تونس تمضي في "الطلاق المؤلم" مع الخصخصة

نحو انهاء أربعة عقود من سياسات "بريتون وودز"... والاحتفاظ بالشركات العامة الفاشلة

 Shutterstock
Shutterstock
شارع الحبيب بورقيبة بالقرب من الساعة الأثرية في 5 أكتوبر في تونس العاصمة.

تونس تمضي في "الطلاق المؤلم" مع الخصخصة

للمرة الأولى مرة منذ أربعين عاما، تعلن السلطات التونسية التوجه نحو اقرار إصلاحات تستهدف الشركات العامة المملوكة من الدولة، على أن يُستثنى خيار تخصيصها كما في السابق، تنفيذا لتوصيات صندوق النقد الدولي. وتقوم فلسفة الاصلاح الجديدة مثلما قدمها رئيس الجمهورية قيس سعيد على ركيزتين، الاولى الحفاظ على الدور الاجتماعي للدولة والثانية محاربة الفساد. وتعهد الرئيس التونسي بـ"عدم التفريط ابدا بالشركات العامة"، وجاء ذلك بعد ايام قليلة من اقالة وزير الاقتصاد والتخطيط الذي كان أكثر المدافعين عن سياسة الخصخصة.

يمثّل الخطاب الرسمي الرئاسي قطيعة مع السياسات الاقتصادية المعتمدة في تونس منذ عام 1986، تاريخ اقرار برنامج الاصلاح الهيكلي ضمن اتفاق مع صندوق النقد الدولي. طوال أربعة عقود لاحقة شكلت الخصخصة خيارا ثابتا لكل أنظمة الحكم، من نظام الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة مرورا ببن علي وصولا الى حقبة ما بعد الثورة.

تمت خصخصة 228 شركة عامة خلال الفترة الممتدة من 1987 إلى عام 2016، بحسب الوزير السابق المكلف الإصلاحات الكبرى توفيق الراجحي.

وبلغت القيمة الاجمالية لكل عمليات الخصخصة ملياري دولار (ستة مليارات دينار)، أكثر من نصفها من تخصيص 30 في المئة من شركة "اتصالات تونس" بـ 1.2 مليار دولار (3.5 مليارات دينار). ومع احتدام الازمة الاقتصادية خلال السنوات الاخيرة يطرح تخصيص الشركات العامة كبديل من الاستدانة الخارجية، بما في ذلك خلال فترة الرئيس الحالي قيس سعيد، اذ نص الاتفاق الاولي مع صندوق النقد الدولي الموقع على مستوى الخبراء، في اكتوبر/تشرين الاول 2022، على التزام خصخصة عدد من الشركات العامة.

منذ 2011 تهاوت الشركات العامة التونسية الواحدة تلو الاخرى وصار جلها على شفا الافلاس

صندوق النقد وشرط الخصخصة

كانت الخصخصة أحد الأسباب التي عطلت ابرام اتفاق نهائي مع صندوق النقد، من أجل الحصول على قرض قيمته 1.9 مليار دولار، ولم يخف الرئيس سعيد رفضه القاطع لسياسات التخصيص. واتهم في تصريحات ادلى بها مطلع الشهر الجاري جهات لم يسمّها بالعمل على تفليس الشركات العامة بهدف بيعها بأبخس الاثمان. 

تزامنت تعهدات الرئيس التونسي والتزاماته إصلاح الشركات العامة مع بدء مناقشات مشروع موازنة الدولة ومشروع قانون المالية لعام 2024. ويقدر عجز الشركات العامة، وفق مشروعي القانونين، بنحو مليار دولار (2.9 مليار دينار) خلال سنة 2024 التي ستكون سنة التحديات الكبرى، والاصعب ماليا في تاريخ تونس الحديث بحسب تقديرات خبراء.

REUTERS
شعار صندوق النقد الدولي خارج مقره الرئيسي في واشنطن بالولايات المتحدة

تتّجه البلاد سنة 2024 نحو أكبر استدانة في تاريخها بما مقدراه 9.4 مليارات دولار (28.2 مليار دينار)، منها 5.3 مليارات دولار، تحت عنوان قروض خارجية. اللافت في مشروعَي الموازنة والمالية لسنة 2024 ان السلطات ضمنت احتياجاتها لتعبئة موارد مالية من دون أن تحدد مصادرها في غياب اتفاق مع صندوق النقد ودعم الاتحاد الأوروبي، لذلك فإن خيار عدم المضي في الخصخصة، فاجأ المراقبين ممن يرون فيه خطابا انتخابيا، ويتوقّعون أن يشهد المنهج الرئاسي تغييرا جوهريا بعد الانتخابات الرئاسية المزمع تنظيمها عام 2024. 

