لم يكن الشعر "مستقلا" كنوع متكامل ومحدد، بل یتمازج بكل شيء تقريبا، الشعر والطبيعة والحب والموت والفرح والرواية والقصة والسينما والمسرح والأمور "الجميلة" والأمور البشعة والحروب والسلم...
إنه كالهواء الذي ينسم على كل حالة أو مسألة أو قضية أو عاطفة أو كراهية أو اشمئزاز...
هذا ما خبرناه، وخبره سوانا. على هذا الأساس، لم يستطع أحد أن يحاصر الشعر بتحديد ما، لأنه ليس مطلقا بل لأنه نسبي... ولأنه ليس مغلقا بل لأنه مفتوح، لأنه لا يختصر بزمن، لأنه اللازمن...
لكن، هناك من "يعترض" إذا التقى الشعر والفلسفة، كأنهما لا يلتقيان.
فالفلسفة قوامها العقلانية، والوعي، والنظام والدقة في الاصطلاحات، إنما الشعر مُفعم بالقلب، والعواطف، والتخيل والحُلم، واللعب باللغة، وبمتطلبات المدارس الشعرية العديدة. حتى النثر لا ينجو من الشعر... لأنه يوحي بالصورة، والعين، والتشكيل الفني، البلاغي وغير البلاغي، والإيقاع المنظم (الأوزان)، أو المفتوح،... إذن هنا السؤال: هل يمكن أن تتولى الفلسفة شعرا، والشعر فلسفة. لكن هناك أسماء كثر من كافة الأزمنة تحمل صفة الفلسفة والشعر معا، سواء في الآداب القديمة أو الجديدة، نتذكر زهير بن أبي سلمى (حكيم الجاهلية)، والشعراء الصعاليك، وأبا تمام، والمتنبي وحكيم المعرة، والصوفيين الذین كتبوا الشعر، كالحلاج، وابن عربي وابن الفارض، والنفري...
يؤكد أرسطو أن "الشعر أكثر تفلسفا وأهم من التاريخ، لأنه يتعامل مع الكليات، والتاريخ يتناول الجزئيات"
وهناك شعراء محدثون أمثال جمیل صدقي الزهاوي، وجبران خلیل جبران وميخائيل نعيمة، والمصري صلاح عبد الصبور خصوصا في قصيدته "أقول لكم"، وأدونيس صوفيا متأثرا (بالنفري) والخيام في الأدب الفارسي وطاغور في الأدب الهندي، وكذلك شعراء التراجیدیا الإغریق كهوميروس، واسيمتلوس، وسوفوكل، وخصوصا يوربید، وشكسبیر وفيلون، من دون أن ننسى الرومانطيقيين في الأدب العربي: إلياس أبو شبكة، في قصيدته الرائعة "أفاعي الفردوس"، ولا ننسى كبار الشعراء أمثال شيلي، وكيتس والشعراء الفلاسفة الميتافيزيقيين أمثال دانتي، وإليوت، وبودلير (الرمزي)، وخصوصا مالرميه، وكذلك الفلاسفة قبل سقراط أمثال بارمينيدس وأفلاطون (الشاعر الكبير الذي هجا الشعراء)، وكذلك شوبنهاور، ونيتشه، وهوميروس، وتولستوي خصوصا في روايته "الحرب والسلم" وهناك مقاطع شعرية رائعة عنده. وهولدرلن الشاعر، الفيلسوف "المجنون"، وميخائيل نعيمة والتصوف الشرقي.
یقول أرسطو في كتابه "الشعر"، "إن الشعر أكثر تفلسفا وأهم من التاريخ، لأنه يتعامل مع الكليات، والتاريخ يتناول الجزئيات". وقال الفيلسوف الكبير هايدغر في دراسته عن الشاعر الألماني هولدرلن: "إن أحب الأحباب يسكنون على جبلين منفصلين وإن كانا متجاورَين، تكون القصيدة بأحد معنيين: أداة لتوصيل الحكمة أو تعليما فلسفيا مستقلا عن القصيدة نفسها، أو يترجم ذلك في مجموعة منسقة من العبارات التقريرية دون أن تشوب المعنى، ومعظم القصائد التعليمية من هذا النوع، الذي تعتمد القصيدة على الأدوات اللغوية والفنية لتشير إلى الدلالات والأحوال كالحب، والموت والوطن والمصير...
