فوسفات المغرب... "أمّ المعادن" وريادة عالمية

المملكة مركز لثلاثة أرباع الاحتياط العالمي وتقدر قيمة مخزونها بـ 15 تريليون دولار

أندري كوجوركو
أندري كوجوركو

فوسفات المغرب... "أمّ المعادن" وريادة عالمية

يخفي جزء كبير من الصراعات الجيوستراتيجية الحالية بين القوى العالمية، تنافسا غير معلن حول مصادر الطاقات المتجددة، والمعادن النادرة المطلوبة للصناعات الدقيقة، والتحكم في طرق الملاحة البحرية، لضمان تدفق التجارة العالمية وحماية ممراتها الرئيسة من القراصنة، باختلاف مواقعهم الجغرافية وأهدافهم السياسية والاقتصادية. تقع معظم هذه المصادر الطبيعية، والطرق البحرية في دول الجنوب، ومنها منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا، التي تكاد تنحصر حولها أهم الصراعات والنزاعات، لأسباب مختلفة، لأنها بكل بساطة منطقة غنية تتوسط بحار العالم، وتحوي جزءا مهما من الاحتياطيات العالمية لغالبية الموارد المطلوبة.

يعتبر المغرب من بين هذه الدول المعنية بالتنافس الدولي الجديد، كونه يقع في مدخل مضيق جبل طارق بين المحيط الأطلسي والبحر الأبيض المتوسط، أحد شرايين التجارة العالمية بين الغرب الأميركي والشرق الصيني، وهو على مرمى حجر من الأسواق الأوروبية المقابلة. عززت طرق الملاحة التجارية البديلة من باب المندب إلى رأس الرجاء الصالح موانئ المغرب، خصوصا ميناء طنجة المتوسط، وهو الميناء الرابع عالميا من حيث نجاعة التدبير وفقا لمؤشر أداء ميناء الحاويات العالمي 2022 (CPPI)، الذي طوره البنك الدولي و"ستاندارد أند بورز غلوبال ماركت إنتليجنس"، ويتمتع بطاقة استيعابية تصل إلى تسعة ملايين حاوية سنويا.

طرق الصناعة ووفرة المعادن

هذا الموقع الجغرافي المميز بين الشرق والغرب والشمال والجنوب، تحرص الرباط على أن يكون متوازنا ومفيدا للأطراف كافة، وفي خدمة الاقتصاد والتنمية العالميين. ويشهد المغرب تهافتا على تصنيع السيارات والبطاريات وقطع الغيار المتعلقة بصناعة العربات الكهربائية والهجينة. وهناك حديث عن محفظة استثمارية إجمالية قد تتجاوز 30 مليار دولار خلال السنوات المقبلة، تشمل برامج توسع لمصنعين من فرنسا والولايات المتحدة والصين وألمانيا واليابان وإيطاليا وكوريا الجنوبية وحتى الهند، لإنتاج عربات أو أجزائها الكهربائية. وترتبط مشاريع سيارات المستقبل بأخرى تشمل قطارات المستقبل السريعة الصديقة للبيئة، في بلد يراهن على الانتقال الطاقي المنخفض الكربون، للعب دور مهم في قطاعات واعدة على المدى المتوسط.

يرجح وجود مناجم غير مكتشفة من الذهب والفضة والكوبالت والمعادن النادرة والثمينة في عمق المحيط الأطلسي

وكانت وزيرة الانتقال الطاقي ليلى بنعلي قالت أمام لجنة برلمانية "إن المغرب احتل المرتبة 17 عالميا في ترتيب الدول المعدنية عام 2022، خاصة معادن الفضة والكوبالت والنيكل والليثيوم والباريتاين والنحاس، وهي معادن مطلوبة في صناعة بطاريات السيارات الكهربائية والهجينة"، وتسمح تلك المعادن بزيادة القيمة المضافة في الصادرات الصناعية المغربية، حيث أصبحت السيارات المُصدر الأول بنحو 15 مليار دولار، تليها صادرات الفوسفات والأسمدة بـ12 مليار دولار.

"الفوسفات أمّ المعادن"

فكرة تصنيع المعادن غيرت كثيرا تركيبة الاقتصاد المغربي الذي أصبح أكثر تنوعا وتطورا مما كان عليه لعقود، حيث كان يعتمد على الزراعة والسياحة. وهناك عشرات الأسئلة حول المعادن الموجودة في جبل تروبيك، الذي يقع في السواحل البحرية الجنوبية على المحيط الأطلسي داخل المنطقة البحرية الاقتصادية، التي تسمح بالتمدد إلى 350 ميلا بحريا وفق القانون الدولي للبحار لعام 1982. وتتحدث المصادر عن وجود مناجم تحت البحر من الذهب والفضة والكوبالت والمعادن النادرة والثمينة التي تقبع في عمق المحيط الأطلسي، وهي غير مستكشفة في غالبيتها. ويسيل لعاب شركات صناعة السيارات والطائرات وبواخر الجيل الرابع، المحتاجة إلى هذا النوع من المعادن في تصنيع العربات الكهربائية والأقمار الاصطناعية والطائرات المسيرة والتكنولوجيات الحديثة والأجهزة الطبية الدقيقة والصناعات العسكرية. لا يتكلم الإعلام المغربي كثيرا عن هذه المعادن في الوقت الراهن، في انتظار الانتهاء من ترسيم الحدود البحرية مع إسبانيا، التي تتبع لها جزر الكناري المتاخمة للسواحل المغربية.

