اشتعال حرب الصادرات الزراعية بين المغرب وأوروبا

رفض أوروبي لتحرير الأسواق وائتلاف جزائري موريتاني للجم التوسع الزراعي المغربي

إ.ب.إ
إ.ب.إ
منع شاحنات من البندورة قادمة من المغرب من المرور بينما كان مزارعون إسبان يحتجون على الطريق السريع الذي يربط إسبانيا وفرنسا، في بونتوس، كاتالونيا- إسبانيا، 27 فبراير 2024

اشتعال حرب الصادرات الزراعية بين المغرب وأوروبا

تحول المعرض الدولي للزراعة في باريس الأسبوع الماضي إلى ساحة صراع سياسي واقتصادي فرنسي داخلي، امتد إلى منتجين أوروبيين مناهضين لتحرير أسواق المواد الغذائية، خصوصا تلك المستوردة من دول الجوار القريبة في شمال أفريقيا، وفي مقدمها المغرب. ووجد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون نفسه في عين العاصفة وهو يفتتح فاعليات المعرض الزراعي، مما استدعى الاستنجاد بقوى الأمن الشخصي للرئيس، لفتح ممر لخروجه من المعرض وسط هتافات الغاضبين وصفيرهم.

يبدو أن ثورة المزارعين الأوروبيين في مراحلها الأولى ولا أحد قادر على إنهائها أو منع اتساعها وتقدير خسائرها، في وقت تعيش أوروبا حالا من الاحتقان الداخلي والقلق والوضع الدولي السيئ، مما حوّل الاتحاد الأوروبي رجلا مريضا في النظام العالمي الجديد.

تعاون على الورق وتخريب على الأرض

عندما كان وزير الزراعة والصيد البحري المغربي محمد الصديقي يوقع في باريس مع نظيره الفرنسي مارك فيسنو إتفاقات للتعاون التقني في مجال البحوث الزراعية والأسمدة الجمعة الماضي، كانت الشاحنات الآتية من المغرب تتعرض لتخريب حمولاتها من الفواكه والخضر في عدد من الطرق الأوروبية، كجزء من حرب تجارية قررت نقابات المزارعين شنها ضد واردات غذائية من وراء البحار، تعتقد أنها تخفض الأسعار وتزيد في بؤس المزارعين المحليين. وهي السردية التي تحاول الأحزاب الشعبوية المتطرفة تمريرها لكسب تأييد المزارعين في الانتخابات الأوروبية الصيف المقبل.

تعرضت شاحنات خضر مغربية إلى إتلاف مزارعين إسبان لحمولاتها على طريق إقليم كاتالونيا، في وقت كان رئيس الحكومة الإسباني بيدرو سانشيز في زيارة رسمية للرباط لتحصيل عقود عمل لشركات إسبانية قيمتها 45 مليار دولار

ولم تشفع مشاركة الوفد المغربي الرسمي في معرض الزراعة في باريس، ولا زيارة وزير الخارجية الفرنسي ستيفان سيجورني للرباط قبلها بيوم واحد، في ثني المزارعين الغاضبين من إتلاف كل ما ينافس منتجاتهم المحلية. لقد اصطدمت جهود إعادة الدفء في العلاقات الباردة منذ ثلاث سنوات، بغضب مزارعين لا يفقهون في الديبلوماسية، ولا يهمهم ما يفعله السياسيون في بلادهم، بل يتهمونهم بتحرير الأسواق التي تضر مصالحهم، والمقصود هنا دول أميركا اللاتينية وأوكرانيا والمغرب.

أ.ف.ب
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، خلال حضوره افتتاح المعرض الزراعي الدولي الستين، في مركز بورت دو فرساي، في باريس، 24 فبراير 2024

وكان مزارعون في وارسو منعوا مرور شاحنات محملة قمحا من أوكرانيا في طريقها إلى شمال أفريقيا، على الرغم من أن حكومة بولندا من أشد المناهضين للغزو الروسي لكييف، ومن المتحمسين لزيادة نفقات حلف شمال الأطلسي العسكرية، ولو على حساب تأجيل المصادقة على قواعد الموازنة الأوروبية الجديدة التي تحصر العجز المالي بـ3 في المئة. وتجسد الحالة البولندية الهوة التي باتت تتسع بين المزارعين وحكوماتهم في أوروبا.

تخريب منتجات زراعية مغربية

وكانت شاحنات مغربية محملة مواد غذائية تعرضت للتحرش التعسفي من مزارعين غاضبين، وهي على أبواب باريس قبل أيام. كما تعرضت أخرى إلى إتلاف مزارعين إسبان لحمولاتها من الخضر المغربية على طريق إقليم كاتالونيا، في الوقت الذي كان رئيس الحكومة الاسباني بيدرو سانشيز في زيارة رسمية للرباط لتحصيل عقود عمل لشركات إسبانية قيمتها 45 مليار دولار بحسب وسائل إعلام في مدريد. وهو ما يشير إلى أن المزارعين الأوروبيين غاضبون من حكوماتهم أكثر من خلافهم مع نظرائهم المزارعين المغاربة.

