تونس... نجاحات فردية وفرص ضائعة

مناخ الاستثمار كارثي والسلطات تبيع الوهم لرواد الأعمال

جاي توريس
جاي توريس

تونس... نجاحات فردية وفرص ضائعة

يكاد واقع الذكاء الاصطناعي في تونس يتطابق مع قصتين مذهلتين وفريدتين: الأولى للاعبة التونسية أنس جابر، التي سطع نجمها في لعبة كرة المضرب، وهي القادمة من قرية صغيرة على الساحل التونسي، تفتقر إلى أي ملعب مؤهل للمنافسة محليا في هذه اللعبة. أما القصة الثانية، فهي قصة البطل العالمي في السباحة الشاب العشريني أيوب الحفناوي الذي انتزع أخيرا ميداليتين ذهبيتين في بطولة العالم للسباحة في اليابان حيث رفرف العلم التونسي عاليا احتفاء ببطل جاء من بعيد، من بلاد أغلقت فيها جل المسابح للصيانة باستثناء مسبحين اثنين لا يكادان يستقطبان هواة هذه الرياضة.

لا يختلف الأمر في مجال الذكاء الاصطناعي، إذ أن تسجيل نجاحات تونسية باهرة في هذا القطاع الواعد لا يعني وجود سياسات عامة داعمة له. ليس أدل على ذلك من التصريحات الأخيرة للرئيس التونسي قيس سعيد بمناسبة يوم العلم، الذي وصف فيها الذكاء الاصطناعي بالخطر الداهم وبـ"اغتيال للذكاء البشري"، محذرا من أخطاره المُهددة، وفق تعبيره، للبشرية جمعاء. تصريحات سعيد لم تنه فقط آمال الكثيرين في انخراط سريع بمسار الثورة الصناعية الرابعة، بل وضعت، ولأول مرة، دورا ممكنا للسلطات القائمة في إصدار تشريعات لحظر ومناهضة التكنولوجيات الحديثة، توقف عجلة تقدم استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي، بعد أن تحول وفق سعيد، إلى ما يشبه المؤامرة، على الرغم من أنه تم تكريم عدة تجارب وقصص نجاح في عهده في بلد جاذب للطاقات الشابة.

أهم هذه النجاحات هي قطعا نجاح شركة "انستاديب" الناشئة المختصة في تصميم أنظمة الذكاء الاصطناعي. أسس الشركة المهندسان التونسيان كريم بقير وزهرة سليم سنة 2014 برأس مال يقدر بـ 5000 دينار (نحو 1600 دولار عند التأسيس) وجهازي كومبيوتر، ثم أصبحت سريعا ضمن أفضل 100 شركة عالمية في هذا المجال، بل وساهمت مع شركة “فايزر” في البحوث الخاصة باللقاحات المضادة لفيروس كوفيد- 19.

بعدها بسنوات قليلة، وتحديدا في بداية شهر يناير/كانون الثاني 2023، أعلن رائدا الأعمال بقير وسليم استحواذ شركة "بيونتيك" الألمانية على شركتهما بـ 410 ملايين يورو. وهذا العملاق الألماني متخصص في مجال التكنولوجيا الحيوية لإيجاد لقاح ضد مرض السرطان.

تسجيل نجاحات تونسية شبابية باهرة في هذا القطاع الواعد لا يعني وجود سياسات عامة داعمة له. ليس أدل على ذلك من التصريحات الأخيرة للرئيس التونسي قيس سعيد بمناسبة يوم العلم، الذي وصف فيها الذكاء الاصطناعي بالخطر الداهم وبـ"اغتيال للذكاء البشري"

بلغت قيمة الصفقة 1,3 مليار دينار، ما يوازي تقريبا مرتين ونصف المرة موازنتي رئاسة الجمهورية (191 مليون دينار، نحو 62 مليون دولار) ورئاسة الحكومة (307,7 ملايين دينار، نحو 100 مليون دولار) لسنة 2023، وهي تعادل نصف موازنة وزارة التعليم العالي (2,2 مليار دينار، نحو 710 ملايين دولار) ونصف القيمة الاجمالية للاكتتاب الوطني (قرض داخلي بـ2,8 مليار دينار، أي نحو 910 مليون دولار) مفتوح للشركات ورجال الأعمال والمواطنين، وموجه لتمويل موازنة الدولة للسنة الجارية. قيمة الصفقة تفوق أيضا الناتج الصافي لبنك تونس العربي الدولي الذي يعد أكبر المصارف في تونس (1,26 مليار دينار لسنة 2022، نحو 410 مليون دولار).

