من هو أكبر شاعر وطني؟

تعابير "عملاق الشعر" أو المسرح غير مناسبة، حيث تلتبس بالخطاب وبالغربة عن مناخ الإبداع

من هو أكبر شاعر وطني؟

استمع إلى المقال دقيقة

من هو أكبر أديب أو أشعر شاعر، أو روائي وقصصي، وفيلسوف؟

ما هي القواعد التي تتبع لمثل هذا التكريم؟ أو هذا اللقب؟ من يتمتع بالتعبير عن الروح الوطنية أو الشعبية؟ أم من أنجز ثورة في اختصاصه؟ أم من أسس مدرسة طليعية في مجاله، من دون أن يتوج بهذه الهالات الوطنية؟

هذا هو السؤال الأصعب في التسمية، وصولا إلى الجوائز المتعددة في هذا الشأن. بمعنى آخر، ثمة أسئلة تتأرجح بين الأخلاقية والاتجاهات الكبرى في أشكال التعبير، وصولا إلى مرامي الإنتاجات المتتالية، وسباق الكتّاب إليها؟

إن هذه الظاهرة الملتبسة، ليست قديمة جدا في الغرب وبعض الشرق. فقد بدأ بعضها في القرن الثامن عشر الرومانطيقي في فرنسا حيث أُنشئ ما يسمى" الباتيون" أو (مقبرة الخالدين) الكبار، كعمارة تكريمية للراحلين الذين جسدوا "روح الوطن" التي تنعكس في فنانين وأدباء وسياسيين وفلاسفة، أي إنها "دار الخلود" لمن ترك أثرا دامغا في وطنه.

وعلى هذا الأساس تتجاوز هذه التكريمات "العمارة" إلى المؤسسات الثقافية وسواها، ويعمد الفنانون إلى النحت على جدران المكتبات والجامعات أسماء هؤلاء الذين اختيروا لمثل هذه المقامات، أمثال هوميروس، وفرجيل، ودانين، وشكسبير، وسرفانتس، وكذلك في المتاحف، والكونسرفاتورات الموسيقية وصالات الأوبرا. هذا ما تم في فرنسا وإنكلترا وألمانيا...

لكن، هل تكفي هذه الأوصاف الأدبية والفنية؟ فالكاتب الكبير يُحدد لكونه منتشرا خارج حدود بلاده إلى درجة يتحول فيها إلى "بضاعة" دعائية تُصدر إلى الخارج... فهوميروس وفرجيل مثلا عالميان، وكذلك دانتي وشكسبير وبوشكين، بمعنى أن الكاتب هو الذي يمثل روح وطنه في الخارج، فلا بد أن يكون مقروءا أو شائعا أبعد من حدوده، ولا بد عندها أن تكون الأعمال ممتدة أبعد من حدودها، أي أن تكون هناك دول عالمية كبرى، وكذلك لغات رائجة كبرى، وأحيانا تتسم بالاستعمار.

لكن بدا أن كثيرين منهم يمكن تسجيلهم على الرغم من أهميتهم مثل بودلير وسيوران، وبعدهما، بريتون، وأندريه جِيد... إن الاختزال تجاوز "المجاميع" بكاتب واحد كبير، لأن التاريخ علمنا أن المنافسات تكون عادة بين كاتب واحد وآخر، أو ثنائيات متنافسة، مثلا بين فولتير وروسو، بين ديكارت وباسكال، بين كورني وراسين، بين سارتر وألبير كامو، بين فيكتور هيغو وبودلير الذي وُصف بالكاتب الملعون (مع رامبو، وأنطونان أرطو)... وسينتظر بودلير الحرب العالمية الثانية ذكرى رحيله الخمسين ومئوية ولادته لتزول صفة الملعون عنه ويسمح بنشر قصائده الممنوعة ضمن أعماله الكاملة.

إلى ذلك فبودلير لا تنطبق عليه مواصفات التعبير عن "روح وطنه" على عكس فيكتور هيغو الذي نُفي إلى الخارج وعندما عاد من منفاه إلى وطنه، استقبلته جماهير باريس بالألوف، وكذلك عندما توفي، حيث سارت في جنازته حشود كبيرة، أما بودلير فلم يواكب رحيله سوى بضعة أشخاص وكلب شارد!

