أزمنة الحداثة

أزمنة الحداثة

استمع إلى المقال دقيقة

من أين تبدأ الحداثة وأين تنتهي؟ سؤال صعب، وربما مستحيل. لكنه، على صعوبته واستحالته يبقى الأهم والأخطر؟ الشق الأول من السؤال يحدد قطعا الشق الثاني. هل يمكن أن تكون للحداثة بداية تاريخية معينة، وإذا تم ذلك فبم نبدأ وكيف نبدأ ومتى نبدأ؟ إذا افترضنا مثلا أن الحداثة الشعرية العربية بدأت مع إطلالات النهضة ورموزها وأعمالها، فمعنى ذلك أننا ننفي وجود حداثة شعرية في التراث العربي ونكون فصلناها عن تاريخيتها وعن جسمها. وإذا قلنا إنها تبدأ مع جيل الرومانسيين أو جيل الرواد في الأربعينات أو جيل الستينات، فمعنى ذلك أن كل بداية تنفي ما قبلها.

وإذا قلنا إن الحداثة تبدأ مع أبي تمام وأبي نواس (في العصر العباسي) أو حتى مع عمر بن أبي ربيعة (في العصر الأموي)، أو مع الكتابات النثرية من دينية وغير دينية، فبأي مقياس نواجه ظواهر هذه الحداثة وتجلياتها؟ من مقياس لغوي؟ أم أيديولوجي؟ أم مقياس اجتماعي، أم سياسي؟ ولنفترض أن ذلك تم، وعندها نقع في إسقاطية خاصة في قراءة النص التاريخي. ومعنى ذلك أيضا أننا نفسر التاريخ العام من منطلق خاص، وهذا يجرنا إلى مواجهة النص التاريخي بنظرة غير تاريخية، ومواجهة النص المعمم والشامل بنظرة جزئية، واستنبات معايير أو حتى إشارات ذاتية من متون موضوعية. وذلك يطرح إشكالية أخرى تتصل بمجمل هذه الإشكاليات: هل يمكن أن نبلور جوابا موضوعيا من خلال موقف انحيازي، والعكس: هل يمكن أن نبلور جوابا انحيازيا من خلال موقف موضوعي. أو بالأحرى، هل يستطيع أي إنسان، أن يواجه التراث بنصوصه الشعرية وغير الشعرية ببرودة علمية، أو موضوعية؟ هل فصل النظرة إلى التراث ونصوصه الشعرية عن الانحياز الذاتي، أو حتى الانحياز الشائع الذي يتحول إلى انحياز "ذاتي" بمواصفات معينة وشروط محددة؟ وإذا كان الأمر كذلك، فهل تصلح النظرة الانحيازية مهما بلغ إخلاصها وتعاطفها وبلغت درجة انفعالها أو شغفها العميق، لأن تكون موقعا مشتركا؟ ألا نقع عندها في نوع من العسف والقسرية؟ ونقع كذلك في البدايات الدائمة وفي الأصفار الدائمة؟

الخمير الحمر بعد انتصارهم في كمبوديا عينوا لحظة الصفر في ثقافتهم واعتبروها البداية التاريخية التي تلغي كل ما قبلها. ونظن أن التاريخ مليء بهذه الأمثال، والثورة الثقافية في الصين نموذج معبر بقدر ما هو مخيب. وفي المقابل، نجد اليوم، وفي الماضي القريب والبعيد، من يحاول إلغاء الحاضر بظواهره وإيقاعاته من خلال قراءة قديمة ثابتة، قراءة ترد كل شيء، النصوص والمتون والأفكار والممارسات والإنجازات إلى نقاط "زمنية" محددة، وتحاول أن تعممها على كل زمان ومكان، فيصبح هذا "الخاص" المحدد مطلقا عاما. حيث إن "الموقع" الفكري، أو الديني أو الاجتماعي، يصبح موقعا "أيديولوجياً" (عن قصد أو غير قصد) مغلقا.

