هل نعيش نهاية الحضارة الإنسانية؟

هل نعيش نهاية الحضارة الإنسانية؟

استمع إلى المقال دقيقة

عندما نشهد اليوم، كاستمرار لعصور سوداء عرفها الإنسان من العنف والعنصرية وصراع "الهُويات"، وفشل فكرة الاعتراف بالتعددية: أي استبدال هذه الحالة التعددية بنقيضها (الهُويات). عندما نشهد أن البشرية التي عرفت أزمنة من الهدوء والانفتاح والسلم (وإن نسبيا) وتحرر الحدود من الانغلاق. عندما نشهد اليوم، كأن العالم كله يحارب العالم كله بحروب مدمرة للعمران والحضارة والبلدان بلا رحمة.. ألا نعتبر أنه آن الأوان لطرح السؤال الكبير على أنفسنا: هل نعيش اليوم نهاية ما كنا نسميه أو نعتقده حضارة منذ عشرات القرون أو أكثر، تلك التي تراكمت وتعددت وأعطت إنجازت تليق بالأفكار والطموحات والاختراعات وأشكال التوافق وأنماط الانفتاح؟

أهي الحضارة الآفلة المتنورة الساطعة تنطفئ؟ أيكون استفراس مثل أشكال العنف العصي على الوصف بین الشعوب، نذيرا صاعقا على بداية نهايات "الحلم" الإنساني بالطمأنينة، ونبذ التقاتل والجنون؟

إنها التجربة الجماعية للعنف المادي والمعنوي والسياسي والأيديولوجي والديني والطائفي... أتكون حضارتنا على مثل هذه الهشاشة حتى تنقلب على نفسها؟ تلك الديمقراطيات الغربية والشرقية والحمراء و"الصفراء"، على عكس الأفكار الجاهزة التي تنضح بالتفاؤل، هنا وهناك، فإن هذه الديمقراطيات بكل أسف لم تعُد قادرة على استيعاب العنف لأنها باتت نوعا من الديمقراطيات التوتاليتارية، محكومة بتشرذم التعددية وطغيان أشكال العنصرية وتنامي المشاعر الفوقية، للطبقات والفئات المختلفة. تفرز أكثر المشاعر العنفية والمدمرة. فما هو العنف سوى تعليم "الحب" غیر مشوه بالتفسيرات الكاذبة والمارقة. قوة الحب من قوة العنف، يتلاقيان، ويتباعدان، ويتغالبان... ومن هنا نعود إلى المسألة الأساسية وهي "الحقيقة". من يمتلك الحقيقة ومَنْ عدوها؟ هنا السؤال الجذري. ومن المعروف والمكرر من كافة الفلاسفة، والإصلاحيين، أن تجربة الحقيقة تقدم إلى كل منا بطريقة مختلفة، أي إنه لا يمكن مقاربتها من دون فعل انفتاح )وتسامح) على حقيقة الآخر. والقاعدة الذهبية تتجسد في التسامح المتبادل بالنسبة لحقيقة الآخر، ما دمنا لا نمتلك الأفكار ذاتها أي لا نمتلك سوى معطى نسبي أو مجزء...

حولنا اليوم هناك أنظمة، تحاول أن تستعيد "إمبراطورياتها" السابقة على حساب الدول الصغيرة، التي بات بعضها بلا حمایة أمام الطُغاة الجدد

افتقدنا، إرثا كبيرا من المفكرين والأدباء والفلاسفة، والزعماء الذين توصلوا في الماضي عبر نضالات إلى تحقيق منصات اللاعنف، الذي لعب دورا على الساحة الدولية. وهل يمكن أن لا نستذكر في هذه الأيام المنفلتة بلا عقالٍ بعض الرموز الكبيرة التي ساهمت في زرع فكرة السلم في تلك الأجيال. 
لم تعُد هذه الأسماء موجودة، وتلاشت تأثیراتها: نستذكر هنا الكثير من هؤلاء الذين بشروا بتلاقي الشعوب، أمثال غاندي الذي تأثر بالروائي الكبير تولستوي، والذي أقنعه بعدم اللجوء إلى التحرر بواسطة العنف، بل بالوسائل السلمية... ومارتن لوثر كينغ، وعبد الغفار خان. ولا ننسى مانديلا الذي قضى 28 عاما في السجن قبل أن يقود جنوب أفريقيا نحو الديمقراطية المتعددة لإثنيات مختلفة، وكذلك نتذكر فاكلاف هافل الذي كان في تشيكوسلوفاكیا الذي كان معجبا بغاندي... 
لكن على الرغم من ذلك یبدو أن مفهوم اللاعنف ليس فاعلا في كثير من المواقف، فكثير من المثقفين يستمرون حتى اليوم في التفكير بأن العنف مرحلة ضرورية لبناء انتقال سياسي أو اجتماعي. وهذا ما عرفناه طويلا لدى الأيديولوجيات الماركسية والشمولية والقومية والمذهبية، (دكتاتورية الأقليات تلاقيها دكتاتوريات الأكثرية). 
ولكن عندما يتذكر الناس تلك الأنظمة التي أشعلت الحروب المدمرة، نتذكر هتلر وجنونه الآري العنصري وقولته المشهورة: الآرية ستحكم العالم ألف عام. ولم تصمد سوى بضع سنوات! وحولنا اليوم هناك أنظمة تحاول أن تستعيد "إمبراطورياتها" السابقة على حساب الدول الصغيرة، التي بات بعضها بلا حمایة وأمام الطُغاة الجدد... ولا ننسى مشروع إسرائیل الكبرى بتحقيق "أرض الميعاد"، بخرائطها التي تخترق عدة بلدان عربية، وهذا ما سمعناه من أفواه بعض زعماء إسرائيل بوضوح تام... وفي مقابل إسرائيل، عرفنا إمبراطورية إيران (أربع دول عربية تحت حكمها).