ومن هذا الإطار الملتبس، أجرت مؤسسة "هاري" استفتاء يطرح سؤالا على عدد من كبار الأدباء والفلاسفة والباحثين والروائيين: من هو الكاتب المفضل الذي يجسد بثقافته الفذة وعبقريته في فرنسا وخارجها، وكانت النتيجة أن كبار الأدباء الذين أحدثوا مذاهب جديدة شعرية أو غير شعرية في لغتهم ومضامينه انتشرت في معظم أرجاء العالم، أمثال ستيلين، وألبير كامو، وسارتر، ومالرميه وبودلير وشاتوبريان، وروسو وباسكال ورامبو وبول إلويار.. لم ينالوا سوى بضعة أصوات معدودة، وحتى بعضهم لم يفكر أحد به، ليفوز فيكتور هيغو بهذا اللقب.

يمكن القول إن العصر العباسي بعصوره، أنجب شعراء اطلعوا جيدا على الفلسفة اليونانية، والتي ترجمها بعض الفلاسفة العرب، ويمكن في هذا الإطار ذكر أبو حيان التوحيدي هذا القامة الفكرية والشعرية

يذكرني هذا الاستفتاء بآخرٍ قامت به مجلة "ميوزيك" الموسيقية الأميركية، حيث كونت لجنة واسعة من نحو 136 عنصرا، فنانين ونقادا ومؤلفين وعازفين، ومغنين... اجتمعوا تحت سؤال: من هو أعظم موسيقي عرفته البشرية، وعندما عجزوا عن حسم الاختيار لجأوا إلى عملية تصويت، ففاز الفنان العظيم بيتهوفن بهذا اللقب.
ونحن نجد أنه في العمليتين الاستثنائيتين، هناك تجاوز لمفهوم التعددية في التعبير عند الكتاب وعند الموسيقيين، أي اختزال الأذواق في شخص واحد، علما أن بودلير ورامبو هما الأكثر انتشارا اليوم في العالم من هيغو، وهما فجرا الحداثة الثورية في اللغة الشعرية... لكن كما سبق وقلنا: هما من صنف "الملعونين"، الذين وإن مثلوا القراء والباحثين فهما من الملعونين، أي ليسوا من جوهر ولا من روح الشعب والوطن والأخلاق السائدة!
لكن ماذا عن عالمنا العربي ببلدانه ومدنه وكتابه، هل يمكن السؤال: من هو أكبر كاتب عربي؟ امتدادا على التأريخ؟
بدأت المسألة في الشعر الجاهلي، حيث لا وطن، ولا شعب (كما اليوم)، بل القبائل، وكان لكل قبيلة شاعرها الذي يدافع عنها، في حروبها وقضاياها، بقدر ما كان هناك تنوع في لغة الشعراء وكان استهلال القصائد بالوقوف على الأطلال (والأجمل القول رثاء الأطلال) وهذا التنوع يضم ما يضم من البيئات، ونوازع وأساليب ورثت معظمها الفتوحات مع الإسلام وتوسع الآفاق المكانية والثقافية والنقدية، فمن القبيلة إلى "الدولة"، إلى الخليفة، والحاكم، وأصحاب الشأن، كلها حلت محل القبيلة من دون تجاوزها كلها. وهكذا وفي الإطار، بدأ النقاد يصنفون الشعراء، وكل منهم يختار مَنْ هو أشعر الشعراء. ومراتبهم، وانتماءاتهم، وانتقلت فنون القصيدة إلى المدائح والهجاء، والغزل، والرثاء.