للمزيد إقرأ: أوروبا تدفع ثمنا اقتصاديا باهظا لمعاداة روسيا

وطالب حزب "فوكس" الإسباني اليميني المتطرف المعارض بتعليق اتفاق التجارة الفلاحية مع المغرب بدعوى أنها تضر بالمنتجين المحليين وصغار المزارعين. وسارع وزير الزراعة والصيد البحري الاسباني لويس بلاناس للرد عليه بالقول "إن العلاقات التجارية الفلاحية الزراعية مع المغرب لا تؤثر في وضعية المزارعين الإسبان"، نافيا الاتهامات التي تطلقها بعض الجمعيات الزراعية الإسبانية والأوروبية ضد البضائع المستوردة من المغرب، بدعوى أنها "لا تستجيب لمعايير اللوائح الأوروبية للصحة النباتية وتهدد صحة المستهلكين"، وهو ما تنفيه كل مختبرات المراقبة لدى الحدود.

إن الأمر في النهاية تنافس تجاري، في وقت يعجز المزارع الأوروبي عن إنتاج سلعة بجودة عالية وثمن مناسب، كما يفعل المزارع المغربي، الذي يُصدر إلى كندا والولايات المتحدة وبريطانيا، وهي أكثر تقدما من بروكسل في المراقبة الصحية

مصدر في وزارة الزراعة والصيد البحري المغربية

وقرر المغرب رفع دعوى قضائية في اسبانيا ضد المخربين للمنتجات الزراعية المغربية، كما hتهم بعض دول الاتحاد الأوروبي  بالتوجه نحو الحمايات التجارية.

من جهتها قررت جمعية المصدرين في المغرب مقاضاة مخربي الشاحنات الزراعية في إسبانيا ودول أوروبية أخرى الذين يعرقلون مرور المنتجات المغربية ويتلفونها وهي في طريقها إلى الأسواق الأوروبية. وقالت الكونفيديرالية المغربية للفلاحة والتنمية القروية "إنها في صدد رفع شكوى تجارية أمام المحاكم الأوروبية لوقف الاعتداءات التي تتعرض لها الشاحنات المغربية". وآخرها سُجل في منطقة كاتالونيا وهي في طريقها إلى الأسواق الفرنسية والإيطالية.

إ.ب.أ
اتلاف حمولة من الفلفل الأصفر المغربي على الطريق السريع الذي يربط إسبانيا وفرنسا، خلال احتجاج المزارعين في بونتوس، كاتالونيا- إسبانيا، 27 فبراير 2024

وقال مصدر في وزارة الزراعة والصيد البحري المغربية لـ"المجلة"، إن "الأمر في النهاية تنافس تجاري، في وقت يعجز المزارع الأوروبي عن إنتاج سلعة بجودة عالية وثمن مناسب، كما يفعل المزارع المغربي، الذي يُصدر إلى كندا والولايات المتحدة وبريطانيا، وهي أكثر تقدما من بروكسيل في المراقبة الصحية النباتية".

الزراعة تمثل 14% من الناتج المحلي

تاريخيا، يعتبر المغرب أكبر مزود مواد غذائية للسوق الأوروبية من خارج أوروبا باتفاق يعود إلى عام 1969، تم تجديده مرات عدة تماشيا مع تطور هياكل ومؤسسات الاتحاد على مدى العقود الستة الأخيرة. ويعود تاريخ آخر اتفاق زراعي إلى تموز/يوليو 2019، صادق عليه البرلمان الأوروبي بغالبية 444 نائبا. وهو ينص على امتيازات تجارية للطرفين تقضي بتحرير تدريجي للمبادلات الزراعية والغذائية، وتشمل الأقاليم الجنوبية للمملكة المغربية. ويسمح الاتفاق بتقليص التعرفة الجمركية بنسبة 55 في المئة على أغلب المنتجات الزراعية والصيد البحري الواردة من المغرب. 

وتصدّر الرباط الخضر والحوامض والطماطم والفواكه الحمراء والأفوكا والبواكر والمصبرات وزيت الزيتون وزيت الأرغان والبقوليات والقطاني والتوابل والأعشاب الطبية والتجميلية والفواكه المجففة، إضافة إلى الأسماك الطرية والأحياء المائية المجمدة، بحسب موقع مؤسسة "موروكو فودز" (Morocco  Foods)، التي تتولى التعريف بالعلامة المغربية على الساحة الدولية، والمشاركة في المعارض المهنية العالمية، وهي تابعة لوزارة الزراعة والصيد البحري.

تشكل الزراعة والسيارات أهم صادرات المغرب الى الاتحاد الأوروبي، وتأتي إسبانيا في مقدم شركاء المغرب التجاريين بـ8 مليارات يورو من الصادرات، تليها فرنسا بـ7,8 مليارات يورو، وإيطاليا بملياري دولار في عام 2022

وتمثل الصادرات الزراعية إلى الأسواق الأوروبية نحو نصف الإنتاج المغربي من هذه المواد، علما أن الزراعة تمثل وحدها نحو 14 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، ويعمل فيها نحو أربعة ملايين عامل ومهندس. وعلى الرغم من ظروف الجفاف القاسية خلال السنوات الأخيرة، زادت صادرات المغرب من الخضر والفواكه لأنها تعتمد على المساحات المسقية بطريقة الري المحوري. 

