مسألة السرقات بين الأدباء والفلاسفة والفنانين... قديمة، لم يخلُ منها عصر ولم ينجُ منها مؤلف سواء لأسباب ذاتية أو موضوعية أو سياسية أو تنافسية، تراكمت بين ما هو مفيد وما هو غير جدي، من نقاد وباحثين ومبدعين، حتى باتت هذه العبارة "سرقة" مضرب أمثال وسهولة تعبير.
لكن الأرجح أن كبار الشعراء والمبدعين، في العالم هم أكثر من تعرضوا لهذه الاتهامات.
ومنذ البداية نقول إننا تجنبنا ما يتصل بالمبدع العربي الحديث، تجنبا لسجالات، نحن في غنى عنها.
من هنا اخترنا ثلاثة من أكبر شعراء العرب والعالم: شكسبير وموليير والمتنبي، وهم كما هو معروف ما زالوا أحياء في ذاكرتنا لعظمتهم التي تتجاوز العصور والمدارس الإبداعية، من مسرح، وشعر...
وما يجمع هؤلاء الثلاثة أنهم تعرضوا أكثر من غيرهم، إما لحذفهم عن هويتهم الإبداعية (شكسبير)، وإما لاتهامهم بالسرقة (المتنبي) وإما أن أحدا أهم منهم، وأكبر منهم "صاغ" كتاباتهم الفذة (موليير، شكسبير)، وكانت أسماؤهم مستعارة... (موليير). لكن منهم من خفتت أصواتهم في زمانهم (مثل موليير) وآخرين، ما زالت حتى اليوم تلاحقهم "لعنات" الذين اتهموهم (المتنبي، وشكسبير).
منذ القرن الثامن عشر، بدأت أسماء المرشحين ليكونوا "شكسبير الأصلي" منهم السير والفيلسوف الإنكليزي فرنسيس بايكون المولود عام (1626)، وكان كُونت منطقة "سانت إلبان"
شكسبير
يقول الروائي الفرنسي إلكسندر دوما إن شكسبير أكبر مبدع بعد "الله"، وقال آخرون "إنه أعظم شاعر عرفته البشرية"...
لكن بعضهم (في زمنه) لم يستطع أن يبتلع أن "الله" يتجسد في رجل، مثله.
وقد اتخذت هذه الحملة المتصاعدة منحى اجتماعيا، تمس واقع شكسبير، تحليلا، وبحثا. وقد قدم هؤلاء ذرائع "علمية" وموضوعية، ثابتة، فرأوا أن شكسبير كان ينتمى إلى عائلة فقيرة، لم ينل أي تعليم أو دراسة ولا ثقافة ولا حتى شهرة، إنه مجرد "صعلوك" تسلل إلى المسرح كممثل فاشل، وأُمي، وجاهل، في العلوم، والشعر. وهو، على هذه الحال لم يُعترف به لا من النقاد ولا من الطبقات النبيلة الحاكمة ولا من البلاط الملكي الإليزابيثي الذي كان يتبنى مسرحيات الكبار ويستقبلهم في القصر ويمدهم بالمساعدة المادية والمعنوية... ويشددون على أنه لم يتردد إطلاقا على القصر الملكي...
على هذه الأسس "الموضوعية" العقلانية رأوا أنه من المستحيل أن شكسبير الذي عرفناه في سترافورد، يكون المنارة التي تشع على المسرح والشعراء وأن يكون نبيا في بلاده...
وهذا يعني كما يرون أن وراء اسمه المستعار شخصا عبقريا أقوى وأعظم منه سياسيا وعائليا وثقافيا.
ومنذ القرن الثامن عشر، بدأت أسماء المرشحين ليكونوا "شكسبير الأصلي" منهم السير والفيلسوف الإنكليزي فرنسيس بايكون المولود عام (1626)، وكان كُونت منطقة "سانت إلبان"، والثاني إدوار دوفير الكونت السابع عشر في أكسفورد والقريب من الملكة إليزابيث...
