أوروبا تحت حصار ثورة المزارعين

غضب من قرارات بروكسل التجارية وتهديد للأمن الغذائي الأوروبي

Alice Mollon
Alice Mollon

أوروبا تحت حصار ثورة المزارعين

المزارعون في دول الاتحاد الأوروبي غاضبون من حكوماتهم ومن قرارات بروكسل التجارية، ومن اعتماد معايير زراعية مكلفة محليا، ومن اتفاقات دولية تهددهم بالإغراق، وقد تدفعهم للتخلي عن قراهم والبحث عن مصادر دخل بديلة.

غضب عارم وأحيانا عنيف يمتد من بولندا إلى هولندا ومن رومانيا إلى بلجيكا وألمانيا والنمسا وإيطاليا وفرنسا. عشرات آلاف المزارعين من طبقات وثقافات ونقابات وإيديولوجيات مختلفة، يشلون حركة النقل بإغلاق الطرق الرئيسة والسريعة المؤدية إلى كبريات المدن ومقر الاتحاد الأوروبي، احتجاجا على أوضاعهم الاجتماعية والمعيشية المزرية.

ويبدو أن حركة تمرد المزارعين قد توقد نيرانا خامدة في الوعي الأوروبي تعكس حالة الشعور بالإحباط وفقدان الثقة في البرامج الحكومية، في سنة ستشهد انتخابات أوروبية في الصيف المقبل وقد تستغلها الأحزاب اليمينية المتطرفة والأخرى الشعبوية للإجهاز على ما تبقى من المشروع الأوروبي المشترك، وعودة الحنين إلى الدولة القومية القطرية. وهذا الأمر حاضر بقوة في خطابات السياسيين المعارضين لتوجهات بروكسل التي يصفونها بالبيروقراطية وخدمة مصالح الشركات العابرة للقارات.

فيما كان آلاف المزارعين الغاضبين من نحو 20 دولة يحاصرون مقر الاتحاد الأوروبي في بروكسل، وافق الأخر على دعم أوكرانيا بـ 50 مليار يورو، ولم يعلن عن خطة لإنقاذ الزراعة الأوروبية

على الرغم من تباين المطالب والدوافع، تشعر أوروبا بأنها تتراجع في تحقيق الأمن الغذائي، أو ما يصطلح على تسميته "السيادة الغذائية"، في وقت فقدت السيادة التكنولوجية لصالح أميركا والصين، وهي تفقد حصتها من الصناعات التحويلية لصالح دول الجنوب الصاعدة، وباتت تحت حصار الطاقة الروسية بعد حرب أوكرانيا. 

فيما كان آلاف المزارعين الغاضبين القادمين من نحو 20 دولة يحاصرون مقر الاتحاد الأوروبي في بروكسل، وافق على دعم مالي لأوكرانيا بقيمة 50 مليار يورو. ولم يتم الإعلان عن خطة لإنقاذ الزراعة الأوروبية، مما رفع من منسوب ثورة الغاضبين في 27 دولة معنية.

AFP
ضابط شرطة فرنسي بين الجرارات التي تسد الطريق السريع A6 بالقرب من تشيلي مازارين، جنوب باريس، في 1 فبراير في وقت يقفل المزارعون الفرنسيون الطرق السريعة الرئيسة المؤدية إلى باريس لليوم الثالث

في باريس، وقف ثلاثة  آلاف مزارع وألفا جرار على أبواب العاصمة منذ بداية الأسبوع، على بعد 30 كيلومترا من جادة الإليزيه، في أكبر حصار من نوعه تشهده العاصمة الفرنسية منذ الحرب العالمية الثانية. الفنادق والمطاعم والأسواق الكبرى متخوفة من حصار غذائي وتمويني قد يطول ويؤثر في حركة السياحة الباريسية.

انقسم المحتجون بعد إعلان رئيس الحكومة الفرنسي الجديد، غبريال أتال، رصد مساعدات بقيمة 150 مليون يورو، وإدراج السيادة الغذائية ضمن قوانين الجمهورية. البعض قرر تخفيف الحصار بطلب من النقابة الوطنية (FNSEA)، بينما واصلت تنسيقيات صغار المزارعين الحصار والاعتصام على الطريق الرئيسة. وتحولت مداخل باريس إلى نقاط تفتيش يقوم بها مزارعون غاضبون، للتأكد من مصدر المواد الغذائية المتوجهة إلى العاصمة، ومحاصرة السلع المستوردة من أوكرانيا ودول الجنوب. 

ارتفاع التكلفة والقيود الصحية

"لم يحصل هذا منذ ثلاثين سنة"، تعلق سيدة فرنسية مؤيدة لحركة المزارعين الشباب ذوي السترات الصفر، المدعومة من أوساط الطبقات الوسطى والمتعلمة التي أضحت عاجزة عن شراء سلع غذائية فرنسية كما كانت تفعل قبل سنوات، بعد ارتفاع أسعارها بسبب التضخم وارتفاع تكلفة الإنتاج من جهة، وبسبب ما تصفه بأنه إغراق للأسواق الأوروبية بمنتجات من أوكرانيا وجنوب البحر الأبيض المتوسط وأميركا اللاتينية.