حلقة مفرغة

منذ 2011 تهاوت الشركات العامة التونسية الواحدة تلو الاخرى وصار جلها على شفا الافلاس. يقدر إجمالي شركات القطاع العام في مختلف قطاعاتها بـ213 مؤسسة ومنشأة، نصفها ذو طابع خدماتي واجتماعي، ونصفها الآخر ذو طابع اقتصادي، تنشط في قطاعات استراتيجية مثل النقل والطاقة والمصارف والصناعة والخدمات.

وتتوزع بين مصارف وشركات التأمين والاسكان والمقاولات والاتصالات والبريد والصناعات الاستخراجية والتحويلية، وشركات صحية وصيدلية (الدولة تحتكر استيراد الادوية) والنقل والفلاحة والمياه. كما تحتكر الدولة عبر شركاتها العامة انتاج السلع المدعومة واستيرادها وتوزيعها.

يُدرج على تسمية هذه الشركات بـ"شركات الدولة" التي تُشغّل قرابة 200 ألف موظف ومدير مسؤول، بمعدلات أجور عالية، مقارنة بسلم الاجور في القطاعين العام والخاص. يقدر معدل الأجر الشهري الصافي لموظفي شركة التبغ بـ1200 دولار (3700 دينار)، أي ما يوازي راتب كاتب دولة (منصب حكومي بمثابة وزير بلا حقيبة) البالغ 3800 دينار، أي عشرة أضعاف الحد الأدنى للأجر المضمون (390 دينارا ). كما شهدت الشركات العامة خلال السنوات العشر المنصرمة تضخما في عدد العمال، في مقابل تراجع حاد في المردود الاقتصادي والمالي.

ففي غضون عامين فقط ارتفعت نفقات الدعم التشغيلي للشركات العامة من 800 مليون دولار (2.5  مليار دينار) عام 2010 الى قرابة ملياري دولار (6 مليارات دينار) عام 2012 وذلك نتيجة انخفاض الانتاج وتفاقم التكاليف وارتفاع فاتورة الاجور.

على سبيل المثل، تضاعف عدد العمال في شركة "فوسفات قفصة" 4 مرات في 12 عاما، إذ كانت تشغل 4890 عاملا سنة 2010 ليقفز العدد الى 21000 عامل عام 2022.من المهم الاشارة الى ان شركة "فوسفات قفصة"، التي تأسست عام 1905، تعد نموذجا مرجعيا لقراءة واقع الشركات العامة خصوصا الكبرى منها. ففي عام 1985 كانت "فوسفات قفصة" أول شركة يشملها برنامج التعديل الهيكلي في رعاية صندوق النقد الدولي، ونجم عن تطبيق هذا البرنامج تسريح 5000 عامل مع تجميد التوظيف.

لا شك انه كانت للبرنامج تداعيات اجتماعية موجعة حوّلت منطقة "الحوض المنجمي" الى بؤرة توتر اجتماعي، لكن لا أحد ينفي ان الشركة عرفت منذ ذلك التاريخ عصرها الذهبي. يكفي التذكير بأنها احتلت الصدارة عالميا على مدى عقدين، ما قبل الثورة (2011)، محققة ايرادات مهمة من العملات الأجنبية وكانت بمثابة "الدجاجة التي تبيض ذهبا" على قول أحد مسؤوليها السابقين الكبار.

الحل لإصلاح الشركات العامة هو البحث عن "ايلون ماسك تونسي" يجمع بين العبقرية والجرأة والجنون ويكون بلا أي طموح سياسي 

"جواهر الدولة" بسعر "فطيرة"

ويعكس ارتفاع تكلفة التأجير وتضخم عدد العمال، سوء الحوكمة وتغوّل النقابات. في عام 2014 صدر أول تقرير رسمي منذ عام 2007 حول وضع الشركات والمنشآت العامة. لم يكن التقرير يبتعد عن كونه تلخيصا لمحطات رحلة السقوط السريع للشركات العامة وفي مقدمها ما كان يسمى بـ"جواهر الدولة" على غرار التونسية للكهرباء والغاز، شركة الخطوط الجوية، شركة نقل تونس وشركة الفولاذ والشركة التونسية للبنك والمجمع الكيميائي "فوسفات قفصة" وشركة التبغ.  