شكلت تلك الصفقة الضخمة والقياسية حدثا حقيقيا في البلاد، إذ أنها كانت بمثابة اكتشاف لعالم الذكاء الاصطناعي وآفاقه الواعدة، يضاف إليها ما يشبه انتفاضة لدى رواد الأعمال ممن تعثرت مشاريعهم بسبب ترسانة تشريعية مكبّلة. مع ذلك لم تصادق تونس حتى اليوم على استراتيجيتها الوطنية للذكاء الاصطناعي على الرغم من مرور سنوات على إعلان الانطلاق في صياغتها. تعطلت المصادقة وغابت الاصلاحات وخسرت تونس في هذه الأثناء ثلاثة مراكز في المؤشر العالمي للذكاء الاصطناعي وفق موقع "تورتواز ميديا" (المركز 56 في يوليو/تموز 2023 و53 في 2020).

يرصد هذا المؤشر التطورات ذات العلاقة بالذكاء الاصطناعي في 62 دولة معتمدا في ذلك على 143 مقياسا متفرعا من سبعة معايير تضم المواهب وقوة البنية التحتية ومناخ التشغيل والأبحاث العلمية والتطوير والاستراتيجيا الحكومية والتجارة.

نجاح شبابي .. وعجز حكومي

سجلت الدولة التونسية حضورها ضمن هذه القائمة سنة 2020، فاحتلت المركز 53 بفضل طفرة عرفتها البلاد خلال فترة تفشي جائحة كوفيد- 19 في البحوث والابتكارات في مجال استخدام الذكاء الاصطناعي، فتحت آفاق التغييرات الكبرى على ضوء نجاح مبادرة "تحدي" الحكومية آنذاك. تعكس الأرقام هذا النجاح إذ تطور رقم معاملات الشركات الناشئة المختصة في الذكاء الاصطناعي من 69 مليون دينار (نحو 22 مليون دولار) سنة 2018 الى 719 مليون دينار (نحو 233 مليون دولار) سنة 2020. وبلغ عدد الشركات الناشئة في تونس 904 شركات (يونيو/حزيران 2023) فيما لم يكن يتجاوز 10 شركات سنة 2018.

لكن تونس بقيت عاجزة عن حسن توظيف الإمكانات الهائلة التي يوفرها ما يسمى باقتصاد المعرفة والتكنولوجيات الحديثة، على الرغم من مرحلة التوطين في مجال الذكاء الاصطناعي، مما تسبب في مغادرة مئات الشركات الناشئة الواعدة البلاد بحثا عن مناخ استثمارات يضمن حوافز أهم وتعقيدات أقلّ، خصوصا منها البيروقراطية والقوانين المكبلة، فيما انخرطت كبريات المجمعات والمؤسسات والمصارف في استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي واحداثياته المتسارعة.

جاي توريس

بات هذا الوضع مخيفا ومنذرا بالخطر، أمام توالي هجرة الشركات الناشئة والمُبتَكِرة، وتحوّلها الى قيمة مضافة تستفيد منها جهات خارجية أكثر جاذبية ومردودا اقتصاديا وماليا. يقول الخبير الاقتصادي عز الدين سعيدان، وهو أيضا رئيس مركز دراسات مرموق، ومطلع عن قرب على تجارب عدد من رواد الأعمال ومطوّري الأنظمة والبرمجيات، "إن بقاء شركة ناشئة في تونس في ظلّ القوانين الحالية وفي مقدمها قانون الصرف، يعني ببساطة موتها".

في المقابل يشير الخطاب الرسمي إلى العكس تماما. ففي نهاية العام المنصرم، أكدت المديرة العامة لصندوق الودائع والأمانات، ناجية غربي، أن تونس تهدف لأن تكون "مجمعا مركزيا" (Hub) للتكنولوجيات الحديثة والمبتكرة، وقدرت أن بلوغ هذا الهدف الاستراتيجي ممكن خاصة مع توافر التمويلات والبيئة الاقتصادية. وكشفت في هذا السياق عن تجميع كل آليات التمويل الموجهة للشركات الناشئة والمبتكرة (Startup)، في وجهة واحدة هي "سمارت كابيتال" الذي يجمع صناديق الاستثمار، بالإضافة إلى برنامج "فلاي ويل" (FlyWheel)، وهو برنامج تمويل من طريق الهبات التي تمنح للمؤسسات الناشئة.

