دول شمال أفريقيا في سباق إلى النمو والتنمية

رصد موازنات ومشاريع ضخمة في 2024 وليبيا الأسرع نموا

دول شمال أفريقيا في سباق إلى النمو والتنمية

تتطلع اقتصادات دول شمال أفريقيا لأن تكون السنة الجديدة أفضل من الأعوام السابقة، بعد أن عانت في العام المنصرم من تداعيات وتأثيرات خارجية سلبية إقليمية ودولية، لم تساعدها على تجاوز الأثار الاجتماعية لجائحة "كوفيد-19"، والتغيرات المناخية القاسية التي أضرت بالإنتاج الزراعي في أسوأ جفاف تعيشه المنطقة منذ عقود. يُضاف إلى ذلك زلزال جبال الأطلس المدمر في المغرب، وفيضانات درنة الكارثية في ليبيا، وحرائق الغابات المتكررة في الجزائر، وأزمة رغيف الخبز التي تُنذر بثورة الجياع في تونس.

وبهدف مواجهة التحديات المناخية والدولية وكسب الرهانات الاجتماعية وبلوغ التعافي الاقتصادي الشامل، عمدت دول اتحاد المغرب العربي (UMA) إلى رصد موازنات مالية ومشاريع استثمارية ضخمة في عام 2024، تعتبر الأضخم في تاريخها، في مسعى لاستعادة الزخم الاقتصادي المسجل قبل ثلاث سنوات، عندما حققت المنطقة معدلات نمو وصلت إلى 8 في المئة في المغرب و4,3 في المئة في تونس فيما بلغت النسبة 31,4 في المئة في ليبيا عام 2021، قبل أن تتهاوى في عامي 2022 و2023، في وقت ارتفعت فيه الأسعار والتضخم إلى معدلات قياسية، وزادت بطالة الشباب متجاوزة نسبة 13 في المئة في شمال أفريقيا وتفاقم الفقر والهشاشة.

وفقا لتقرير صادر عن مكتب منظمة العمل الدولية في جنيف "سيكون من الصعب على الدول متوسطة الدخل في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أن تسترجع معدلات البطالة السابقة لجائحة "كوفيد-"19، عام 2019. وهي ستبقى في متوسط 11,2 في المئة". واعتبر التقرير انه كلما تحقق نمو جيد في الاقتصاد أو كان الدخل الفردي مرتفعا، كانت فرص الحصول على عمل جيد أكبر. لذلك، تسعى الموازنات الخمس إلى تحقيق نمو بـ3,7 في المئة في المغرب، ونحو 4 في المئة في الجزائر و3 في المئة في تونس.

يتوقع أن تحقق ليبيا أعلى معدلات النمو في مجموع الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بنسبة 7,5 في المئة، مدعومة بأسعار النفط، على الرغم من تأثير الفيضانات

صندوق النقد الدولي

 وتوقع صندوق النقد الدولي أن تحقق ليبيا أعلى معدلات النمو في مجموع الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بنسبة 7,5 في المئة، مدعومة بأسعار النفط، على الرغم من تأثير الفيضانات التي غمرت مناطق واسعة من شمال شرق البلاد الخريف المنصرم وخلف عشرات آلاف القتلى والمفقودين. كما توقع الصندوق أن يتجاوز النمو الاقتصادي في موريتانيا نسبة 5 في المئة وأن يفوق 7 في المئة عام 2025 مع بداية تصدير الغاز المسال في حقل السلحفاة المشترك مع السنغال.

تمويل الموازنات المغاربية

سيشكل تمويل مشاريع الموازنات المغاربية تحديا إضافيا بعد أن تخطت المديونية المحلية المقومة بالدولار معدلات مقلقة. ويعتبر شمال أفريقيا من المناطق ذات المديونية المتوسطة القريبة من المرتفعة بين 55 إلى 80 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، وتقع تونس ضمن الفئة CCC مخاطر عالية، بحسب وكالات "موديز" و"ستندارد أند بورز" و"فيتش"، بعد أن عجزت عن التوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي حول حزمة تمويلات تقدر بنحو ملياري دولار. لكن السياحة  انقذت الاقتصاد عام 2023  حيث زار بلد ثورة الياسمين أكثر من 9 ملايين سائح ليحقق القطاع إيرادات فاقت ملياري يورو، وفق توقعات البنك المركزي التونسي.

لكن توقعات النمو وتحسن المؤشرات الماكرو-اقتصادية ليست مضمونة في دول المغرب العربي. وتبدو تونس أكثر الدول المهددة بردة مالية بعد تحسن ملحوظ بفضل عائدات السياحة التي ارتفعت بنسبة 47 في المئة حتى نهاية أغسطس/آب، وتسجيل نمو بحدود 1,2 في المئة العام المنصرم.