ثم توسعت هذه اللائحة بأسمائها البديلة من شكسبير لتصل إلى 177 كاتبا... وكلها تنوعت في أبحاث جدية وأدبية، حاولت إقناع كبار الشعراء والكتاب وأهل المسرح بأن شكسبير ليس شكسبير العبقري، واقتنع بعض كبار الساحة السابقين والمعاصرين أمثال وايت ويتمان، ومارك توين واضع كتاب "هل مات شكسبير؟"، وهنري جيمس، وشارلي شابلن، وأرسون ويلز، وعمد ثلاثة قضاة من المحكمة العليا في الولايات المتحدة للبحث في هذه القضية، ومعرفة الأسباب... وتوصلوا إلى الحقيقة.
وقد أنتجت هوليوود بميزانية ضخمة فيلما يتبنى أن شكسبير ليس شكسبير، وقد شاهدنا الفيلم الذي عُرض في بيروت على الشاشات العالمية، وكان قاسيا وحاسما صور شكسبير كأنه صعلوك، كوميدي تافه، يسخر منه الناس، ولا علاقة له بالمسرح ولا بغير المسرح...
وأثناء مشاهدة الفيلم، تضايقتُ كثيرا، وغادرت الصالة قبل نهاية الفيلم... هوليوود صنعت منه إنسانا ليس نكرة فحسب، بل مزرٍ، وصغير وهش... صنعت منه سلعة سينمائية رخيصة، وكذلك أنتجت مسلسلات تلفزيونية، ومسرحيات، وعشرات الكتب... تصب في هذا السجال، لكن هذا لا يعني أن الساحة هيمن عليها هؤلاء الرافضون وإنما ووجهت تلك الحملات بأخرى مضادة ورزينة، أسهم فيها أيضا بعض كبار المسرحيين العالميين، واعتبر بعضهم أن شكسبير أول من فرض الخصوصية الأخلاقية على أعماله، لكن من الممكن أن الفِرق المسرحية التي عملت معه هي التي احتفظت بالمخطوطات (وليس شكسبير البديل)، وأضاف أحد الناشرين أن شكسبير هو الذي طلب طبع مسرحيتيه "فينوس وأدونيس"، و"اغتصاب لوكريس". أما عن علاقته بالبلاط الإليزابيثي، فقد صرح المسرحيان بن جنسون وكريستوفر مارلو بأنه هو الذي سعى إلى تبني الملكة إليزابيث مسرحه وأن والدي المسرحيين الكبيرين المكرسين آنئذن مارلو وبن جنسون كانا جنديا و"إسكافيا" ردا على الذين أشاروا إلى وضع شكسبير العائلي المزري الذي يمنعه من اعتراف القصر الملكي به...
وقال المسرحي روبرت كرسي (عام 1520): "بفضل شكسبير اكتسبت اللغة الإنكليزية عظمتها، وهو أول مَنْ مزج بطريقة مسرحية درامية العامية والرسمية، وهذا ما جعل حقا أن شعره المسرحي يوازي العملية الدرامية، أي إنه لم يقع في شعرية النص على حساب مسرحته. وفي شهادة المسرحي الكبير المعاصر لشكسبير بن جونسون، أن "شكسبير كان يمثل بشكل جيد في مسرحياته". وقال بعض الكتاب الإنكليز في بداية القرن السابع عشر: "إن شكسبير أكبر الشعراء كان يوقع المسرحيات التي كتبها" (وهذا دليل على أنه صاحبها). وذكر بن جونسون في قصيدة له أن شكسبير تردد إلى قصر الملكة إليزابيث وجاك الأول، وهذه براهين على أن القصر كان مفتوحا له...
وعلى الرغم من كل ذلك سننتظر أن سلسلة الذين حلوا محل شكسبير ستكبر، ما دامت هذه المسألة باتت في أيدي دور النشر، التي- كي تحقق أرباحا- ستختار لنا شكسبير آخر، لكن ليس شكسبيرنا.. وشكسبير العالم.