تراهن برلين على الأسواق الخارجية لتصدير سياراتها الكهربائية الفارهة، فيما دول أوروبا الشرقية (هنغاريا ورومانيا وبولندا) تتهم أوكرانيا بإغراق أسواقها بمنتجات غذائية تحد من صادراتها من القمح والحبوب

"نحن نعمل 70 ساعة أسبوعيا بدخل لا يتجاوز 1000 يورو شهريا، ثلثي الحد الأدنى للأجور في فرنسا". تصريحات تناقلها عدد من القنوات الفرنسية التي وجدت نفسها بين سندان دعم المزارعين ومطرقة الالتزامات الأوروبية في بروكسل، التي تستعد لتوقيع اتفاق تجارة حرة مع دول "ميركوسو" التي تضم البرازيل والأرجنتين والأوروغواي والباراغواي، وهي دول لها قدرة إنتاجية أفضل من أوروبا في مجال اللحوم الحمراء والأبقار والدواجن والسكر والأرز والإيتانول والذرة.

وطالب أتال أمام البرلمان، باستثناء زراعي فرنسي من أي اتفاق تجاري جديد مع شركاء خارج الاتحاد الأوروبي. وقال إنه سيتم نقل هذه المقترحات إلى  المفوضية الأوروبية في بروكسل بلسان رئيس الدولة يوم الجمعة. لكن هذه المطالب تبدو صعبة المنال في وقت تنغمس كل حكومة في همومها الداخلية، تحت ضغط الشارع الذي ضاق بالأسعار الملتهبة وتراجع القدرة الشرائية مع اتساع مساحة الفقر والحاجة داخل القارة العجوز التي كانت توصف بالثراء والرخاء والدول المعجزة قبل ثلاثين سنة.

تناقض المصالح بين الأوروبيين

أكبر الاقتصادات في دول الاتحاد، وهي ألمانيا، تسجل معدلات نمو لا تتجاوز ثلث نقطة مئوية، وهي أقرب إلى الانكماش منها إلى الانتعاش. وشهدت بعض المدن الألمانية حركة احتجاج للمزارعين اقتربت من العصيان الوطني، وامتدت إلى قطاعات ومجالات اقتصادية وخدمية أخرى، شلت حركة النقل الجوي في العديد من المطارات الألمانية تضامنا مع العمال والمزارعين الذين يجمعهم تراجع الدخل والغضب من قرارات بروكسل.

مزارعون يواجهون الشرطة خلال احتجاج يفي ساحة لوكسمبورغ بالقرب من مبنى البرلمان الأوروبي في بروكسل في 1 فبراير، مطالبين بحماية منتجاتهم من المنافسة الأجنبية

وتراهن برلين على الأسواق الخارجية ومنها أميركا اللاتينية ودول أخرى في العالم النامي لتصدير سياراتها ذات المحركات الحرارية والكهربائية الفارهة، بعدما ضاقت الأسواق الأوروبية أو تراجع إنفاقها. ومن جهتها تتهم دول أوروبا الشرقية (هنغاريا ورومانيا وبولندا) تتهم أوكرانيا بإغراق أسواقها بمنتجات غذائية وزراعية تحد من صادراتها في مجال القمح والحبوب. حتى خصومة روسيا ودعم أوكرانيا لم يعودا جماهيريا على الحماسة نفسها التي كانت قبل عامين، فقد تبدلت بوصلة المصالح مع احتمال مجيء فريق سياسي جديد إلى البيت الأبيض في الشتاء المقبل.

لم يجد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون آذانا صاغية لدى المستشار الألماني أوليف شولتز، لانتزاع الاستثناء الفرنسي الزراعي، لأن مصالح البلدين باتت متباعدة في أكثر من ملف وقضية أوروبية ودولية. كما لم تجد باريس موافقة لدى الطرف الإسباني الذي يدافع عن تجارة موسعة مع جنوب القارة الأميركية الناطقة بالاسبانية والبرتغالية. وتمر يوميا نحو 12 ألف شاحنة محملة مواد غذائية من المزارع والمصانع الغذائية الاسبانية أو من المغرب في اتجاه الشمال.

وأغلق مئات المزارعين الفرنسيين طريق البيرينيه في الجنوب الغربي على المحيط الأطلسي، الذي يربط إسبانيا بشبكة الطرق السريعة الأوروبية، مما شل حركة نقل البضائع القادمة من الأميركيتين وشمال أفريقيا. 

خلافات ووعود

تنقسم الأطراف الأوروبية حول اتفاقات التجارة الحرة مع شركاء خارج أوروبا بين مؤيد ومتحفظ. لكنهم يجمعون على أهمية تحصيل مواد أولية ضرورية للصناعات الأوروبية مثل الكوبالت والفوسفات والليثيوم والنيكل والنحاس، الموجودة في أميركا اللاتينية وأفريقيا ودول الجنوب الشامل. في المقابل، هم منقسمون حول فوائد العولمة التجارية، وأخطار إغلاق الأسواق أمام المواد الزراعية الآتية من دول الجنوب، أو التراجع عن اتفاق باريس الفرنسي الأصل. في الحالتين، الوضع غير قابل للحسم قريبا.

font change

مقالات ذات صلة