آفاق الاقتصاد التونسي تبقى أقل من جيرانها المغاربيين على الرغم من تحسن صادرات النسيج والصناعات الميكانيكية وزيت الزيتون والعائدات السياحية التي تمثل 9 في المئة من الناتج المحلي

البنك الدولي

تونس: صعوبات مالية وبطالة

وأشار البنك الدولي إلى أن "آفاق الاقتصاد التونسي تظل أقل من جيرانها المغاربيين على الرغم من تحسن صادرات النسيج والصناعات الميكانيكية وزيت الزيتون والعائدات السياحية التي تمثل 9 في المئة من الناتج المحلي، وهي ساهمت بـ 0,8 في المئة في النمو الاقتصادي".  إلا أن تونس مثلها مثل بقية دول المنطقة، تواجه جفافا قاسيا قد يؤثر في الإنتاج الزراعي.

حرفي تونسي ينحت تصميمات على قرص نحاسي في أحد أسواق المدينة القديمة في تونس العاصمة، 17 يناير 2024

لذلك، ينصح البنك الدولي تونس بوضع حزمة إصلاحات عاجلة تشمل التأقلم مع التغيرات المناخية، وتقوية المنافسة الصناعية، وتحسين الموارد الضريبية، وخفض عجز الموازنة. وهي من الإجراءات والوصفات التي ينصح بها صندوق النقد الدولي أيضا لجهة صمود الاقتصاد في وجه الاهتزازات الدولية والمناخية المقبلة. وتعاني تونس من صعوبات مالية فاقمت المتاعب الاجتماعية، حيث ارتفعت البطالة إلى 15,6 في المئة من الفئة النشيطة بعد أن ارتفعت المديونية من 67 إلى 78 في المئة من الناتج الإجمالي  بين أعوام 2017-2023 في ظل وضعية مالية صعبة لناحية تحصيل تمويلات خارجية يحتاجها الاقتصاد لتوفير مزيد من الوظائف.

ويعاتب الاتحاد الأوروبي تونس على ازدياد الهجرة السرية المنطلقة من سواحلها نحو إيطاليا. وتضع بروكسيل شروطا مجحفة للحد من الهجرة في مقابل زيادة الدعم المالي المباشر.

للمزيد عن الاقتصاد التونسي إقرأ: تونس تمضي في "الطلاق المؤلم" مع الخصخصة

الجزائر: أكبر موازنة وأكبر عجز

وضع قانون المالية الجزائري موازنة كبرى لعام 2024 بقيمة نحو 110 مليار دولار، اعتبرتها وسائل إعلام محلية الأضخم في التاريخ، لكن يكتنفها خطر العجز المالي المقدر بـ45 مليار دولار، وهو الأكبر في التاريخ أيضا. وهناك توقعات بتحصيل إيرادات بالعملة الصعبة بقيمة نحو 50 مليار دولار السنة الجارية من صادرات النفط والغاز منخفضة 5 مليارات دولار عن إيرادات عام 2023 التي بلغت 55 مليار دولار، بسبب تراجع أسعار النفط في السوق الدولية. وتضع الموازنة مواردها على أساس سعر نفط 70 دولارا في السوق الدولية، وتصدر الجزائر نحو نصف مليون برميل يوميا إضافة إلى تزويد إيطاليا وإسبانيا وفرنسا بالغاز.

على الرغم من كونه الاقتصاد الأول في المنطقة المغاربية من حيث الناتج المحلي الإجمالي بنحو 190 مليار دولار، إلا أن الدخل الفردي في الجزائر مرشح للتراجع في السنة المقبلة

في المقابل، تقدر فاتورة الواردات من السلع العام الجديد  بـ 43,5 مليار دولار، وهو مبلغ غير كاف لتلبية الاحتياجات الاستهلاكية في بلد يقدر عدد سكانه بنحو 46 مليون نسمة، مما يثير مخاوف من عودة قوية لطوابير الغذاء، في وقت  تعاني الجزائر مثل بقية الدول المغاربية من جفاف حاد سيزيد في كلفة واردات القمح  السنة الجارية. وحتى في حال ارتفاع الواردات إلى 47,4 مليار دولار عام 2025، فهي ستظل أقل مما تتطلبه السوق المحلية من المواد الأساسية. والسبب أن جزءا من مشتريات الغذاء تتحول إلى مشتريات عسكرية في ظل ضعف الشفافية والحوكمة، وفق معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام "سيبري"، الذي ينتقد شراء السلاح على حساب توريد المواد الاستهلاكية الضرورية.

Shutterstock
بانوراما لخليج الجزائر العاصمة ويبدو الميناء وجامعة الجزائر.