أندري كوجوركو

يقال في المغرب "الفوسفات أمّ المعادن"، يمكن استخدامه في الزراعة والصناعة والطاقات المتجددة وغيرها. وفق مركز أبحاث الشرق الأوسط في واشنطن، "يحتوي الفوسفات المغربي على 1,9 مليون طن من اليورانيوم، الذي يمكن استخدامه لتشغيل المحطات الكهربائية العاملة بالطاقة النووية. ويمكن استخراج ما بين 200 إلى 220 غراما من اليورانيوم من كل طن واحد من الفوسفات الخام". وغالبا ما يذهب معظم الفوسفات لصناعة الأسمدة لتطوير وتحسين المردود الزراعي والغذائي، لكن عناصر أخرى مشعة يمكن تحصيلها كمنتج جانبي خلال عملية تحويل الفوسفات إلى الأسمدة الآزوتية أو حمض الفوسفور. وفي السنوات الأخيرة، كثر الاهتمام بصناعة بطاريات السيارات الكهربائية المعتمدة على الليثيوم المستخرج من الفوسفات.

وعرضت روسيا على حكومة المغرب في قمة موسكو الأفريقية إقامة منطقة تجارية حرة، وبناء محطة نووية لتحلية مياه البحر في جنوب البلاد، والاستعانة بتقنيات استخراج المعادن المشعة من الفوسفات. ولا ترغب الرباط في إغضاب الجانب الأميركي طالما استمرت حرب أوكرانيا. ويتم حاليا تنفيذ مشاريع محطات تحلية مياه البحر بتكلفة 15 مليار دولار عام 2027، بالاعتماد على الطاقات المتجددة الريحية والشمسية، مع تأجيل فكرة الطاقة النووية. ويشارك المكتب الشريف للفوسفات (Office Chérifien des Phosphates) في مشاريع تحلية مياه البحر لأغراضه الذاتية باستثمارات تقدر بـ13 مليار دولار، تشمل إنتاج الهيدروجين الأخضر والكهرباء الخالية من الكربون.

استثمر المغرب 8 مليارات دولار لإنشاء وحدات إنتاج الأسمدة الفوسفاتية في أفريقيا، لتحقيق الأمن الغذائي لنحو 400 مليون نسمة

وقدم المكتب عرضا في مدينة بوسطن الأميركية عن المشروع الاستثماري المغربي لإنتاج مليون طن من الأمونيا الخضراء عام 2027، والوصول إلى أربعة ملايين طن في حلول عام 2032. وأبدت شركات أميركية اهتماما بهذه المشاريع التي تجمع بين إنتاج الطاقات النظيفة، وتطوير تكنولوجيا تحلية مياه البحر، التي سيزداد الطلب عليها في المنطقة والعالم بسبب التغيرات المناخية.

"ديبلوماسية الفوسفات"

يُصنف الفوسفات ضمن المعادن الباطنية التي زادت أهميتها مع تزايد الطلب على الأسمدة العضوية والفوسفاتية، في ظل التحديات الغذائية والتغيرات المناخية المتسارعة، حتى بات يطلق عليها إسم "ديبلوماسية الفوسفات" بسبب ارتفاع أسعارها، وصعوبة تحصيلها في ظل تنامي طلب المستهلكين الكبار عليها. ويقول الرئيس والمدير العام للمكتب الشريف للفوسفات (OCP) مصطفى التراب "لقد اعتمدنا على استراتيجيا منطقية تقوم على الانتقال إلى المنتج النهائي. وكان علينا أن نمر بسلسلة من المحطات استجابة لزبائننا. وجرى الاستثمار بكثافة في إنتاج الأسمدة المطلوبة عالميا، ونحن موجودون في أفريقيا وفي أوروبا أيضا بعد الاستحواذ على 50 في المئة من رأس مال الشركة الاسبانية "غلوبال فيد" (GlobalFeed)".

ديانا استيفانيا روبيو

يمنح المغرب مساعدات عينية للدول الفقيرة أو الصديقة في الجنوب، لدعم المزارعين وتحسين الإنتاج الغذائي في أفريقيا وأميركا اللاتينية، التي تعتبر ثاني أهم مستورد للأسمدة بعد الهند، التي استوردت 1,7 مليون طن. واستثمر المغرب بشراكة محلية نحو 8 مليارات دولار لإنشاء وحدات إنتاج الأسمدة الفوسفاتية في نيجيريا وإثيوبيا ورواندا وشرق أفريقيا، لتحقيق الأمن الغذائي لنحو 400 مليون نسمة. 