بقيت تونس عاجزة عن حسن توظيف الإمكانات الهائلة التي يوفرها اقتصاد المعرفة والتكنولوجيات الحديثة، على الرغم من مرحلة التوطين في مجال الذكاء الاصطناعي، مما تسبب في مغادرة مئات الشركات الناشئة الواعدة البلاد 

وكشفت أن التمويلات الموضوعة على ذمة أصحاب المشاريع  المبتكرة باستعمال تقنيات الذكاء الاصطناعي تتوزع بين 75 مليون دولار من البنك الدولي والبنك الألماني للتنمية (KfW)، وتمويلات من الاتحاد الأوروبي باعتمادات تبلغ 35 مليون دولار. كما بينت أن صندوق الصناديق "أنافا"، يرنو إلى تعبئة 200 مليون يورو، ستضاف الى 125 مليون دينار (نحو 40,5 مليون دولار) قالت إنها متوفرة في صندوق التمويلات المختصة "إينوفا تيك" (InnovaTech) لصالح المؤسسات الصغيرة والمتوسطة المجددة. 

يعكس هذا طبيعة النقاشات الدائرة في تونس حول الذكاء الاصطناعي. فإذا كان النقاش في العالم يتمحور مع التحديثات المتواصلة لبرنامج "تشات جي. بي. تي." حول قواعده التنظيمية من وجهتي نظر مختلفتين، بين من يرى أنه سيساهم في تحسين حياتنا بطريقة هائلة ومن يرى أنه قد يتسبب في تدميرنا جميعا، فإن النقاش في تونس بين الخبراء والأكاديميين والفاعلين، انقسم خلال ندوة علمية نظمتها منذ مدة مؤسسة بيت الحكمة (مؤسسة عمومية غير إدارية) بين من يرفض التسليم المطلق للتخطيط الاستراتيجي للأنظمة الرسمية والحكومية، متمسكا بأهمية المبادرات الفردية والخاصة، في مقابل من يعتبر أن التخطيط الاستراتيجي للاستثمار في الذكاء الاصطناعي حتمي لا سيما مع تعدد وتداخل العوامل المكونة له، التربوية والتكوينية والمالية، مضافة إليها البنية التحتية من مختبرات ومراكز بحث، بما يعني أهمية الإرادة السياسية وقيمة الإمكانات الاقتصادية.

رواد الأعمال أوعى من السياسيين

الخبير في الرقمنة والذكاء الاصطناعي والاستاذ الجامعي عادل بن يوسف، رأى من جهته أن رواد الأعمال الاقتصاديين أكثر وعيا من صناع القرار والسياسيين بأهمية الذكاء الاصطناعي كقيمة مضافة إلى شركاتهم. ولفت بن يوسف الذي شارك في صياغة وثيقة مرجعية حول الذكاء الاصطناعي ضمن فريق مركز الدراسات الاستراتيجية (مؤسسة تابعة لرئاسة الجمهورية)، إلى أن عدم الاستقرار السياسي أثر على مسار البلاد في الافادة من التطورات التي توفرها أنظمة الذكاء الاصطناعي.

AP

وأعرب لـ "المجلة" عن استغرابه حصر النقاشات حول الاستراتيجيا الوطنية للذكاء الاصطناعي في خمس وزارات، مشددا على ضرورة الانفتاح سريعا على نقاش مجتمعي واسع. وفسر ذلك بأن الذكاء الاصطناعي مسألة متعددة الأبعاد يتداخل فيها الاقتصادي بالتربوي والاجتماعي والقانوني، وبأنها لا تتعلق فقط برسم السياسات. ونبه من تداعيات غياب الوعي بتأثيرات هذه الثورة الصناعية الرابعة على الأفراد والمجتمع، داعيا إلى تفكير جماعي لوضع أطر تنظيمية واستراتيجية تنطلق من تصور لتونس الغد وأي ذكاء اصطناعي للتطور الاقتصادي والاجتماعي.