وقال وزير المالية الجزائري لعزيز فايد "إن الموازنة تهدف لتحسين القدرة الشرائية وتعزيز البنية التحتية والتنمية الاجتماعية". وتعاني السوق المحلية من ارتفاع في تضخم الأسعار بلغ 11 في المئة على المواد الغذائية وكان يزيد 1,2 نقطة مئوية شهريا طيلة العام المنصرم.

ووفقا لرئيس بعثة صندوق النقد الدولي إلى الجزائر، كريس غيرجات، "إن آفاق الاقتصاد المستقبلية مطمئنة على المدى القريب  بفضل أسعار الطاقة، لكن تكتنفها أخطار على المدى المتوسط والبعيد بسبب الاعتماد على صادرات الطاقة الاحفورية.. وهناك حاجة ملحة إلى تنويع مصادر الدخل". 

للمزيد عن الجزائر وموازنتها لعام 2024 إقرأ: الجزائر... أكبر الموازنات اجتماعية أم "انتخابية"؟

وعلى الرغم من كونه الاقتصاد الأول في المنطقة المغاربية من حيث الناتج المحلي الإجمالي بنحو 190 مليار دولار، إلا أن الدخل الفردي في الجزائر مرشح للتراجع في السنة المقبلة والسنوات القادمة، بسبب توقع تراجع الإيرادات جراء انخفاض أسعار الطاقة. حيث ستنخفض الصادرات إلى 22,5 في المئة من الناتج المحلي تحت تأثير تراجع الأسعار مما سيدفع نحو الاستعانة بالاحتياطي النقدي الذي سيبدأ في التراجع عام 2024. وينصح صندوق النقد باعتماد ثلاثة إجراءات حاسمة هي تشجيع القطاع الخاص وتنويع مصادر الدخل عبر أنشطة اقتصادية إضافية، والتغلب على التضخم، والتأقلم مع التغيرات المناخية في مجال مصادر المياه العذبة.

صدرت الرباط العام المنصرم حتى نوفمبر/تشرين الثاني ما قيمته 13,5 مليار دولار من مبيعات السيارات، وملياري دولار من أجزاء الطائرات، و7,7 مليارات دولار صناعات غذائية، و4,5 مليارات دولار ملابس جاهزة

على عكس الجزائر، لا يتوفر لدى المغرب طاقات أحفورية، لكنه أكثر الاقتصاديات المغاربية تنوعا في الأنشطة والدخل، حيث تمثل الزراعة 13 في المئة من الناتج المحلي، والصيد البحري 4 في المئة، والسياحة 7 في المئة، والصناعات المختلفة نحو 30 في المئة. وصدرت الرباط العام المنصرم حتى نوفمبر/تشرين الثاني ما قيمته 13,5 مليار دولار من مبيعات السيارات، وملياري دولار من أجزاء الطائرات، و7,7 مليارات دولار صناعات غذائية، و4,5 مليارات دولار ملابس جاهزة. وبلغ مجموع الصادرات الصناعية والخدمات 41 مليار دولار في مقابل 66 مليار دولار من الواردات. وحصلت الخزينة على إيرادات سياحية وتحويلات من المغاربة في العالم بلغت 202 مليار درهم (نحو 21 مليار دولار) ، وتدفقات استثمارية خارجية بلغت 3,1 مليار دولار.

المغرب: الرهان على الاستثمار

رصدت الرباط موازنة بقيمة  63 مليار دولار لعام 2024 معظمها مخصص للتعليم والصحة والرعاية الاجتماعية والدعم المباشر للأسر الفقيرة، ودعم جزء من كلفة قارورة الغاز والقمح والسكر. وترغب المملكة أن يسبق احتضان نهائيات كأس العالم نهضة استثمارية غير مسبوقة تجعل المغرب في المستوى التنموي لاسبانيا والبرتغال اللتان تشارك معهما مباريات المونديال 2030، وفي الوقت نفسه، تحسين مؤشرات التنمية البشرية عبر برامج ذات طابع اجتماعي للقضاء على أسباب الفقر وتحسين الدخل والعيش لفئات واسعة، خصوصا سكان الأرياف والضواحي بقيمة 3,6 مليار دولار. كذلك، تشمل الموازنة مساعدات لتملك المنازل والشقق تتراوح بين 10 إلى 33 في المئة من قيمتها الإجمالية.

ولا يزال الجانب الاجتماعي في المغرب يشكو من ضعف تدخل الدولة لصالح الفقراء والمهمشين وحتى عمل المرأة، كما زادت الفوارق بين الطبقات والمحافظات منذ جائحة "كوفيد-19". وهذه هي المرة الأولى التي يخصص فيها دعم مالي مباشر للفقراء. وهو ما يصطلح عليه بالدولة الاجتماعية القوية، وهي مبادرة شخصية من الملك محمد السادس لإعداد المغرب للمنافسات العالمية.

