أين صار المثقّف الملتزم؟

أين صار المثقّف الملتزم؟

استمع إلى المقال دقيقة

من هو "المثقف الملتزم"، سؤال يستدرج مختلف الأشكال، والطبقات والمهن، اعتدنا قراءته، أو سماع أهله، على امتداد القرن العشرين، من أحزاب وتجمعات وأفراد تختلف هُوياتهم وانتماءاتهم. لماذا "المثقف الملتزم" وليس العامل والنقابات والمؤسسات والأحزاب... ربّما جميعهم، وربّما كما اليوم بقاياهم.

وُلدت هذه العبارة في القرن التاسع عشر، من قضية دريفوس، الضابط الفرنسي اليهودي الذي اتُّهم بالخيانة وحكم عليه بالإعدام. هنا انقسم الكتّاب والشعراء والفنانون، قسم يؤيّد، وآخر يطالب بمراجعة قرار الإعدام وتبرئة المحكوم عليه. أي إنها العبارة التي ظهرت بالفرنسية "الانتلكتويل"، وانتشرت في مختلف أصقاع البلاد، وأدركت عالمنا العربي. فهي تُلفظ بالفرنسية، كما التلفزيون والراديو وسائر البضائع المستوردة.

لكن، برز في المقابل للتنافس في تلك المرحلة تعريف آخر "المثقف الثوري"، ثم بعدها "الشامل"، و"المثقف التخصصي"، الذي أطلقه بعض الفلاسفة الجدد في القرن العشرين... ومنهم الفرنسي ميشال فوكو...

وكان المثقف الملتزم ينتمي إلى اليسار، وكان الناس يصغون إليه باعتباره "ضمير الجميع". وهذا ما حدث في بدايات القرن العشرين عندما قامت الثورة البلشفية الحمراء وتبنّتها الأحزاب الشيوعية... في عالمنا العربي، وفرضت على حواشيها عناوين أخرى، خصوصا عندما تنوعت الأحزاب الثورية وفي القضايا السياسية والوطنية كالقضية الفلسطينية، فبات عندنا "المثقف التحريري، والمناضل، والمكافح"، فامتلأت، الشوارع بالمظاهرات والندوات في صراع حتى بين فصائل الحزب الواحد. إذن بات هناك مثقّفو القضية، ثم مثقّفو الحرية، والديمقراطية... وبرزت في هذه الأثناء النقابات على مختلف مذاهبها وأنواعها للدفاع عن حقوق العمال والفلاحين والأطباء والمحامين... وهي المجالات المتخصصة...

وانضم الكثير من المثقفين الملتزمين إلى هذه الحركات، تماما كما حصل في فرنسا، أي المنشأ، كجان بول سارتر، الذي انضم إلى الحزب الشيوعي الفرنسي عندما احتل النازيون فرنسا في الحرب العالمية الثانية منخرطا في مناخ "المثقف الملتزم".

ولكن يمكن الإشارة إلى أن من الأسباب الاصطلاحية تنطلق هذه الارتباطات كجزء لما يسمى العالم العلمي، لكن المعنى على عكس ذلك يأتي من الخارج، من الحزب ومن الدولة والجمهور، استخدمت باعتبارها تشير إلى المثقف المتخصص، أو المثقف الجماعي الذي تبنّاه الفيلسوف الفرنسي بيير بورديو. وهي وسائل لفرض العقلانية في السياسة...

وكما أسلفنا انتشرت هذه الروح الملتزمة بين العرب والدول الديمقراطية علما أن الأحزاب الشيوعية العلمية تبنّتها تحت ستارة السلطة، وأحيانا من أجلها، وأخرى من أجل "كسب المثقفين".