ولفت أيضا إلى الفجوة الكبيرة بين التطورات المتسارعة من جهة، وقوانين البلاد من جهة أخرى، التي قال إنها باتت تمثل أحد أهم العوائق أمام نمو الشركات الناشئة، وأنها تربك عملية الانخراط في الاقتصاد المتطور، معتبرا أن قانون الصرف يمثل جريمة في حق البلاد. وذكّر بأن الشركات الناشئة تبيع للخارج من دون أن تكون قادرة على التصرف في إيراداتها بسبب قانون الصرف، مشددا على أنه كانت له ست جلسات عمل مع محافظ المصرف المركزي مروان العباسي خلال فترة تولي بن يوسف إعداد استراتيجيا التحول الرقمي، تونس 2030، خالصا إلى أن هذه الجلسات كشفت له عن وجود ضغط، وصفه بالكبير، بهدف عدم تمكين الشركات الناشئة من الاستفادة من إمكانات تغيير الاقتصاد، تقف وراءه "كارتيلات" (المجمّعات الاقتصادية الكبرى) المتمسكة بنفوذها وفق تقديراته.

بن يوسف، الذي تحدث بعد تجربة من داخل النظام أكد أن أجهزة الإدارة تتحمل من جهتها مسؤولية تعطيل الانخراط في ما سماه بالتسونامي الرقمي. وهو تأخر قال إنه سيجعل البلاد متخلفة نحو 30 إلى 40 سنة إذا بقي الوضع على حاله، مبينا أن الانخراط في التكنولوجيات المتطورة وأنظمة الذكاء الاصطناعي مسألة حتمية، وأن تونس تقف أمام خيارين، إما التقدم بطاقات تونسية عبر تشجيعها وتمكينها من أدوات التطور، أو اللحاق بالركب بشكل متأخر مما يضع البلاد أمام وجوبية التعويل "غصبا" على البرمجيات والمنظومات من الخارج، والأخطر أن ذلك سيكون مرفقا بغياب أي تصور واستراتيجيا.

تجربتان رائدتان

تجربتان لشابين تونسيين تكشفان عن وجهتي نظر مختلفتين حول واقع الذكاء الاصطناعي في تونس. الشاب الأول هو رازي الملياني، الرئيس والمدير العام لإحدى أهم الشركات المختصة في توزيع الأدوية، والعضو في مركز القيادات الشابة. أما التجربة الثانية فهي لزياد تبر، صاحب شركة ناشئة وناشط في المجتمع المدني وأستاذ جامعي. 

قال الملياني في حديث لـ"المجلة" إن تجربته مع الذكاء الاصطناعي التوليدي غيرت بشكل جذري مناخ العمل في مؤسسته وأيضا في الجمعيات التي ينشط فيها. فقد استأنس في مرحلة أولى بـ"تشات جي. بي. تي." لمجرد الفضول، ليتحول مع الوقت إلى برنامج استفادت منه الشركة. وأكد أنه يستخدمه لمجموعة من المهام تتراوح بين كتابة الرسائل الالكترونية والمنشورات على وسائل التواصل الاجتماعي ووضع استراتيجيات التسويق والتجارة وإعداد البرامج والأجندات، وصولا إلى تحليل البيانات وغيرها الكثير مما لا حدود له، على حد قوله.

في سياق متصل، نوّه الملياني بأن استعمال الذكاء الاصطناعي التوليدي أدى إلى زيادة كبيرة في مردودية الشركة، ذاكرا كمثل أن إعداد استراتيجيا التسويق كان يستغرق شهرا كاملا، وأنه أصبح بفضل "تشات جي. بي. تي." لا يتجاوز الساعة الواحدة، مشددا على أن ذلك مكّن، ليس من كسب الوقت بشكل كبير فحسب، وإنما أيضا من تعزيز الحافز والمشاركة لدى فريق عمل المؤسسة.