بفضل شكسبير اكتسبت اللغة الإنكليزية عظمتها، وهو أول مَنْ مزج بطريقة مسرحية درامية العامية والرسمية
المتنبي
يعتبر بعضهم أن المتنبي هو شكسبير العرب، وروح الأمة في العصر العباسي، ومجود القصيدة العربية، وأغناها، وبالأفكار وحتى "بالفلسفات"، سواء في مطالعها أو في تضاعيفها، قد ينافسه الشاعر الكبير أبو تمام، الذي تأثر به المتنبي (أو اقتبس بعض أبياته)، هو رائد المسألة اللغوية"، وما اختزنها من غموض، سبق فيه الشعر العربي بنحو عشرات السنين، ولا يعادل المتنبي لا أبو نواس الفارسي الأصل والهوى، ولا الشريف الرضي، ولا قبله النابغة، ولا الأخطل، إنه لحظة فارقة في الشعر العربي، قد يكون مقدمة مفتوحة على ما سمي الحداثة، أو النهضة. أشهر شعراء زمانه، وأكثرهم نرجسية: أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي/ وأسمعت كلماتي مَنْ به صمم"...
وربما، ما أصاب شكسبير، من ناحية "منافسيه" وعزاله، أصاب المتنبي، فقد كبر حجمه، أمام الذين ينافسونه على أبواب الأمراء والحكام، وعلى هذا الأساس يمكن القول إنه الشاعر العربي الأكثر تعرضا لنقد الشعراء والعلماء، في حملات عنيفة، لاغية، مدمرة، نُشرت في عدد من الكتب تركز على سرقاته "العديدة"، أو اقتباساته من شعراء مجايلين أو سابقين. لم ينل شاعر عربي من محاولات التدمير والتسخيف ما ناله هذا الشاعر من كل صوب.
ومن بين هؤلاء الصاحب بن عباد الذي انتقده في كتابه "الرسالة الموضحة في ذكر سرقات المتنبي وساقِطِ شعره"، كما اتهمه أبو سعد العميدي في كتابه "الإبانة في سرقات المتنبي لفظا ومعنى"، بسرقة الألفاظ والمعاني. وقد هاجمه بعض الشعراء المعاصرين أمثال الحسين بن حجاج، وابن خالويه الذي عاب على المتنبي وانتقده وكان من خصومه، وكذلك أبو فراس الحمداني ابن عم الأمير سيف الدولة، وكذلك أبو علي الحاتمي في كتابه "الرسالة الموضحة في ذكر سرقات أبي الطيب وساقط شعره"، ويضاف ابن بسام النحوي في كتابه "سرقات المتنبي ومُشكل معانيه". وكذلك ابن وكيع في كتابه "المنصف للسارق والمسروق منه في إظهار سرقات المتنبي"، وعدد كثيرون بعض الأبيات التي سرقها:
سرق المتنبي قول بشار بن برد:
كأن مثار النقع فوق رؤوسنا/ وأسيافنا ليلٌ تهاوى كواكبه.
وقال المتنبي:
فكأنما كسى النهار بها دجى/ ليل وأطلعت الرماح كواكبا.
وسرق مسلم بن الوليد:
أرادوا ليخفوا قبره من عدوه/ فطيب تراب القبر دل على القبر.
وقال المتنبي:
وما ريح الرياض لها ولكن/ كساها دفنهم في الترب طيبا
لكن دافع عن المتنبي عدد من الشعراء والنقاد ومنهم ابن مورجة، وأبو العلاء المعري، وابن جني في كتابه "الخصائص" الذي أشار فيه إلى أن "المتنبي لم يسرق أشعاره بل كانت قدرته على استلهام المعاني من مصادر مختلفة وتطويرها". والمعروف أنه دافع عنه في كتاب خصصه لهذه الغاية.
أما شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعر أبو العلاء المعري فقد أكد على عبقرية المتنبي.
ومن المعاصرين هاجم ابن حجاج وابن سكر وابن خلويه الذي عاب على المتنبي. الملاحظ في هذه المسألة، وبرغم بعض أعداء المتنبي من حساد ومن منافسين، جدية النقد في تلك المراحل والجرأة، في معالجة سرقات المتنبي وعيوب شعره، بل وسعة الاطلاع، واللغة النقدية الدقيقة.