"المثقف الملتزم" في هذا الزمن بات "ظاهره" نادرة، فالزمن كله تغيّر، والظواهر الفكرية الكبيرة التي عرفناها، قد تغيّبت، بل إن الإنسان نفسه مهدّد في إنسانيته؛ وفي دوره، وفي وجوده

لكن منذ زمن ليس بقريب، بدأت هذه الحالة المضيئة، تضعف، بعدما بدأ البؤس الثقافي يعمّ في العالم كفرنسا، والولايات المتحدة وبعض أوروبا ليتفاعل سلبا، خصوصا بعد رحيل كبار المثقفين في فرنسا، أمثال لاكان وريمون أرون ورولان بارت وبيير بورديو وجاك دريدا... مرآة أفول فاقعة انسحبت على العالم العربي وسواه، بعد فشل القضايا الكبرى والأفكار المتقدمة وتعددية الانتماءات، بل يمكن القول كما نلمسه اليوم، كأن العالم الحديث تخلى عن كل إنجازاته الثقافية وقضاياه الكبرى، وتساقطت وسائل الالتزام به، وكأن العالم اليوم بات بلا أفكار حية، غارقا في الأفكار الجاهزة المعلّبة المتراكمة بلا أفق. فالمثقف الملتزم العضوي لم يعُد عنده ما يقوله، فوسائل الاتصال التي توفر لأي مدّعٍ شهرة ومنافع مادية، برزت جماعات أدبية وفلسفية ضحلة، انتفخ دورها في المنتجات الثقافية كظاهرة مرضية وكذريعة سجالات عقيمة وسهلة وفارغة على وسائل الاتصال....
وكما أن هذه" النهضة" الملتزمة ضعفت بعد هزيمة يونيو/حزيران، كأنما انطفأ بصيص الأمل الذي كان قائما قبل انطلاق الثورة الفلسطينية، وخروج المقاومة الفلسطينية من لبنان إلى تونس، وما تلاها من اتفاقات سلم مع إسرائيل... فقد انطفأ وهج المقاومة حتى في المجال الفكري، والفلسفي، وخصوصا الأدبي، ولم يعُد للمثقف في بعض البلدان أن يشارك في صنع الحدث، بل الحدث الذي يُصنعه....
وفي هذه المراحل حلَّ المثقف المزيّف محل المثقف الملتزم، وهو الذي تنحصر مهمته في القفز بين الانتماءات والمواقف لأغراض مادية أو سلطوية، وطائفية، وهذا ما برز بعد اندلاع الحرب عام 1975.
لم يعُد المثقف كما يقول الكاتب إدوارد سعيد في كتابه "المثقف والسلطة" مركّزا على مقولة "إن الحق يخاطب السيف"، ويشبّه المثقف الحقيقي، بالرحّالة "كونه لا يطمئن إلى موقع وزمن وسلطة، وميزته الأولى الحرية". 
ويكفي أن نراجع ما سمّي "بالفلاسفة" الجدد في فرنسا، 1975، لنرى ظهور المثقف" البديل" متخليا عن كل الموروثات الفلسفية الجدية، بل هو الفيلسوف الذي ألف التلفزيونات والوسائل الإعلامية وهو يدين لبروزه لوسائل الاتصال لافظا كل مضمون وكل جدية، كأنه "فيلسوف تاريخي حقيقي لا تلازمه العقلانية والواقعية، إنه التزام بلا التزام بل نقيضه عندما نجد أن الفلاسفة الجدد وأبرزهم برنانر-هنري ليفي أيّدوا إسرائيل تأييدا مطلقا، ومن هنا متلازمة الأحزاب الفرنسية، التي التزمت مناخات المرحلة، بعد سقوط المنطق الواقعي الحي، وحتى الحقائق الكبرى، أمثال مارين لوبان، التي جاهرت بالانفصال عن أوروبا، (وهذا هو موقف ترمب)، و"النضال" ضد الأفارقة والغرباء والمسلمين في فرنسا: كأنما "ملتزمة" بالعرقية والتطرف.
ولا ننسى هنا بعض كبار الروائيين ميشال هويلبيك الذي "تمتع" بحقد صارم ضد الغرباء والعرب والمسلمين، ونشر رواية "الخضوع" التي تنبّأ فيها بأن المسلمين سيحكمون فرنسا، وخصوصا بشراء المثقفين الفرنسيين... هذا الروائي الكبير (كما عهدناه في بعض روايات جيدة) فشل في هذه الرواية الضحلة، الخطابية المليئة بالسموم العنصرية والكراهية...
وهذا ما يقصده المفكر والكاتب إدوارد سعيد: "المثقف الملتزم كما أفهمه ليس داعية سلام ولا باني مفاهيم، لكنه شخص يلتزم المعنى النقدي ويرفض الأفكار السهلة أو الجاهزة... أو المصالح الذاتية"..
من هنا نقول إن "المثقف الملتزم" في هذا الزمن بات "ظاهره" نادرة (أو بات موجودا عند بعض الأفراد)؟ فالزمن كله تغيّر، وحتى الموروث الفلسفي تبدّد، والظواهر الفكرية الكبيرة التي عرفناها، قد تغيّبت، بل إن الإنسان نفسه مهدّد في إنسانيته؛ وفي دوره، وفي وجوده.
إنه زمن انخراط المثقف في ما ينقضه، وفي ما يقدمه؛ فالثقافة لم تعد من صنع البشرية، ولا عُدم فيها الالتزام الفكري والأدبي والفلسفي والفني، خرج الإنسان من "جنة الإبداع"، إبداع التاريخ والواقع والحياة، كأنه صار أصغر من أيّ آلة صغيرة أو كبيرةً، رديفا من نقد ذاكرته وماضيه وإنجازاته وحتى إنسانيته. كيف يمكن أن نتكلم عن "الالتزام" من دون قضاياه، وهواجسه وإحساساته: فالآلة أمامه، والغبار وراءه، لا حركات تاريخ ولا فلسفات ولا فنون ولا أحياء ينتمون وحتى لا موتى. 