وقال آيلیوت في مقالة عن دانتي: "بین الوضوح العقلي والوضوح الشعري بين المعتقدات الفلسفية والسمو... فالقصيدة الشعرية تنطوي على فلسفة كاملة، وتعبر عن الحقائق الكبرى". وهذا ما قاله أرسطو. والرومانطيقية تؤكد الطبيعة الفلسفية للشعر وأن الشعر في جوهره فلسفي، والشاعر نوفاليس يتوسع في مفهوم الشعر حيث يشمل الرومانطيقية وشاعریها شوبنهاور ونيتشه، يذهب الأول إلى أن الإرادة لا الحب وراء أفعال الطبيعة ويعبر في مستوى الفن ويقول: "تكون القصيدة بأحد معنيين: تكون أداة لإيصال الحكمة، أو تعليما فلسفيا مستقلا عن القصيدة نفسها". وهنا الأهمية أن تعتمد القصيدة على الأدوات اللغویة لتشير إلى الدلالات والأحوال كالحب والموت والوطن والمصير والحروب والنصر والخسارة والجمال والبشاعة... ويمكن إضافة أن القصيدة تعبر عن قضايا عامة مجردة أو قضايا محسوسة.
علاقة الشعر والفلسفة استثنائية تتأرجح بشكل مطرد، فلا يعقل أن يتم اتهام الفلاسفة بالتطرف أو الجنون ولا أن نرى في الشعراء والشعر أحكاما نمطية جاهزة بالقول إنهم عاطفيون يعيشون الخيال والوهم
قال الشاعر الكبير آيليوت في مقاله عن دانتي: "إنه بين الوضوح العقلي والوضوح الشعري، بين المعتقد الفلسفي والسمو الشعري، القصيدة الشعرية تنطوي على فلسفة كاملة وتعبر عن الحقائق الكبرى".
وقال الشاعر غوته: "أرسطو يذهب إلى الغائية الكاملة، وتطورها والأفعال الإنسانية المبدعة".
وقد تجلى "الشعر الفلسفي" مع الرومانظيقيات الأوروبية والأميركية والعربية، وقد أكدت الرومانطيقية بمفاهيمها ومدارسها على الطبيعة الفلسفية للشعر، وأن الشعر في جوهره فلسفي.
ونرى أن الرومانطيقية تجمع الحكمة العقلانية والإبداع الفني ويصبح الشعر والفلسفة أمرا واحدا. وهذا ما أكده الشاعر الكبير شيلي والرومانطيقون: "الشعراء فلاسفة بلغوا أسمى درجة من القوة، والشعر فضاء كل معرفة".
ورأى كوليرج أن "الشاعر فيلسوف على نحو ضمني غير صريح".
أما الشعر الحديث فأبدى رد فعل مضادا للرومانطيقية حيث برزت النزعة الرومانطيقية كانفصال الشعر عن الفلسفة...
أما التجريبيون الحداثيون فرأوا أن "العبارات الشعرية والأخلاقية لیست سوى أشباه عبارات لا تحتمل الصدق ولا الكذب..
وهذا يعني أن الفكر والشعر مرتبطان، فالقصيدة فكرة مجسدة في حكمة وإيقاعات وعلاقات كيميائية...
لكن الأمور ليست بهذه السهولة، فعلاقة الشعر والفلسفة استثنائية تتأرجح بشكل مطرد، فلا يعقل أن يتم اتهام الفلاسفة بالتطرف أو الجنون ولا أن نرى في الشعراء والشعر أحكاما نمطية جاهزة بالقول إنهم عاطفيون يعيشون الخيال والوهم. فالعلاقة كانت دائما متأرجحة تبعا للظروف والأزمنة والفكر السائد في العصور المختلفة، فهذه العلاقة بينهما مرت ولا تزال تمر بمراحل معقدة، يضاف إلى ذلك الاختلاف في طبيعة أساليب كل من الفلسفة والشعر.