وهنا نقول إن المتنبي، كآخرين في زمانه وقبلهم، كانوا يقتبسون قصائد عديدة حتى النقل، ولا سبيل إلى الدفاع عن المتنبي (قد يكون اتهامه بالسرقة صحيحا)، وقد أثبت هذا هؤلاء الباحثون والشعراء، لكن إذا عدنا إلى الشعر الأموي فسنجد كثيرا من "السرقات، والاقتباسات"، هكذا كان العصر منذ الجاهلية.
الفرضية التي تقول إن كورناي هو كاتب مسرحيات موليير، قد طرحها عدد من الباحثين، وغالبا كانوا خارج التيار الأكاديمي السائد
موليير
أما موليير فنال نصيبه، مثل شكسبير والمتنبي. وهو كما نعرف شكسبير فرنسا، وليس فيكتور هوغو، أو بودلير، أو مالرمه...
وهنا نشير إلى أنه في الواقع لا يوجد دليل علمي وموضوعي قاطع يُثبت أن الشاعر المسرحي كورناي هو الكاتب الحقيقي لمسرحياته... لكن ظهر بعض الافتراضات المثيرة للجدل تقول إن كورناي كان يكتب أو يساعد في كتابة مسرحيات موليير خصوصا في بداياته، بدأت هذه الفرضية في القرن العشرين حين رأى بعض النقاد أن موليير لم يكن يمتلك الموهبة الأدبية الكافية لكتابة أعمال بمثل عمق "طرطون"، أو "دون جوان"، وأن الأسلوب الأدبي في بعض مسرحياته يشبه إلى حد ما أسلوب كورناي سواء في البنية أو اللغة، أو الإيقاع.
كثير من المؤرخين والكتاب والنقاد اللغويين رفضوا هذه النظرية واعتبروها مبنية على تخمينات أسلوبية، من دون أدلة وثائقية، وقد تجاهل المتهِمون أن موليير كان كاتبا بارعا ومسرحيا فذا، كما قد وجدت رسائل ووثائق أو شهادات معاصرة حتى اليوم تثبت أن كورناي كتب لموليير سرا.
أما الفرضية التي تقول إن كورناي هو كاتب مسرحيات موليير، قد طرحها عدد من الباحثين، وغالبا كانوا خارج التيار الأكاديمي السائد. ومن أبرز الأسماء الذين روجوا لهذه القضية أو ناقشوها مناقشة فكرية الشاعر والروائي الفرنسي بيار لوغرانج، وكان من أوائل الذين اقترحوا هذه النظرية، وكتب مقالا بعنوان: "هل موليير هو تحفة كورناي" اعتمد على مقارنات أسلوبية مركزا على التشابه بينهما. وكذلك فعَلَ الباحث الفرنسي دومينيك لافيرون في التحليل الإحصائي للنصوص في عام 2001، مستخدما أدوات التحليل الأسلوبي وتوصل إلى أن هناك تشابها لغويا واضحا بين نصوص كورناي وموليير.
وأثارت كتاباته جدلا لكنها قوبلت بانتقادات عديدة من لغويين وأدباء أبرزهم الكاتب الفرنسي المشهور مارسيل بانيول، الذي كتب في الستينات نصوصا تشير إلى إعجابه بكورناي وتشكيكه في قدرات موليير الأدبية، وهذا ما فعلته الباحثة مكودين جوفروا التي ناقشت هذه النظرية ودرست التحليل الأسلوبي لكنها لم تؤكدها بل تناولت الجدل من منظور أكاديمي نقدي...
أما مؤسسة الأكاديمية الفرنسية والجامعات مثل السوربون فقد رفضت النظرية ورفض معظم الأدباء واللغويين النظرية واعتبروها مجرد فرضية أدبية لكنها غير مدعومة بأدلة تاريخية قوية.
أما كورناي فقد قدم مسرحية ساخرة من موليير...
وبالرغم من كل هذه الواجهات والأطروحات يبقى موليير في عظمته أهم حتى من كورناي، خصوصا عندما تجاوز الصالات المغلقة، أو غير المغلقة وألف فرقة مسرحية جوالة، قدم فيها مسرحياته في كثير من المدن الفرنسية والأطراف...