من يراجع الظواهر التعددية في حداثات القرن العشرين وما قبله، على امتداد الأنواع والأصناف الأدبية والفكرية والفنية، يكتشف كم أن كل حداثة صارت حداثيات خصبة تطول مجمل هذه الأمور، فجرها رواد ومدارس، فعرفنا طلائع المسرح والسينما والموسيقى والشعر الحر وقصيدة النثر والرواية... كأنها حركات مفتوحة على كل الاحتمالات.
إن مجمل هذه الحركات الحية قامت بشكل أساسي على البحث عما هو غير جاهز من الأفكار، فبرز تسابق الفنانين والأدباء والفلاسفة على إطلاق مدارس جديدة، وتجارب غير مسبوقة، أدت إلى اختراقات في كل هذه الأنواع، أي باتت المغامرات المحسوبة وغير المحسوبة، من أهداف المبدعين على اتجاهاتهم.
ويمكن الرجوع إلى العصور القديمة من تاريخ الأدب العربي خصوصا في الزمنين الأموي والعباسي، لنجد التعددية الفكرية قائمة، كما نجدها في الشعر بين الحب العذري والحب الإباحي، وكذلك تكاثرت الترجمات الفلسفية المتنوعة، وقد عرف الشعر العباسي على وجه الخصوص تعدديات في الكتابات الإبداعية عند كبار ذلك العصر، كأبي نواس وأبي تمام والمتنبي، واستمرت هذه المناخات حتى عصر الانحطاط وما تلاها من نهضة كبيرة، في الأفكار الفلسفية والأدبية والاجتماعية التي ترتكز على العقلانية، وعلى استنفار الخيال ودواخل الإنسان واللغة.
لكن أين صارت هذه التعددية اليوم؟ أين صارت كل هذه الابتكارات؟
كأنما ذهب زمن الأفكار وهذه التنوعات وطوابعها، كأن العالم بات بلا أفكار، فتحولت حركات الحداثة الكبرى في القرون الماضية، إلى حداثة الغرائز بأنواعها السياسية والاجتماعية، كأنما الحداثيات الماضية التعددية تحولت طائفية أو عنصرية.
ننظر حولنا، فلا نجد سوى طغيان التكنولوجيا، يرافقها أزمات وحروب ومواجهات تطغى عليها هذه الأشكال التي تكاد تمسح كل ما أنجزه الإنسان على مدى عصور. كأن كل شيء فقد جذوره الكبرى، وتوقف في لحظاته الأحادية المغلقة.
كأن العالم بات بلا أفكار، فتحولت حركات الحداثة الكبرى في القرون الماضية، إلى حداثة الغرائز بأنواعها السياسية والاجتماعية
صحيح أن الأديان السماوية مفتوحة على عكس مخلفاتها المذهبية، إلا أنها تسترجع أزمنة الحروب الدينية، بطريقة أخرى، وبأوجه متعددة، سواء في الشرق أو في الغرب، حيث خلعت الأحزاب السياسية تعددياتها واكتست بما يجعلها مجرد نصوص تطل من خلالها التعددية العرقية والدينية.
أين عراقة أوروبا في ومدنيتها، عندما يشهر فلاسفتها الجدد ومفكروها وتياراتها، سيوفهم ضد الأقليات، سواء في فرنسا أو في غيرها، ليمارسوا عليهم أبشع أنواع الاضطهاد والإلغاء، وبدلا من أن يخصبوا التعددية المدنية، ها هم يغرقون في تعدديات موبوءة بالغرائز، وها هي التعدديات الفكرية تتحول إلى أحادية، وما عاد اليوم ينفع التذكير بتنوع المؤسسات السياسية والفلسفية، كأنما أفلت تلك العهود.
كأنما نعيش اليوم زمنا مضى عندما برز في أوقات مختلفة نوع من العداء للأديان، فانقسم العالم إلى شقين: من يدافع عنها ومن يعلن موتها كما فعل الفيلسوف الألماني نيتشه، وبعض المفكرين والأحزاب، نادى بفصل الدين عن الدولة، وأن الدين كان ذريعة للحروب، والدمار ومنطلقا للمذابح والخراب، متناسيا ربما أن الأنظمة المدنية والأيديولوجية تسببت بحروب ونزاعات مدمرة على مدار التاريخ؛ وهكذا انشطر العالم بين التعدديات الدينية والمذهبية والمدنية، لكن بعد هذه المواجهات، حسم الامر للتعدديات العنصرية.
وهكذا، معظم العالم ينتفض على نفسه وتتراجع التعدديات العقلانية لصالح العصبيات الدينية والمذهبية. بل إن المواطنة باتت كأنما انتقلت من جوهر التعددية المدنية إلى الهوية المذهبية. أي أن الناس ما عادوا يسمون بأفكارهم واتجاهاتهم، بل بهوياتهم هذه، وهذا يحطم تلازم وجود الفكر النقدي والتغييري والديني، كأن بعض البلدان تحسب الواقع بالأكثرية والأقلية، وصار الجواب يرتبط بالتعداد لا بالإنجازات المدنية وغيرها، وعلى هذا الأساس تنفجر حروب المناطق وحدودها وناسها. هل الطائفية يمكن أن تكون تعددية؟ لا في نظرنا، فتعددية الهويات المذهبية لا تصنع تنوعات بل أحادية متقاسمة. فالعالم الذي اخترق بإنجازاته التكنولوجية كل الدرجات وكل الحدود، ها هو اليوم يحسب، عاجزا عن صنع تعددية علمية أو ثقافية أو تاريخية أو إنسانية..
الأديان كما علمنا التاريخ مفتوحة على العالم، وعلى كل شيء، والطائفية ظاهرة مغلقة حتى الاختناق، حتى الإلغاء والقتل والمجازر
باتت التعددية اليوم عرقية أو مذهبية، عودة إلى أزمنة اعتبرناها أفلت وتجاوزناها. لكن نود أن نشير إلى أن هناك فارقا بين الأديان الإلهية والعنصرية أو الطائفية أو التعصبية، فالأديان كما علمنا التاريخ مفتوحة على العالم، وعلى كل شيء، والطائفية ظاهرة مغلقة حتى الاختناق، حتى الإلغاء والقتل والمجازر.
ومن هنا نقول إن التعددية المذهبية حلت اليوم محل التعددية المدنية والعقلانية والإبداع.