وانفتح باب التصنيف والاختيار، ونتوقف عند بعضها:
قال أبو عبيدة: فُتِح الشعر بامرئ القيس، وخُتِم بذي الرمة.. وقال: قيل للأخطل: أنت أشعر أم الفرزدق؟ قال: إن الفرزدق قال أبياتا ما استطعت أن أكافئه عليها. 
وصنف أبو عبيدة: أشعر الناس أهل الدبر خاصة، وهم امرؤ القيس وزهير بن أبي سلمى، والنابغة.
وقال الفرزدق: امرؤ القيس أشعر الناس. وقال جرير: النابغة. أما الأخطل فيرى الأعشى أكبر الناس. وقال ذو الرمة: لبيد أشعرهم.
واعتبر أبو عبيدة: امرؤ القيس ثم زهير والنابغة والأعشى ولبيد وطرفة فهؤلاء أهل العرب، فمن قال إن السبق لغيرهم فقد خالف ما أجمع عليه أهل العلم والمعرفة... وهم الأبرص وعنترة وعدي بن زياد....
وذكر ابن عبيدة في الطبقة الثالثة من الشعراء كعب بن زهير، ودريد بن الصمة وعنترة وعروة بن الورد والشماخ ابن زهير وعمرو بن أحمد.
قال المفضل: هؤلاء فُحول شعراء أهل نجد الذين "ذموا ومدحوا وذهبوا في الشعر كل مذهب".
فأما أهل الحجاز فإن الغالب عليهم الغزل.
وذكر أبو عبيدة أن الناس أجمعوا على أن أشعر أهل الإسلام هما الفرزدق وجرير وذلك لأنهما أعطيا حظا في الشعر لم يعطه أحد في الإسلام...
أما في العهود التالية فقد برز المتنبي شاعرا كبيرا، (ما زال يعتبره بعضهم أنه أكبر شاعر عرفه العرب...).
وكذلك أبو نواس الذي جدد الشعر، لكن لا يمكن أن يوصف بما وصف به المتنبي، فهو شاعر الخمر، وهاجي العرب... باعتبار أن أصله فارسي... وكذلك أبو تمام، الذي أثر بشكل لافت في المتنبي خصوصا في مطالع القصائد، التي ذهبت عندهما مذهب الأمثال...
ويمكن القول إن العصر العباسي بعصوره، أنجب شعراء اطلعوا جيدا على الفلسفة اليونانية، والتي ترجمها بعض الفلاسفة العرب، ويمكن في هذا الإطار ذكر أبو حيان التوحيدي هذا القامة الفكرية والشعرية، والنقدية... يجمع بين فنون القول والفلسفة والشعر... وبعضهم سماه "فيلسوف الشعراء وشاعر الفلاسفة".
من هنا نطل على شعراء الحداثة من نهاية القرن التاسع عشر وصولا إلى القرن العشرين، فبعضهم اعتمد القديم وبعضهم تأثر بالغرب وخصوصا الفرنسية والإنكليزية، وحاول تسجيل ملامسة تجديدية كالأخطل الصغير، على عكس أحمد شوقي الذي حافظ على موروثه العربي...
وكذلك أمين نخلة، الذي افتتح خصوصا في نثره الشعري، تجاوزا لما عرفناه عن النثر العربي، وقدم رائعته المشهورة "المفكرة الريفية". أما سعيد عقل فقد سجل نقلة في الشعر العربي متأثرا بالرمزية الفرنسية... ثم، برزت قصيدة النثر العربية مع أنسي الحاج وشوقي أبي شقراء ومحمد الماغوط... وجيل السبعينات الذي كرسها.