وبلغت صادرات المغرب إلى أفريقيا جنوب الصحراء 4 ملايين طن من الأسمدة بأسعار تفضيلية، لمساعدة نحو 44 مليون مزارع في أكثر من 35 دولة، بمبادرة من الملك محمد السادس، بهدف تحقيق الاكتفاء الغذائي العالمي، والتأقلم الزراعي مع التغير المناخي. وقال مكتب الفوسفات "إن قطاع الأسمدة أصبح يساهم في تحقيق ريادة المملكة، على المستوى العالمي، خاصة ما يتعلق بالأمن الغذائي". 

واستثمرت مجموعة المكتب الشريف للفوسفات 10 مليارات دولار لتطوير إنتاج الأسمدة الزراعية، التي أنتج منها المغرب 12 مليون طن العام المنصرم، وأصبح رائدا في تحسين جودة الأراضي الزراعية في عدد من مناطق العالم.

مخزون بــ15 تريليون دولار

تقدر قيمة سوق الفوسفات العالمية بنحو 79 مليار دولار في نهاية 2023، وفق "راشونال ستاتس". وكشفت هيئة المسح الجيولوجي الأميركية أن المغرب استطاع إنتاج 40 مليون طن من الفوسفات ومشتقاته، ليأتي بعد الصين التي أنتجت 85 مليون طن، والولايات المتحدة 21 مليون طن، وروسيا 13 مليون طن. وقُدر الإنتاج العالمي المستخدم محليا أو المسوق دوليا بنحو 240 مليون طن عام 2023.

يحتوي المغرب على مخزون يقدر بـ50 مليار طن من الصخور الفوسفاتية ويسيطر وحده على 75 في المئة من الاحتياطي العالمي

ويحتوي المغرب على مخزون يقدر بـ50 مليار طن من الصخور الفوسفاتية، ويسيطر وحده على ثلاثة أرباع، أو 75 في المئة من الاحتياطي العالمي، بحسب تقديرات المكتب الشريف للفوسفات. وتقدر القيمة السوقية لمخزون الفوسفات المغربي بـ15 تريليون دولار على أساس الأسعار الجارية. وكتبت مجلة "ساينس" الأميركية قبل أعوام "أن دولا نامية سوف تصبح غنية في منتصف القرن الحالي ومنها المغرب، الذي يملك الجزء الأكبر من فوسفات العالم والذي سيحتاجه العالم لإنتاج الغذاء".

الصين ومصر وتونس

ولا تملك الصين، وهي أكبر منتج للفوسفات حاليا، سوى احتياطي يُقدر بنحو 3,8 مليارات طن فقط، وتحل مصر ثالثة بـ2,8 مليار طن، ثم تونس بـ2,5 مليارات طن. ولم تغير الاكتشافات المعلنة في بعض دول شمال أوروبا أخيرا، أبرزها النروج، من هذه المعطيات والمؤشرات، إذ أعلنت النروج في منتصف العام المنصرم اكتشاف أكبر مخزون لصخور الفوسفات في العالم، يبلغ 70 مليار طن، مما يضعها على قمة الدول التي تملك احتياطيات ضخمة.

ديانا استيفانيا روبيو

وجاءت المملكة الأردنية في المرتبة الثانية عربيا في إنتاج الفوسفات بـ12 مليون طن، والمملكة العربية السعودية في المرتبة الثالثة بـ9 ملايين طن، ومصر في المرتبة الرابعة بنحو 5 ملايين طن، وتونس خامسة بـ4 ملايين طن.

البحث العلمي

اكتُشف الفوسفات في المغرب خلال الحرب العالمية الأولى في إقليم خريبكة وسط البلاد، ثم توسع استغلاله إلى مناطق أخرى في الغرب والجنوب. وطوال القرن العشرين، كان يُصدّر خاما مع بعض التعديلات في الإنتاج لصالح الاستخدام الزراعي. وخلال الـ20 سنة الأخيرة، حدث تغير كبير في الإنتاج وانتقل من مرحلة التعاطي مع معدن خام، إلى صناعة حقيقية تتعلق بالإنتاج.

وأنشأت مؤسسة المكتب الشريف للفوسفات جامعة محمد السادس المتعددة التخصصات في  مدينة بن جرير شمال مراكش، وهي متخصصة في بحوث علوم الأرض والفضاء، والتغيرات المناخية، والتكنولوجيا الرقمية، والذكاء الاصطناعي، وبحوث المختبرات الدقيقة. كما أنشأ المكتب معاهد للدراسات الإستراتيجية والآفاق المستقبلية. فالرهان على التطور يقوم أولا على البحث العلمي.

font change

مقالات ذات صلة