العالم كله مستنفر على بعضه. الحضارة تدمر حضارات أخرى، في عمليات اقتلاع وتهجير السكان، وضرب عمق الثقافات، كإحراق المكتبات والمدارس ونسف المنازل وقتل الأطفال والشيوخ والنساء: أهي الإبادات التى تذكرنا بالبرابرة؟ أهي استعادة لعصر البرابرة الذي ضرب أوروبا ودمر حضارتها؟
من هنا نحاول تحديد- وإن نسبيا- الحضارة باللغة العربية: قال القطامي إن هذا الاسم مشتق من العقل حصرا، ويقال: "لحضارة هي تشييد القرى والأرياف والمنازل وهي مشتقة من الجذر "حضر" والحضر ضد البداوة. و"الحضر" تشير إلى مستوى التطور والتقدم والرقي، وكذلك تعبر عن تطور المجتمع بشكل عام، وتدور حول فكرة الاستقرار والعيش في بيئة منظمة (مثل المدن)، وكذلك المجتمع الذي یعیش أفراده في المدن ويمارسون الزراعة والصناعة. 
من هنا يقال إنها الانتقال من البربرية إلى التحضر والتقدم والازدهار والحضارة، وكيفية الاستجابة للتحديات بشكل منطقي. 
وقال توينبي: إن الأمر متعلق بكيفية استجابة الأمم...
ونتساءل: أین باتت هذه التحديدات التي استخلصت من التجارب الحضارية اليوم؟ لا شيء. فالغرائز وأشكال التطرف (المذهبي والأيديولوجي)، واستعادة اللغة، "البربرية" بأوصافها العرقية، ومحو ما يسمى التعايش والتآلف بين الاختلافات المذكورة، تُذكرنا كلها بالعودة إلى أزمنة التلاغي وسيادة الطغيانية والفتوحات وخطاب التفرقة والتهافت على حضارة الأسلحة المدمرة والمسيرات، وكذلك التسابق على النووي، مما يجعلنا نقول إن تجارة الأسلحة "الفتاكة" اليوم هي الأنجح والأرغب.. فالإنسان بات مجرد هدف، والمجازر الجماعية باتت كأنها انتصار، وإبادة الشعوب بهذه الأسلحة باتت دليلا على القوة والنفوذ، ولا ننسى التكنولوجيا الحربية المدمرة التي باتت تسبق كل التكنولوجيات السلمية والحضارية. إنها الوسيلة الأشرس على الناس مما يبشرنا بأن الذكاء الاصطناعي سيكون المرجح في هذه الحروب الكاسرة، التي قد تصبح حروبا بلا جيوش، تهدم ما تحقق من إنجازات إنسانية واجتماعية وحضارية، حضارة التكنولوجيا تنفى الإنسان لتحل محله... حيث يصبح العالم كله غير صالح للعيش خصوصا الدول الصغيرة التي لا حول لها ولا قوة. بل نقول إن هذه الأرض العظيمة مهددة بالزوال وبالاحترار وبأشكال التدمير والنزوح والموت... هل انتهت الدولة الحديثة ذات الديمقراطيات والمساواة وأصبح الإبداع خلفنا؟
لا بد هنا من أن نتساءل: ما مصير بلدنا لبنان والبلدان الصغيرة، بين هذه "الحضارات" الجديدة المدمرة، أيكون جزءا من ذلك الخراب والدمار والانتكاس وسط هذه القوى الكبرى الجاحدة المهووسة بالانتصارات والأطماع به؟

الزمن يجري، وتجري معه مقامات النيوليبرالية، في عالم إنساني ينقرض، وتنقرض معه الحضارة الألفية والتاريخ الميت

إنها أسئلة مصيرية، أقرب إلى التخوف وحتى الذعر... 
أیكون لبنان (ومن مثله)، جزءا من تقاسم نفوذ "الأمم" وحجر نرد بين أقدامها، وطغيانها؟
بل نقول أكثر: هل تصبح الحضارة الإنسانية ركاما، تهيمن عليه إنجازات الحروب واختراعات "الروبوتات" بأذكیائها الاصطناعيين.
ربما للمرة الأولى في التاريخ، تنهض حضارة لتزيل أخرى، تنهض حضارة من صنع الإنسان، لتزیل حضاراته، ربما للمرة الأولى تتهدد أنواع الإبداعات البشرية، ويصبح الإنسان المبدع "ببغاء" آلية لا تحس ولا تسمع ولا ترى ولا تحیا !
وهكذا تتكاثر الأسئلة، أين الحداثيات الفلسفية والشعرية والأدبية والروائية؟ أين راحت تلك الحياوات الجديدة أو المتجددة التي تأثرناها، أو شككنا بها، أو غيرت الأنماط الثابتة باتجاهات مستقبلية أو حتى ماضوية... أين صار مصير الكتاب والقلم والورق؟ بل نقول هل سيصمد الكتاب في السنوات المقبلة ليحل محله الكتاب الرقمي أو شاشات وسائل الإعلام؟ هل سنشهد في الشوارع أناسا يتأبطون مجلة أو جريدة أو كتابا؟
الزمن يجري، وتجري معه النيوليبرالية، في عالم إنساني ينقرض، وتنقرض معه الحضارة الألفية، والتاريخ الميت.
هل انتهى دور الأرض، أجمل الكواكب وأعظمها، لتنتقل إلى كواكب أخرى، تصنع حضارة يتيمة تتحكم بها الآلات، ليصير الإنسان مجرد آلة... تصنع آلة؟

font change