أما عن تحديات إدماج هذه التكنولوجيات في الشركات، فأوضح الملياني أنها تتعلق مثلا بتكييف الهيكل العام للشركة، مرجحا أن يشهد تغييرات كبرى لما هو معروف وتقليدي، من مدير عام ومدير مالي ومدير تجاري مثلا. ولفت إلى أن المؤسسة ستكتشف هيكلتها الجديدة بالممارسة، وأنها قد تنتهي حتى إلى إلغاء منصب المدير العام، مستندا في ذلك إلى تجربة مؤسسة شركة صينية تشغل أكثر من 8000 موظف وعامل، أصبح فيها الذكاء الاصطناعي هو المدير العام، الذي يكون متوفرا على مدار 24 ساعة، ومنفتحا على كل العاملين للإجابة عن أسئلتهم وتقييم عملهم، واصفا التجربة بالناجحة بحسب الأرقام.

صعوبات وعوائق بسبب المناخ الاقتصادي والإداري لمواصلة الأعمال في تونس، أو للمنافسة العالمية، وهذا ما دفع برواد الأعمال إلى التخلي عن مشاريعهم، على غرار واحد من أول الحاصلين على علامة المؤسسة الناشئة، تحول للاستثمار في "مطعم شاورما"

هذه التجربة الصينية باتت ملهمة بالنسبة إلى الملياني، مؤكدا أن طموحه اليوم أن يصبح  الذكاء الاصطناعي هو الذي يدير مؤسسته التي قال إن العاملين فيها تجاوبوا مع تقنيات الذكاء الاصطناعي، مستبعدا مبدئيا أن يفضي إدماج هذه التكنولوجيات إلى طرد موظفين أو تقليص عددهم، مبينا أن النتيجة بعد مرور 8 أشهر على استخدام "تشات جي. بي. تي." تظهر تحسنا مذهلا في المردود، واستجابة سريعة لما يوفره الذكاء الاصطناعي التوليدي من إمكانات للتطوير داخل المؤسسة.

ومن قبعة "رجل الأعمال" المطلع على محيطه، قال الملياني إن المؤشرات بالأرقام حول التفاعل مع المستجدات التكنولوجية صادمة، كاشفا أن 80 في المئة من الفاعلين الاقتصاديين والمختصين والأكاديميين والباحثين، ممن تستعين بهم المؤسسات الكبرى، في حالة رفض وتشكيك ببرنامج "تشات جي. بي. تي."، كأنه يهدد وجودهم، معتبرا أن ذلك يعني خسارة المقابلة حتى قبل بدايتها.

وأشار إلى أن الـ20 في المئة منهم المتبقين انطلقوا في استخدام الذكاء الاصطناعي، وإلى أن 15 في المئة منهم يستخدمونه بطريقة بسيطة من دون أي فضول أو مزيد من الاكتشاف والتعمق، وإلى أن هذه الفئة لا تزال في طور استخدام النسخة المجانية من "تشات جي. بي. تي.". وبيّن أن البقية (5 في المئة) في صدد الانتفاع بالبرمجيات المتطورة للذكاء الاصطناعي التوليدي الذي قال أنه يوفر فرصا كبيرة.

مناخ الاستثمار كارثي

أما تجربة زياد تبر، فبعيدة عن تفاؤل الملياني. فبالنسبة إليه، أثرت القوانين ومعاملات المصارف على نمو الشركات الناشئة إلى درجة التهديد بانهيارها، منتقدا بشدة الخطاب الرسمي الذي يتحدث عن تحفيزات ودعم، لا سيما بعد إصدار القانون المتعلق بالشركات الناشئة. في هذا الصدد قال تبر لـ"المجلة" إن مناخ الاستثمار كارثي وأن السلطات تبيع الوهم لرواد الأعمال، وأن النجاح في تونس أصبح يُعتبر استثناء.

وكشف حجم غياب الوعي بانعكاسات القوانين التي تحد من حركة الأموال والعمولات المصرفية المشروطة التي تفرض على أية تحويلات من الخارج، على مناخ الأعمال، وضرب مثلا أن شابا تونسيا قدم خدمة بسيطة قيمتها نحو 100 دولار، تصله إلى حسابه 250 دينارا (81 دولارا) بعدما فرض عليه المصرف عمولة بـ49 دينارا (19 دولارا)، واعتبر أن هذا المثل الصغير يكشف علل المنظومة المصرفية والتشريعية وغياب أي تحفيز لفئات وصفها بالمهمة والناشطة بشركاتها وفي شركات في الخارج، قدر عددها بـ200 ألف شركة.