تحولت هذه الشركات من شركات مربحة الى شركات مفلسة، بلا قيمة سوقية، مع تدحرج أسعار أسهمها في البورصة بشكل لافت. من ذلك انهيار سهم شركة الطيران "الخطوط التونسية" من7.7 دولارات عام 2010 الى اقل من سنت واحد (600 مليم) حاليا او سعر "فطيرة"وفق تعليق ساخر لأحد خبراء الاقتصاد.

خلص تقرير صادر عن البنك الدولي الى ان الشركات التونسية اصبحت تدور في حلقة مفرغة بسبب غياب الكفاءة وتردي منظومة الحوكمة وانعدام آليات الرقابة والمساءلة. لم تطبّق تونس، مقارنة بالمغرب، أي سياسات اصلاح للشركات العامة منذ تسعينات القرن الماضي. فقد حافظت على تشريعات يعود بعضها الى أكثر من نصف قرن، حتى أن التنقيحات الاخيرة التي صادق عليها مجلس الوزراء منذ اشهر في ما يعرف بـ"قانون 89" (القانون المنظم للشركات العامة) ظلت مركونة في مكتب رئيس الجمهورية (يتطلب نشرها في الجريدة الرسمية ختم الرئيس).

EPA
رئيس مجلس الوزراء التونسي أحمد حشاني (في الوسط) يتحدث خلال جلسة برلمانية لتقديم موازنة 2024 في مجلس النواب في تونس، 17 نوفمبر 2023.

وترتكز التنقيحات المسماة ايضا بمشروع تغيير القانون المنظم للشركات العامة، على تغيير صيغة كل الشركات العامة وتحويلها الى شركات خفية الاسم بما يسهل فتح رأس مالها للشركاء الخواص سواء أكانوا محليين أم أجانب.

نشرت وزارة المالية تقريرا عن وضعيات الشركات العامة، قبل المصادقة على التعديلات التي تشكل خطوة كبرى نحو اطلاق برنامج الخصخصة، ووصف الخبير الاقتصادي معز الجودي هذا التقرير بالصادم من حيث حجم الخسائر التي كبدتها هذه الشركات للدولة.

تقدّر قيمة الدعم السنوي من الدولة للشركات العامة بـ 2.6 مليار دولار (8 مليارات دينار) وتناهز خسائرها السنوية 3 مليارات دولار (9 مليارات دينار). يذكر أن حجم ديونها تجاه الدولة والبنوك والصناديق الاجتماعية والمزودين بلغ 10 مليارات دولار (30 مليار دينار) .

البحث عن "ايلون ماسك تونسي"

وقال احد رجال الاعمال خلال جلسة نقاش صاخبة حول واقع القطاع العام، في سياق ردود الفعل إزاء هذه الحصيلة المفزعة، ان الحل لإصلاح الشركات العامة هو البحث عن "ايلون ماسك تونسي" يجمع بين العبقرية والجرأة والجنون ويكون بلا أي طموح سياسيبما يجعله، وفق المتحدث، قادرا على قيادة عملية إنقاذ أشبه بالمهمة المستحيلة. كما دعا رئيس منظمة ارباب الاعمال سمير ماجول الى تخصيص الشركات العامة.

لا يُنظر بالتأكيد الى دعوات ارباب الاعمال بجدية ولا بإيجابية. فهم في نظر طيف واسع، قنّاصون ماهرون للفرص واكبر المستفيدين من فلسفة الاصلاح التي تقوم، وفق منظور المانحين الدوليين، على انهاء وظيفة "الدولة المساهمة" او الراعية في اتجاه اقرار سياسات ليبيرالية ترتكز على الحد من تدخّل الدولة لصالح آليات السوق وتحرير المبادرة الخاصة بفتح رأس مال الشركات العامة لشركاء استراتيجيين وإحداث هيئة حكومية لإدارتها تتكفل مراجعة طرق التصرف وتغيير مناهج ابرام الصفقات وادخال مزيد من المرونة على عمل مجالس اداراتها.