من هنا نری أن الكلام المريح حول علاقتهما لأننا نجد أحيانا الانفصال العمودي بين الشعر والفلسفة، حتى وصف الفيلسوف الإغريقي أفلاطون الشعراء بأنهم صناع وَهْم، متهما إياهم بالخيانة وأوصى بطردهم من الجمهورية المثالية، إلا أنه بدأ یشك بأواصر هذا التلاحم بين الفكر والنظم بل بين الشعر والفلسفة باعتبار أن الفلسفة اشتغال بالمعرفة والفكر يشتغل بالشعر وبالعاطفة، معتبرا أن الفلسفة (العلم)، تكشف الحقيقة بينما الفن (الشعر) يبتعد عن الحقيقة...
الفيلسوف دیكارت في القرن السابع عشر، وجون ستيورات في القرن التاسع عشر، وتوماس بيكون، يعتبرون أن الشعر نشاط مختلف لا ينتمي إلى روح العصر الذي تهيمن عليه المعرفة والعقل والتنوير
والمعروف أن كلمة "المحاكاة" اتخذت عند أفلاطون معنى رديئا، وعبر عن حقده على الشعر واعتبره عدو الفلسفة اللدود، ونقيضها، فالفن عموما ومن ضمنه الشعر يحاكي العوالم المسيئة، واعتبر المحاكاة تشويها للنماذج الأولية الأصلية، وأن الشاعر يحاكي العوالم الحسية، وأنه يقوم بعملية تقليد لا فائدة منها. فالنموذج المثالي أسمى من أن يتم تقليده ومحاكاته لأن الفنان (أو الشاعر) يحط من قيمة النموذج الأصلي، ويضرب أفلاطون أمثلة بقصائد هوميروس التي تصف الآلهة بصفات غير لائقة وساخرة، ولهذا قامت الفلسفة مع أفلاطون بمحاكمة الشعر وأصدرت بحقه أقصى العقوبات التي يتعرض لها الخونة، فالتهمة الموجهة إلى الشعر كانت "خيانة الحقيقة" والعقل والمجتمع وبالتالي خيانة الفلسفة وأفلاطون ليس وحده من اتخذ موقفا من العداء للشعر، فالفيلسوف دیكارت في القرن السابع عشر، وجون ستيورات في القرن التاسع عشر، وتوماس بيكون، يعتبرون أن الشعر نشاط مختلف لا ينتمي إلى روح العصر الذي تهيمن عليه المعرفة والعقل والتنوير.
أما توماس هيكس فقد نعى الشعر واعتبره من الحمق والشعوذة.
وأما ت. س. إليوت فيقول: "لا شكسبير ولا دانتي قاما بأي تفكير حقيقي".
وتبلغ أوج الحمية مع شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء أبي العلاء المعري، حیث يری أن الشعر يخدم الفلسفة وأن هناك شاعرا داخل الفيلسوف أو عكس ذلك...
ونجد ابن سينا والفارابي والمتنبي وأبا حيان التوحيدي وأبا العتاهية دافعوا عن الشعر وكذلك البحتري وأبا العلاء المعري، وأبا حيان التوحيدي، كلهم دافعوا عن الشعر معتبرين أن فيه فوائد ومنافع وأنه يحث على الفضائل الإنسانية. وعلى الرغم من كل ذلك، لا بد من القول، إن الفلسفة هي، في عمقها، نظام عقلاني اصطلاحي تختلف عن الروايات الأدبية، أو الخنوع النفسي. وتبقى فلسفة (واسعة الأفق، دقيقة التعبير)، ربما تتماهى بالشعر عندما تكون نظرتها إلى المستقبل حاسمة تشبه التنبؤ، وهذا ما وقع فيه ماركس في كلامه عن الشيوعية التي تسیر كالنهر الذي "لا يغتسل المرء منه مرتين"، علما أن التاريخ، لا يتقدم بإیقاعات دائمة، بل إنه يعرج ويتراجع ويغير مساره...
لأنه، بكل بساطة، لا يخضع للتجريدية الفكرية، أو المستقبلية، بل لمجمل العوامل الاجتماعية والسياسية والفكرية.