رويترز
لقطة من المؤتمر العالمي للذكاء الاصطناعي (WAIC) في شنغهاي، الصين في 6 يوليو/تموز الماضي

أكثر من ذلك، أكد تبر أن عددا من أصحاب الشركات الناشئة وجدوا صعوبات وعوائق بسبب المناخ الاقتصادي والإداري لمواصلة النشاط في تونس أو للمنافسة العالمية وأن ذلك دفع ببعضهم إلى التخلي عن مشاريعهم على غرار واحد من أول الحاصلين على علامة المؤسسة الناشئة، تحول للاستثمار في "مطعم شاورما"،على الرغم من أنه كان سبّاقا في تأسيس شركة تكنولوجية ناشئة بعد مصادقة البرلمان على أول إطار قانوني موجه حصريا لريادة الأعمال المبتكرة في أبريل/نيسان 2018، رافقته وعود بحوافز ضريبية ومالية.

كفاءات وهجرة وفرص ضائعة

تزخر تونس بكفاءات نوعية في عالم التكنولوجيات الحديثة، ويذكر التاريخ أن التونسي فاروق كمون يعد من بين مؤسسي أبجديات الانترنت في العالم. انطلقت مسيرته التي أصبحت ملهمة في تونس لأجيال بحصوله على منحة سنة 1970 للدراسة في فرنسا، تزامنت آنذاك مع بداية تدريس علوم الكومبيوتر، ومن فرنسا نحو جامعة كاليفورنيا، حيث نال الماجستير ثم الدكتوراه تحت إشراف البروفسور ليونارد كلينروك، أحد الآباء المؤسسين لشبكة "أربانت" التي أصبحت انترنت فيما بعد. طوّر المهندس كمون مع أستاذه بروتوكولات توجيه هرمية للشبكات الكبيرة، وصار سريعا بروفسورا ومشرفا منذ عقود (40 سنة) على التأطير والتدريس في كبريات كليات الهندسة في تونس، ويقود بحوثا رائدة خصوصا في مجال الذكاء الاصطناعي، شكلت طفرة نوعية في فك معضلات وطنية في مجالات عدة على غرار الزراعة والتعليم، لتترسخ كمقاربة ناجعة وناجحة تشكلت معها تقاليد شراكة بين الجامعات ومراكز البحوث من جهة ومؤسسات وهياكل الدولة من جهة أخرى.

هذه الشراكة برزت بشكل لافت في الموجة الأولى من جائحة كوفيد-19، إذ اكتشف التونسيون والعالم من خلالها ابتكارات استعمل فيها الذكاء الاصطناعي من روبوتات استعانت بها وزارة الداخلية في تتبع مخالفي إجراءات الحجر الصحي الشامل. كما استعانت أجهزة الصحة العمومية بروبوتات تونسية الصنع لفرز المشتبه في إصابتهم بفيروس كوفيد19-، ثم استفادت من تصنيع أجهزة التنفس الاصطناعي بواسطة الطباعة ثلاثية الأبعاد على أيدي مهندسين وباحثين وبمشاركة أطباء. 

ومع الجدال الواسع حول أزمة الهجرة غير النظامية، تساءل المهندس حافظ العربي يحمدي عن سبب تعطل الشراكة بين مؤسسات الدولة والجامعات، مذكّرا بأن مشروع البحث الخاص للتخرج كمهندس أول، كان مشروعا يعتمد على الذكاء الاصطناعي لمتابعة ورصد تحرك الجراد من جنوب الصحراء إلى تونس. وبين أنه كان مشروعا رائدا بين خبراء وزارتي الفلاحة والدفاع تحت إدارة المعهد الاقليمي للعلوم الإعلامية والاتصال والوحدة القومية للعلوم الإعلامية تحت إشراف البروفسور فاروق كمون، وأنه تم رسم هذا المشروع، الذي استخدم فيه الذكاء الاصطناعي، لاستشراف المسارات المحتملة للتحركات على الخريطة التونسية بطريقة ديناميكية ومُحيّنة لمتابعة التنقلات المحتملة للجراد وإمكان الانتظار والاستعداد المبكر لتوجيه وحدات وطائرات وزارة الدفاع لمجابهة هذه الآفة والقضاء عليها قبل الفتك بالحقول والمزارع التونسية التي كانت مهددة. 

