشرية أم البشرية هي التي تصنع الحروب؟
لذلك نقول: مهما واجهنا، وأيدنا... "تبقى الحروب هي المسار الدائم للإنسان".
فالحرب إذا غابت أحيانا فلأنها تستبطن عقولنا ومشاعرنا... ولأنها تهيّئ لتحولات لا تشبه "الإنسانية" التي تموء في أعماقنا.