"زياد راح بكير.. كان يمكن أن يعطي أكثر"...
هذه العبارة التي صرح بها أناس من كافة الأعمار والاتجاهات، و"الله يساعد والدته السيدة فيروز"... إنها كلمات صادقة تطلع من القلب، صحيح أن الكثير ممن عزوا فيه، أشاروا إلى"فجيعة السيدة فيروز" برحيل ابنها، (بعدما عاشت رحيل ابنتها)، وهي في التسعينات من عمرها. الحادث ربما أكبر مما تتحمله كأُم...
أهم ما يمكن استخلاصه من هذه الفاجعة، هي أن الناس "صدقوه"، وهذا بالذات ما يدل على"حبهم له" وكملحن وكموسيقي وكمسرحي، وحتى كسياسي (وإن يخالفه كثيرون)، باعتبار أنه أعلن مرارا أنه "شيوعي"، ومدح في مناسبات عديدة ستالين، فهو في سلوكه، وموقعه، خارج على المألوف السائد وخارج الإلزامات. تمرد على عائلته الرحبانية موسيقيا، وكذلك سياسيا. فهو المنتمي واللامنتمي في آن واحد، فلا هو شيوعي متبحر بالشيوعية، ولا هو رحباني ورث الرحابنة، وإن بدا أنه طالع من تجربتهم في أعماله الأولى، ثم رسم لنفسه خطا جديدا. فأول ما يمكن قوله إنه فنان المدينة بامتياز، بينما جزء من أعمال الرحابنة عالج أوضاع القرى والماضي والفولكلور والتاريخ... إنه ابن الحاضر بكل ما تعنيه هذه الكلمة، عاش الحاضر بواقعه السياسي والاجتماعي وفككه أجزاء وربطه بأسلوبه، لكنه ليس أسلوبيا، واندفع في حياته وتجاربه، كمناخات ذاتية: عنده أسلوب في أساليبه، أي لم يعتمد تجربة، وغرق فيها، بأبجديتها، وأنماطها، ومراميها.
كأنه يرصد اليومي بأحداثه، من دون أفكار جاهزة، بل بسلاح السخرية منها، خصوصا تداعياتها وتعابيرها وتأثيراتها بأبجديتها وألحانها ومراميها.
المتفرج كان يخلط بين زياد وفرقته، كأنهما من طينة واحدة. أي إنهم ليسوا مجرد "مؤدين" بل مشاركون حتى الأقصى في مجمل تبعات الأعمال
كأنه يرصد اليومي بأحداثه من دون أفكار جاهزة، بل بسلاح السخرية منها، التي اعتمدها سلاحا مؤثرا.
فمسرحياته توحي أحيانا بمناخات متشابهة، لكن نلمس فيها دائما أنه ينحرف بهدوء عنها: فهو ابن المدينة وابن وطنه لبنان، وهو من رموز ما تضخ المدينة من تعدد، ومن انفتاح، لكن جمهوره الذي أحب التجربة وبطلتها المُطلَقَة فيروز، رأى في زياد تجاوزا لها، بل ونقيضا لمقارباتها... وهو على كاهله، أسس فرقة متجانسة متقاربة بأدائها وظرفها وحركتها: فهو ضمن الفرقة، منسجم بها وهي منسجمة به، بآلاتها الموسيقية وانتماءاتها لجوهر تجربة زياد...
والمتفرج كان يخلط بين زياد وفرقته، كأنهما من طينة واحدة. أي إنهم ليسوا مجرد "مؤدين" بل مشاركون حتى الأقصى في مجمل تبعات الأعمال.
صدقوه تماما كالناس، كأنهم طالعون من ناسهم. أي من "جمهورهم"، فهُم لهم جمهورهم وزيادهم، وهذا ما لمسه المتفرجون.
جدد بهم، وخرج عن المألوف بهم، وانتقل من حالة إلى حالة بهم... بإبداعاتهم العفوية، الشعبية...
بدأ زياد بالمسرح الغنائي، أبعد من التطريب، بحيث بدا أن ألحانه ونصوصه جزء من الموسيقى المتجددة، بل "التجريبية" بل هو من أهم الفنانين التجريبيين في لبنان، وهذا يعني أنه يخاطر (لا يراهن) بجديده وبنصوصه وبعناوينه، بحيث إن كل عمل أو أغنية أو لحن يبدو كبدايات، أي اجتراح ما سمي تجاوز نفسه، وهذا بالذات يدل على تجنبه الوقوع بالخط الواحد أو التجربة الواحدة.