REUTERS

تتضافر لرئيس الجمهورية، عكس سابقيه، كل الظروف المناسبة لإطلاق عملية الخصخصة. من المهم التذكير بفشل تنفيذ اهم مشروعَي خصخصة في تاريخ تونس؛ الاول اوقفته الثورة وكان سينتهي في تخصيص 10 شركات عامة هي شركة الفولاذ وشركة توزيع البترول وشركة الملاحة وشركة صناعة السكر و3 بنوك عامة وشركة التبغ وشركة الصناعات المطاطية وشركة الخطوط التونسية. والثاني عام 2016 واستهدف خمسا من كبرى الشركات العامة، هي شركة الكهرباء والغاز وشركة صناعة التكرير وديوان الحبوب والخطوط التونسية وشركة التبغ. سقط البرنامج الاول مع دخول البلاد مرحلة سياسية جديدة رُفعت فيها شعارات "العدالة الاجتماعية والحد من البطالة" فتحولت الشركات العامة الى مكاتب تشغيل. اما البرنامج الثاني فمثّل اهم تجليات استئناف التعاون مع مؤسسات "بريتون وودز".

تاريخيا وُضعت الخصخصة كحل لا مفر منه خلال فترة الانهيار الاقتصادي إبان آخر سنوات حكم الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة. وكانت ضمن خيارات قاسية فرضها الاتفاق مع صندوق النقد، الذي انطلق عام 1984 وطبّق فعليا على مراحل منذ 1986 حتى بداية التسعينات. بعدها اطلقت منظومة حكم الرئيس الراحل زين العابدين بن علي العنان للتخصيص بنسق تصاعدي وبلا انقطاع في الشركات العامة.

لم يقدم الرئيس سعيد تصورا متكاملا لإصلاح الشركات العامة مكتفيا بالتشديد على ان الانقاذ سيتم على قاعدة محاربة الفساد

وتؤكد دراسة للمنتدى التونسي للحقوق الاجتماعية والاقتصادية (منظمة غير حكومية) تعد الأهم حول مسار الخصخصة، انه تم التخصيص في 81 مؤسسة خلال الفترة الممتدة من 2002 الى 2017 (9 سنوات حكم بن علي و6 سنوات فترة حكم هيمنت عليها "حركة النهضة"). وصفت الدراسة تلك الحقبة بالاكثر تفريطا بالشركات العامة الناشطة في المصارف والتأمين والاتصالات ونيابات توريد السيارات ونشاطات صناعية اخرى مثل مواد البناء والصناعات الميكانيكية والكهربائية.

الطريق سالكة أمام الرئيس للتخصيص

أمام الرئيس قيس سعيد طريق سالكة لإقرار الخصخصة لثلاثة أسباب رئيسة: أولا، غياب سلطة مضادة كان يمثلها اتحاد الشغل بعدما فقد ثقله وتحوّل الى ما يشبه الظاهرة الصوتية. ثانيا، لعوامل موضوعية في مقدمها الانهيار الشامل لكل الشركات العامة والخسائر التي تُكبدها سنويا للدولة. ثالثا، تعثّر تعبئة الموارد عبر الاستدانة من الخارج في غياب اتفاق مع صندوق النقد.

من الممكن مثلا ان يوفر بيع شركة التبغ ملياري دولار (ما يساوي قرض صندوق النقد). وقال مصدر رفيع المستوى لـ"المجلة" إن هناك ثلاثة عروض لشراء مصنع التبغ: عرض كوري وعرض ياباني وعرض جزائري. 

لم يقدم الرئيس سعيد تصورا متكاملا لإصلاح الشركات العامة مكتفيا بالتشديد على ان الانقاذ سيتم على قاعدة محاربة الفساد عبر اجراء تدقيق شامل في عمليات التوظيف منذ عام 2011 وما شابها من محسوبية وفساد. ويقدر الخبير الاقتصادي عز الدين سعيدان ان العدد قد يصل الى 120 الف عامل جرى توظيفهم بشهادات علمية زائفة بما كلّف الدولة خسائر بـ1.2 مليار دولار (4 مليارات دينار).

يقول الرئيس سعيد ان عنوان انقاذ الشركات العامة هو الحفاظ على الدور الاجتماعي للدولة، وهذا يطرح أكثر من سؤال اذا اعتبرنا مثلا ان قانون المالية لعام 2023 أقر، للمرة الأولى في تاريخ البلاد، خفضا قياسيا في نفقات الدعم بـما يقارب 30 في المئة، وسيواصل قانون المالية لسنة 2024 الخفض في الدعم مع وقف التوظيف في القطاع العام.

font change

مقالات ذات صلة