وتشكل الزراعة والسيارات أهم صادرات المغرب نحو الاتحاد الأوروبي، وتأتي إسبانيا في مقدم شركاء المغرب التجاريين بـ8 مليارات يورو من الصادرات، تليها فرنسا بـ7,8 مليارات يورو، وإيطاليا بملياري دولار عام 2022. وخلال الأشهر التسعة الأولى من عام 2023، قدرت صادرات المغرب الزراعية نحو المملكة المتحدة بـ450 مليون دولار، وفق مركز "إيست فروت" (East Fruit). وزادت صادرات الرباط نحو لندن بشكل كبير منذ خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وتوقيعها اتفاقا تجاريا عام 2019. كما زادت صادراته إلى أسواق أخرى في أوروبا الشرقية وشمال القارة الأميركية.

الأمن الغذائي أولا

تحولت التجارة الزراعية أخيرا إلى موضوع جيواستراتجي منذ جائحة "كوفيد-19" والحرب في أوكرانيا. بل صار الغذاء عقابا جماعيا في الحروب كما تفعل إسرائيل في تجويع سكان غزة. ومع سعي الدول الكبرى لتأمين سيادتها الغذائية احتمالا لأي نزاعات ممكنة، فهي ايضا لا تسمح لدول صاعدة بتغيير خريطة الدعم الغذائي والإنتاج الزراعي الدولي. ولأن المغرب بلد فلاحي منذ فجر التاريخ وأصبحت له صناعة في استخراج الأسمدة من الفوسفات، فإن حضوره ومنافسته للآخرين من الأوروبيين يعتبر تحديا، وربما تغيرا في النظام العالمي الغذائي الجديد.

خيبة جزائرية وضغوط على موريتانيا

من جهة أخرى، تمارس الجزائر ضغوطا غير معلنة على موريتانيا، للحد من توسع التجارة الزراعية المغربية في الأسواق الأفريقية ودول الساحل، بسبب خلافها العميق مع المغرب، حيث بدأت الرباط ببناء طرق برية جديدة عبر الصحراء لربط الدول الحبيسة بالمحيط الأطلسي جنوب البلاد. وفي حال نجاح هذه المشاريع، سيصبح المغرب موردا رئيسا لسوق أفريقيا جنوب الصحراء.

وتمر حاليا عبر ميناء الكاركرات البري الحدودي مع موريتانيا نحو 300 مليون دولار من السلع الغذائية متجهة نحو أفريقيا جنوب الصحراء سنويا. وهناك مخاوف غير معلنة من تحول المغرب إلى مورّد للغذاء نحو أوروبا وأفريقيا، مما يكسبه دورا إقليميا وقاريا أكبر.

نتج عن نقص التصدير في الأسابيع الأخيرة تراجع أسعار المواد الزراعية والغذائية في السوق المغربية، مما يسعد المستهلكين الذين يتطلعون إلى خفض الأسعار في شهر رمضان

وتواجه الرباط تحديات في الاتجاهين، ويُعتبر نجاحها تحولا كبيرا في الاقتصاد المغربي وأسواقه الدولية على المدى المتوسط. ونُقل عن الناطق الرسمي باسم الحكومة الموريتانية ناني لو شروقة قوله "إن بلاده غير مستعدة لمراجعة الزيادة في الضرائب التي فرضتها نهاية العام المنصرم على الواردات الزراعية المغربية، ولن تحتاج إلى استيراد الخضر والفواكه خلال شهر رمضان الكريم". لكن المنتدى الموريتاني لحماية المستهلك اعتبر "أن هذا الإجراء سيؤدي إلى ارتفاع الأسعار والإضرار بالقدرة الشرائية المثقلة بالتضخم والاحتكار".

Shutterstock
متجر في ساحة سوق جامع الفنا في مراكش، المغرب

وفي الساحة الداخلية المغربية، هناك جدال اقتصادي وسياسي حول أسبقية الأسواق المحلية على الأسواق الخارجية على الرغم من أهميتها الإستراتيجية. وكان نقص التصدير في الأسابيع الأخيرة نتج منه انخفاض أسعار المواد الزراعية والغذائية في السوق المغربية، وأدى إلى تراجع معدلات التضخم إلى نحو 3 في المئة، ما قد يدفع في اتجاه خفض معدلات الفائدة المرجعية من البنك المركزي نهاية مارس/آذار الجاري. وهي مؤشرات تسعد المستهلكين الذين يتطلعون إلى بقاء الأسعار منخفضة طيلة شهر رمضان المبارك والصيف المقبل، لان أهل الدار أولى بغلات البلاد حتى لو كانت الزراعة تساهم في تغطية قيمتها من الواردات، ولها أجندتها الجيوسياسية.

font change

مقالات ذات صلة