من هنا هو "المتجدد" الذي يفتتح طريقا جديدا في كل محاولة، وهنا بالذات نفهم تعامله مع السيدة فيروز العريقة في أدائها وإحساسها، لم يشأ أن تكون تجربته معها امتدادا لتجارب الرحابنة، بل خروج منها، وقدمها بأعمال انفتحت على صورة جديدة لفيروز للأجيال الجديدة. كان صوت فيروز يغني بأوتار شبابية طازجة، وعبر مراحل عميقة في نبراته خصوصا في تجربة "الجاز الشرقي".
وقد توقف الكثير من النقاد والفنانين عند هذه الصيغة، فهم اعتادوا الجاز الأميركي الذي انتشر في أوروبا وفي العالم. فهل حاول زياد فتح نافذة محلية على هذا الجاز؟ وماذا يعني الشرقي، لا العربي، ولا المتوسطي؟ لقد علقنا على هذه التسمية بالقول إن الجاز الشرقي ولد في العالم العربي قبل الغربي. وكاتب هذه السطور سمع عشرات الأغاني التقليدية في السودان، فما أروع جازهم، إنه جزء من تاريخهم الطويل... فهو أصيل في ذائقتهم، وفي أدائهم الرائع. ولدى سماعي الجاز السوداني وآلاته، والأصوات كأنما احتفالية شعبية رائعة. فهو ليس "موضة آتية من الخارج" بل من معاناتهم وأفراحهم وأحزانهم.
ولعل ما أفرحني أن أحد الفنانين الكبار في السودان أعلنها: نحن أهل "الجاز العربي والشرقي".
وقد قلنا ذلك، لأننا نميز جاز زياد من كلا الجازين.
وقد نجحت فيروز في هذه التجربة، نجاحا كبيرا، تماما، كالأعمال الموسيقية الأخرى الشعبية التي ألفها زياد لها...
لكن زياد على الرغم من نجاحاته الكبيرة في المسرح، حيث قدم أعمالا جريئة، ساحرة، فهو ليس من الذين يطرحون أفكارهم ومواقعهم بطريقة مواربة، بل مباشرة وصافعة، وأحيانا بأسماء السياسيين، والزعماء.
لم يوفر سياسيا واحدا في مقابلاته الصحافية أو مسرحياته، أو بعض برامجه في الإذاعات والتلفزيونات. وأتذكر أنه في أحد برامجه الإذاعية في بداياته سخر من النظام السوري عندما كان وصيا على لبنان، فقامت قيامة بعض المسؤولين السوريين موضع النقد. لكن أهل زياد خافوا عليه كثيرا، وما كان من منصور الرحباني إلا أن زار سوريا... ليرتب هذا الموضوع مع "السلطة"، وقد نجح في ذلك.
لكن زياد قاطعٌ في انتماءاته "الأيديولوجية" فهو لا يوفر حزبا من نقده اللاذع فيذكر الزعماء بالاسم. ليس عنده ذلك الانفتاح على الآخرين المختلفين. لكن هذا لا يعني أن زياد مثقف سياسي كبير، ومثقف حتى أدبي كبير، فهو هاجم في معظم مسرحياته "الشعر الحديث وشعراءه"، وسخر منهم بطريقة غير لائقة. خصوصا أنه حاول كتابه الشعر "الحديث" غير الموزون فأصدر ثلاثة كتيبات بثلاث أو أربع قصائد ووزعها على الأصدقاء، وعندما قرأها بعضهم نصح زياد بإتلاف هذه القصائد لأنها أضعف من أن تُنشر".
لكن على الرغم من ذلك وبالرغم من أنه عرف نجاحا كبيرا في مسرحياته، فإنه، ترك المسرح قبل مدة، لأن ما كان يتمتع به لبنان من حرية، تغير. وما كان يتمتع به من اقتصاد قوي تراجع، وما استجد من ارتدادات على الأفكار الجديدة والمدنية أو كذلك ما اندلع من حروب أثرا عميقا في القارئ، وفي الفن، وهنا بالذات غادر زياد المسرح، وراح يقدم في بعض المناطق حفلات عزف موسيقية، واقتصرت نشاطاته على تلحين أغانٍ لبعض الفنانين والفنانات، كفيروز، وصباح، ومادونا...
يبقى زياد "حبيب" الناس، واللحظة الموسيقية والمسرحية الاستثنائية والموهبة الكبيرة التي جعلته من كبار الأسماء الفنية التي عرفها لبنان والعرب.
يمكن اختصار زياد بأنه ثائر بلا ثورة، ومُلتزم بلا التزام تقليدي، وساخر لا يصيب مقاتل أو جروحا عميقة، فعفويته تحميه وظرفه يمتص غضبه، وطفولته تُدغدغ نفوس كل الناس.