للمرة الأولى، تحل الآلة محل الكائن الإنساني، فمن أين ستأتي الأفكار والهواجس والأحاسيس والقضايا والالتزامات، ما دام هذا الإنسان الذي جعله الله سيّدا على الطبيعة، مجرد هيكل

هل هو موت الإنسان؟
قديما، كان هناك توازن بين اليوتوبيا الاجتماعية واليوتوبيا التكنولوجية، أي توازن بين إنجازات الاثنتين، وهذا التوازن تحديدا صنع الحضارتين الكبريين اللتين شارك الإنسان فيهما، بالثورات الاجتماعية والفكرية، والأيديولوجيا. أي إن الإنسان كان هو سيّد الحضارتين، وهو منتجهما. أي إن هاتين الحضارتين بتوازيهما، قد أعطتا الإنسانية دورها في مختلف الأمور...
لكن عندما خُلع الإنسان، سيّد الكون، عن عرشه وبسلاح التكنولوجيا... لم يعُد لوجوده سوى قيمة مبتكر "الأشياء"، والإمعان في إلغاء دوره... وحضوره. كأنما بات آلة تصنع آلة مجردة من كينونتها، بات روبوتا يصنع روبوتا وشاعرا يسلّم شعره إلى الذكاء الاصطناعي، وكذلك فلسفته، وإيمانه ومصيره وإبداعه...
سلم العبقرية البشرية إلى نقيضها، إلى جمادها...
وللمرة الأولى، تحل الآلة محل الكائن الإنساني، فمن أين ستأتي الأفكار والهواجس والأحاسيس والقضايا والالتزامات، ما دام هذا الإنسان الذي جعله الله سيّدا على الطبيعة، مجرد هيكل، فيه كل ما يميزه عن الأشياء التي يصنعها!
فمتى يصبح الشيء مثقفا ملتزما أو مثقفا غير ملتزم؟ أم إنه مجرد إنسان ضاعت فيه كل ذاكرته ومستقبله!
وعندما نقول إن هذا العالم بات من دون أفكار، يعني أن الإنسان تخلّى عن عقله الإنساني، وسلّمه لذكاء اصطناعي.. ماتت فيه كل جذوره!
مات فيه الزمن!
فما أغربنا اليوم.. أن نحاول التكلم على "التزام المثقف" في الوقت الذي يخشى أن يغيب الالتزام كما يغيب المثقف، ويموت التاريخ نفسه! 
 

font change