هذا المشروع يعود إلى نهاية تسعينات القرن الماضي، ويقول صاحبه إن المغزى من العودة إلى بعض التفاصيل هو التذكير بمثل هذه النجاحات التي سجلتها البلاد بفضل العقل التونسي، الذي قال إنه كان يعمل ويؤمن بالتكنولوجيات والشراكة بين الجامعة ومؤسسات الدولة وإدماج الشباب لابتكار حلول تونسية صرفة، داعيا إلى التعويل على العقل والكفاءة التونسيين لتصميم أنظمة ذكية تجمع البيانات وتعالجها وترشد الأجهزة لحماية حدودنا بعيدا من استيراد القوالب التقليدية والأنظمة التكنولوجية المتطورة من الخارج.

إلا أنه يبدو أن التعويل على الخارج بات خيار حكام تونس أو ربما خيارا مفروضا تحكمه إكراهات شروط الهبات الخارجية.

فمنذ أشهر، استنكر الأستاذ خالد غديرة، الذي تقدمه مؤسسة بيت الحكمة كالأب الروحي للذكاء الاصطناعي في تونس، تكليف أجانب إعداد الاستراتيجيا الوطنية للذكاء الاصطناعي بتمويل من منظمة ألمانية. كما أعرب عن استغرابه توجيه الدعوة للخبرات والكفاءات التونسية للمشاركة في صياغة هذه الاستراتيجة بقيادة أربع وزارات كمجرد مراقبين. معلوم أن تونس تحتل مراتب متقدمة في عدد المهندسين المتخرجين سنويا الذين يتم استقطابهم بشكل متزايد في الخارج  (قرابة 40 ألف مهندس غادروا تونس منذ 2015)،والمعلومة اللافتة أيضا التي كشفها عادل بن يوسف لـ"المجلة"، أن المملكة المغربية كلفته أن يكون أحد المشرفين على وضع استراتيجيتها للذكاء الاصطناعي.

مع ذلك، يتواصل الضغط من المجتمع المدني (جمعيات مختصة في الذكاء الاصطناعي) ومن فاعلين ومختصين وأكاديميين وباحثين لتسريع الخطوات ورفع العراقيل ووضع التمويل في التكوين والبحث وتغيير المناهج لإدماج الذكاء الاصطناعي. ونظمت المدرسة القومية للإدارة دورات لموظفي الدولة حول استعمالات "تشات جي. بي. تي.". كما ازدادت في الدوائر المالية والاقتصادية ورشات العمل والندوات والدورات عن التكنولوجيات والأنظمة الحديثة.

تونس تحتل مراتب متقدمة في عدد المهندسين المتخرجين سنويا الذين يتم استقطابهم بشكل متزايد في الخارج ... قرابة 40 ألف مهندس غادروا تونس منذ 2015

يقول متخصصون إن إدماج الذكاء الاصطناعي بالأعمال حتمي، وإن مفعوله في القطاعات سيكون مثل مفعول الجائحة، وإن التحدي اليوم هو كيفية الإفادة منه عبر تشجيع الاستثمارات وتغيير التشريعات وجعلها أكثر ملاءمة ومرونة لتشجيع المشاريع التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي وعلى حماية الأمن السيبراني عبر حسن التنسيق والانفتاح المتواصل على الفرص المتاحة مع الجهات الفاعلة الرئيسة في الذكاء الاصطناعي على مستوى العالم، حتى لا ينتهي الحال بخسارة السيادة الوطنية، إن تواصل التخلف عن مجاراة التطورات الهستيرية التي شهدتها تقنيات وأنظمة الذكاء الاصطناعي. 

تبقى "أم المعارك" اليوم في تونس بواقعها الحالي هي المخاوف من كيفية توظيف الذكاء الاصطناعي في أهم محطة انتخابية ستقبل عليها البلاد سنة 2024، وهي الانتخابات الرئاسية.

على مكتب رئيس الجمهورية قيس سعيد دراسة تفصيلية حول تحديات ورهانات وأخطار الذكاء الاصطناعي من إعداد معهد الدراسات الاستراتيجية، لا أحد يعلم حتى الآن كيف سيتم التعامل معها، خصوصا أن ملف انتخابات 2019 لم يُفتح ولم تُكشف كل أسراره، ومنها على وجه التحديد الدور الذي لعبته الخوارزميات ووسائل التواصل الاجتماعي خلال الحملة الانتخابية.

font change

مقالات ذات صلة