هذا التقنين التاريخي والمطلق معا، يجعل من المدى الإنساني بتفاعلاته وتناقضاته، مدى أحاديا، لا تباين فيه، ولا اختلاف

 هذا التقنين التاريخي والمطلق معا، يجعل من المدى الإنساني بتفاعلاته وتناقضاته، مدى أحاديا، لا تباين فيه، ولا اختلاف. أي كتلة واحدة، متساوقة، تحاول أن تفترس مجمل الظواهر، وتمضغها، وبالتالي تعدمها، تحولها إلى صفر، إلى لا شيء. أي إنها تجعل من ذاتها بؤرة ضوء وحيدة وتحيل ما قبلها وما بعدها إلى ظلمة. ضوء أبدي بين ظلمتين أبديتين... هذه التوجهات "السادية" والأحادية، نجد تجليات راسخة منها في المجال الإبداعي، أي المجال الأكثر خصوصية وحميمية، لتشد كل شيء إلى دائرتها النرجسية.

هذا النوع من الشعراء والنقاد العرب يحاولون نفي كل ما يتصل بالحداثة في التراث الشعري العربي، وتعرية القصيدة العربية القديمة من كل ما يعتبرونه جديدا أو حديثا أو متطورا في إنجازات القصيدة المعاصرة والجديدة، كي ينسبوا إلى أنفسهم صفات الريادة وأبوة الحداثة بكل ما يحمل ذلك من شعارات و"اكتشافات" ومقولات شعرية ونقدية، يحاولون بها إيهام الناس بأن الحداثة الشعرية أو الريادة أو عمليات التغيير التي داخلت الشعر العربي بدأت بهم وبالطبع انتهت بهم متجاوزين عن قصد (أو عن جهل أحيانا) كل الإنجازات التاريخية للقصيدة العربية ومختلف أشكال التطور التي حققتها. مثلا: اعتبر بعض "الرواد" وبعض الحداثيين أن الوحدة العضوية التي هي من سمات القصيدة الحديثة لم تكن متوفرة في القصيدة العربية التقليدية، مبررين "نظريتهم" بأن هذه القصيدة هي مجرد أبيات وأشطر مفككة لا تتمتع بوحدة عضوية ولا بوحدة موضوعية ولا بأي نوع آخر من الوحدات، وأن الوحدات العضوية ولدت مع قصائدهم كنبتة سحرية من العدم. نحن هنا لسنا في مجال الدفاع عن القصيدة العربية التقليدية، ولكن من غير المعقول أن نلغيها لننسب إلى أنفسنا مواصفات كانت من أسس بنائها ومن أسس تركيبها، سواء كانت وحدة عضوية أو صورة دينامية، أو بناء داخليا أو مستوى جوانيا، أو بنية دلالية... إلخ. فالشعر الجاهلي لم يكن، في رأينا، يفتقد الوحدات العضوية. مثلا: قصائد لبيد أو امرئ القيس أو طرفة أو حتى عمرو بن كلثوم، وصولا إلى العصور العباسية وكبارها من الشعراء، كالمتنبي وأبي تمام، وأبي نواس... مرورا بأدبيات النهضة العربية في بدايات القرن العشرين.

يبدو مفهوم الريادات ملتبسا، لأن كل من جاهر بأنه رائد في الشعر أو غيره، لا يمكن أن يقطع جذوره القديمة والممتدة من العصور الماضية

من هنا يبدو مفهوم الريادات ملتبسا، لأن كل من جاهر بأنه رائد في الشعر أو غيره، لا يمكن أن يقطع جذوره القديمة والممتدة من العصور الماضية، فإن شاعرا من دون هذه الجذور، لا يمكن اعتباره رائدا أو مجددا، وشعر بلا جذور عربية جاهلية أو أموية أو عباسية، يخرج من دائرة الإبداع إلى الاقتباس، وتقليد ما يمكن تقليده من الغرب أو الشرق.

font change