كل عصر يمكن أن يكون له شاعره الكبير، ومن الصعب أن نختار أكبر شاعر وطني كما ننتخب ملكة جمال هذا البلد أو العالم

لكن، إزاء هذا التنوع في المعطيات الشعرية، من هو أكبر كاتب عربي جسد "روح أمته في الداخل والخارج؟ أهو أحمد شوقي أم الأخطل أم أمين نخلة أم محمود درويش. وتاليا، أدونيس وأنسي الحاج وسعيد عقل والبياتي وبدر شاكر السياب وسعدي يوسف ويوسف الخال والزهاوي والعزاوي وعلى جعفر العلاق... وأحمد عبد المعطي حجازي...
لم يبادر أحد أو أي مؤسسة لاستفتاء حول هؤلاء الشعراء (وسواهم) كما أشرنا سابقا، لكن تم استحداث لقب اختاره الشعراء أنفسهم وهو أمير الشعراء، وكان وصفا لأحمد شوقي ثم الأخطل الصغير ثم أمين نخلة. لكن هذا التعيين كان فرديا... ومن دون توضيح، أو أسباب، انحصر في الشعراء التقليديين، (نتذكر أن "مجلة شعر" منحت بدر شاكر السياب جائزتها)، وهكذا ترك هذا الخيار للنقاد، أو للكتاب. ويعود ذلك إلى أن الشعر الحديث تبنى مدارس شعرية متنوعة وحتى متناقضة كالرومانطيقية (إلياس أبو شبكة) والرمزية (سعيد عقل)، والسيريالية (أنسي الحاج، وسليم بركات، وشوقي أبي شقرا)... والعبثية (محمد الماغوط).
وما زاد من الالتباس ظهور قصيدة النثر مع كبار الشعراء العرب، وكرسها بشكل كبير جيل السبعينات وما بعده.
إذن، بقي تقييم الشعر العربي الحديث في أيدي النقاد والباحثين والقراء، ولأن تعدد الأساليب، واختلافاتها، وتناقضها حال دون ذلك، فبعضهم اختار سعيد عقل باعتباره جسد في شعره ومسرحه روح وطنه. لكنه اختلط بالسياسة وإقامة الجوائز لنفسه ولغيره. بل إن اعتبار نفسه "أكبر شاعر في الكون" مس حضوره، وكذلك رفضه لقصيدة النثر أبعده عن عدة أجيال تبنتها. وبعضهم الآخر اعتبر نزار قباني حامل قضية المرأة في كتاباته وآرائه، وكان من أكثر الشعراء انتشارا في العالم العربي، واختار أسلوبا واحدا كرره، مما أضعف كتاباته! ولم يتلمس قبول الحداثيين، وبعضهم رأى أنه صالح للقراء المراهقين (وهذا ظلم له). 
أما مصر فاختارت سابقا أحمد شوقي ولاحقا الروائي الكبير نجيب محفوظ بعدما نال جائزة نوبل عن استحقاق واعتبره بعضهم "أكبر روائي عربي"، على الرغم من معارضة بعض الكتاب كيوسف إدريس الذى رأى أن الجائزة التي نالها، مرتبطة بالسياسة وخصوصا التطبيع مع إسرائيل.
أما في تونس فقد توج الشاعر أبو القاسم الشابي "أكبر شاعر وطني" خصوصا عندما نشر قصيدته الشهيرة "إذا الشعب يوما أراد الحياة/ فلابد أن يستجيب القدر". 
ويمكن أن نلحظ شعراء كبارا كعمر أبو ريشة وإبراهيم طوقان ومحمود درويش... وخليل مطران وحافظ إبراهيم.
وفي ليبيا أحمد رفيق المهدوي، ما يوازي شعراء من الغرب كدانتي أكبر شاعر إيطالي وطني وصاحب تحفة "الكوميديا الإلهية" والشاعرين الإسبانيين لوركا (شاعر الأندلس) ونيرودا...
وإذ نكتفي بهذه المراجعة والأسماء لضيق المجال، نرى أن كل عصر يمكن أن يكون له شاعره الكبير، ومن الصعب أن نختار أكبر شاعر وطني كما ننتخب ملكة جمال هذا البلد أو العالم، فهناك مقاييس للطول والعرض والقصر، وهذا غير موجود لا في الشعر ولا في الرواية ولا في الرسم ولا في المسرح... لأن كل تقييم في هذا الإطار نسبي، يتعلق بالأساليب والتجارب والمذاهب الأدبية. وكما سبق أن قلنا" لا قواعد ثابتة ودائمة للأدب، فما هو طليعي في نوعه اليوم يصبح متجاوزا غدا. ولكن الأهم أنه من الصعب مع تعدد المقاربات والقصائد المتناقضة والمتنافية.
لا يمكننا تفضيل شاعر سيريالي على شاعر رمزي أو رومانطيقي، وهذا يصح على الرواية والقصة والمسرح أيضا... لكن قد يمكننا تنسيب الأمر في شاعرين أو عدة شعراء منتمين إلى مدرسة واحدة، أو مناخ متشابه. ولا بد أن نقول إنه حتى "استخدام" عبارة أكبر شاعر في هذا البلد أو الكون، أو حتى أكبر شاعر وطني، لا ينطبق، ولا يجوز أن ينطبق على الكتاب والشعراء.
وكذلك تعابير "عملاق الشعر" أو المسرح أو حتى الرسم، غير مناسبة، تلتبس بالخطاب وبالغربة عن مناخ الإبداع... فقد يؤدي ذلك إلى تشيؤ النصوص والأدباء، والظلم ونفي النقد ذاته...
وأخيرا نرى أن تبقى هذه التسميات متنوعة، ومختلفة، فلا تبدو كجوائز الأوسكار أو نوبل، أو أي جوائز أخرى، تختلط فيها المصالح والقضايا الشخصية والعوامل السياسية والأيديولوجية.

font change