على الرغم من موارده المحدودة، وضع المغرب خططا لمشاريع ضخمة ومكلفة تقدر بنحو نصف تريليون دولار على مدى السنوات المقبلة. واتفق مع صناديق استثمار سيادية في الإمارات العربية المتحدة على المساهمة في تمويل 12 مشروعا مهما، مثل مد خط للقطار فائق السرعة يصل إلى مراكش على مسافة 500 كيلومتر، والمساهمة في أنبوب غاز نيجريا-المغرب المقدرة قيمته بـ25 مليار دولار، وتحليه مياه البحر، إذ تشكل موارد المياه العذبة التحدي الأكبر أمام الاقتصاد المغربي الذي يكاد يكون اقتصادا من ماء. ويوجد في المغرب 140 سدا بسعة 18 مليار متر مكعب من الماء. لكن تراجع الأمطار في السنوات الأخيرة، قلص الاحتياط المائي في السدود إلى أقل من الثلث، وهناك مخاوف من أزمة عطش في بعض المناطق خلال الصيف المقبل. وهي أزمة متوقعة في أكثر من منطقة في شمال أفريقيا المتضررة كثيرا من التغيرات المناخية.

 يخسر اقتصاد شمال أفريقيا سنويا بين 2 إلى 3 في المئة من النمو بسبب إغلاق الحدود وضعف التجارة البينية وغياب شبه كامل في التنسيق المالي والاستثماري والتشابه التشريعي

خسارة في النمو المغاربي

 يخسر اقتصاد شمال أفريقيا سنويا بين 2 إلى 3 في المئة من النمو بسبب إغلاق الحدود وضعف التجارة البينية وغياب شبه كامل في التنسيق المالي والاستثماري والتشابه التشريعي، مما يجعلها المنطقة الأقل اندماجا إقليميا (2,5 في المئة من التجارة)، وهي تعيش منذ نصف قرن على معاكسة جزائرية لحقوق المغرب في الصحراء التي كانت تحتلها إسبانيا منذ عام 1975. وتقول المصادر العسكرية في الجزائر "إن وحدة المغرب الترابية تعزز ريادته الإقليمية وقوته الاقتصادية". وتختلف الدولتان في كثير من الأمور بسبب النفور التاريخي بين جمهورية ثورية عسكرية ومملكة عريقة معتدلة قريبة من بقية الملكيات العربية والأوروبية.

وطالما لم تسوى الخلافات السياسية، فان قطار شمال أفريقيا يظل معطلا ومعه مصالح 110 مليون شخص يتطلعون إلى تنمية ومستوى عيش مثيل لشعوب الضفة الشمالية التي توحدت في إطار تجمع الاتحاد الأوروبي. وتحتاج دول المغرب العربي الخمس إلى معدلات نمو مرتفعة لا تقل عن 6 في المئة لتسريع التنمية الاقتصادية والبنى التحتية، وتوفير فرص عمل لما يقارب نصف مليون عاطل إضافي يدخلون سوق العمل سنويا، وكثيرا ما يتحول حلم تحقيق الذات في الوطن إلى مشروع هجرة سرية نحو الضفة الشمالية للبحر الأبيض المتوسط، مع كل المخاطر والمآسي والحسرة على فقدان كفاءات في مجتمعات نامية، لا يزال التعليم فيها يكلف ميزانيات الحكومات والأسر ربع الإنفاق العام والخاص.

التاريخ والجغرافيا

وضعت الجغرافيا دول شمال أفريقيا بين الشرق الأوسط والاتحاد الأوروبي، أو ما يُعرف تاريخيا بين الشرق العربي الإسلامي والغرب المسيحي، داخل مثلث يحده البحر الأبيض المتوسط شمالا والمحيط الأطلسي غربا والصحراء الكبرى جنوبا في مساحة تتجاوز 6 ملايين كيلومتر مربع، في منطقة متناغمة بشريا ثقافيا وحضاريا بتاريخ وعادات وتقاليد مشتركة، لكنها متباينة تنمويا واقتصاديا، ومتنافرة سياسياً وحتى أيديلوجيا وأمنيا بسبب خيارات تعود إلى عقود إلى الوراء مباشرة بعد الاستقلال عن فرنسا وإيطاليا وإسبانيا. وحتى بعد مرور ثلاثة أجيال، لا تزال المنطقة تعاني من بقايا استقطاب الحرب الباردة وتعيش على خلافات شبه دائمة حول أكثر من قضية إقليمية وعربية أو قارية أو دولية، تكاد تضع المصالح الآنية المرحلية على حساب المصالح التنموية والاقتصادية الدائمة.

font change

مقالات ذات صلة